619- أخذت القوى العربية المشركة تتخاذل شيئا فشيئا، وبعد أن فتحت أم القرى، وتلاقت فيها القلوب على مودة ورحمة، وعادت الأخوة بين ذوى الأرحام، لم يبق من أهل القوة من العرب إلا هوازن وثقيف بالطائف، وكانوا ذوى بأس شديد فى البلاد العربية.
ولقد قال الصديق وهو ينطق بالحكمة: «لن نغلب بعد اليوم من قلة» وقد صدق فى ذلك، فإنهم قد صاروا كثيرا وقد توافر العدد، وتوافرت العدة، ولكن تكون الهزيمة من غرور أو ضعف فى النفوس، أو عدم التنظيم الجامع. وقد صدقه ربه فى ذلك. فقال تعالى:
لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَواطِنَ كَثِيرَةٍ، وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئاً وَضاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ، ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ. ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلى رَسُولِهِ، وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنْزَلَ جُنُوداً لَمْ تَرَوْها، وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا، وَذلِكَ جَزاءُ الْكافِرِينَ. ثُمَّ يَتُوبُ اللَّهُ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ عَلى مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (التوبة: 24- 27) .
وإن الجيش الإسلامى كان اثنى عشر ألفا، وذهب إلى هوازن، والتقى بهم فى أوطاس فى العاشر من شوال من السنة الثامنة من الهجرة.
ونحب هنا أن نشير إلى جيش الإسلام فى هذه الموقعة، أهو جيش المؤمنين، أم كان فيه من دخل الإسلام، ولم يدخل الإيمان فى قلبه، كما قال تعالى: قالَتِ الْأَعْرابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنا، وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمانُ فِي قُلُوبِكُمْ (الحجرات- 14) .
كذلك كان الجيش فيه الطلقاء، الذين قال لهم النبى صلى الله تعالى عليه وسلم «اذهبوا فأنتم الطلقاء» ، وفيه ضعاف الإيمان الذين كانت تحدثهم نفوسهم بأن ينقلبوا على النبى صلى الله تعالى عليه وسلم، كما قال أبو سفيان فقال له النبى صلى الله تعالى عليه وسلم «إذن ليخزينك الله» وفيهم من هم باغتيال النبى صلى الله تعالى عليه وسلم، وكشف الله تعالى سره، وفيهم والمعركة دائرة بين الجيشين فى حنين من هم بأن يقتل النبى صلى الله تعالى عليه وسلم.
وفيه كثيرون من الأعراب الذين أسلموا ولم يؤمنوا، فكان جيش الإسلام ولم يكن جيش الإيمان، ألم تر أن النبى صلى الله تعالى عليه وسلم قد أعطى من غنائم حنين طائفة من كبار قريش أموالا كثيرة، ليتألف قلوبهم كأبى سفيان بن حرب، وابنه معاوية، وإن التأليف إلى الإسلام دليل على ضعف الإيمان، لأنه يتألف قلوبا للإيمان.
وإن الهزيمة لم تكن من أهل الإيمان الأولين الذين بايعوا رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم يوم الحديبية، بل نادى النبى صلى الله تعالى عليه وسلم والمعركة عنيفة بينه وبين هوازن المهاجرين والأنصار، فجاء منهم مائة حولوا الهزيمة إلى نصر، ولم يثبت مع النبى صلى الله تعالى عليه وسلم إلا عشرة هم أبو بكر الصديق وعمر الفاروق وعلى بن أبى طالب، والعباس الذى أسلم عقب بدر، وأبو سفيان بن الحارث ابن عم النبى صلى الله تعالى عليه وسلم، والفضل بن العباس، وجعفر بن الحارث، وربيعة بن الحارث، وأسامة بن زيد، وأيمن بن أم أيمن. فأين خالد وعمرو بن العاص؟.
والآية صريحة فى أن الله ألقى السكينة والثبات على النبى صلى الله تعالى عليه وسلم والمؤمنين، فهم الذين ثبتوا بعد أن اضطربت الصفوف بين الذين لم تكن لهم خبرة بلقاء أهل الإيمان وأهله، ولقد دعا رسول الله المؤمنين من المهاجرين والأنصار، فلبوا النداء. وسارع منهم مائة، فقلبوا الهزيمة لقاء، ثم نصرا بتأييد الله تعالى.
,
620- قلنا أنه لم يكن من بين القوى العربية فى البلاد من له قوة وشوكة بعد مكة المكرمة وقريش إلا هوازن فاعتزم أن يعمل لإسلامهم، بينما هوازن يفكرون فى حرب النبى صلى الله تعالى عليه وسلم اتقاء لأنفسهم، ومنعا من دخول الإسلام إليهم، أو هجوم النبى صلى الله تعالى عليه وسلم عليهم، وما كان النبى صلى الله تعالى عليه وسلم يهاجم الآمنين ولكن يرد كيد من يدبرون له حربا، أو يريدون كيدا.
ولقد جاء مالك بن عوف النضرى، فجمع الجموع. فاجتمع إليه من هوازن ثقيف كلها، واجتمع نضر وجشم كلها وعدد قليل من قيس بن عيلان.
وكان فى جشم شيخ له تجربة ودراية فى الحروب، وإن لم تكن له قوة على المنازلة لشيخوخته وهو دريد بن الصمة، ولما أراد النفير مالك بن عوف، أخذ مع الجيش النساء والمال ليستثير حميتهم بنسائهم وأموالهم فيندفعوا مقاتلين ليحموا نساءهم وأموالهم وذراريهم.
وقد ساروا بدريد بن الصمة فى شبه هودج، فسمع أصوات الأموال من النوق والحمير والنساء والصبيان، فقال: مالى أسمع رغاء البعير ونهاق الحمير، وبكاء الصغير، وثغاء الشاة؟ قالوا: ساق مالك ابن عوف مع الناس أموالهم ونساءهم وأبناءهم، فقال: أين مالك؟ فجيء به إليه فقال له:
يا مالك إنك قد أصبحت رئيس قومك، وإن هذا يوم كائن له ما بعده من الأيام، مالى أسمع رغاء البعير، ونهاق الحمير، وبكاء الصغير، وثغاء الشاة؟ قال: سقت مع الناس أموالهم وأبناءهم ونساءهم.
قال ولم ذلك؟ قال أردت أن أجعل خلف كل رجل منهم أهله وماله ليقاتل عنهم. فانقض به (أى زجره) وقال: راعى ضأن. أى لست بمقاتل. وهل يرد المنهزم شيء، إنها إن كانت لك، لم ينفعك إلا رجل بسيفه ورمحه، وإن كانت عليك فضحت فى أهلك ومالك.
ولكنه لم يطعه مالك بن عوف ولكن هوازن أطاعوه «1» .
وقد ترامى إلى سمع الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم همس بما دبروا، فأرسل إليه من يأتيه بجملة أمرهم وأمره أن يدخل فى الناس ليعرف حالهم ويأتيه بأخبارهم، فأقام فيهم، حتى سمع ما أجمعوا عليه من حرب رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، وسمع من مالك بن عوف وهوازن فجاء وأخبر الرسول.
فأخذ الرسول الكريم المدافع عن الحق يستعد لهم ويلقاهم. وذكر له أن عند صفوان بن أمية دروعا وسلاحا فأرسل إليه وهو يومئذ مشرك ولعله كان فى المدة التى جعل لنفسه الخيار فيها، بين البقاء على ما هو عليه والإسلام، فقال له: يا أبا أمية أعرنا سلاحك نلق به عدونا غدا، فقال صفوان: أغصبا يا محمد؟ قال عليه الصلاة والسلام: بل عارية مضمونة نردها إليك، قال: ليس بهذا من بأس، فأعطاه مائة درع بما يكفيها من سلاح.
__________
(1) كانت طاعة هوازن وقتية وعادت حين رفض مالك الطلب ونقلت كتب السير أنه قال: والله لا أفعل، إنك قد كبرت وكبر عقلك، والله لتطيعني هوازن أو لأتكأن علي هذا السيف حتي يخرج من ظهري. وكره أن يكون لدريد فيها ذكر أو رأي. فقالوا: أطعناك، فقال دريد: هذا يوم لم أشهده ولم يفتني. المراجع.
خرج رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم معه اثنا عشر ألفا، منهم عشرة آلاف دخل بهم، وهو جيشه الأول، ولم يكن كله من المهاجرين والأنصار، وألفان من أهل مكة المكرمة الذين أسلموا بعد الفتح، أو لم يظهر إسلامهم إلا فى الفتح، وفيهم أبو سفيان بن حرب، وأمثاله. وخلف فى مكة المكرمة عتاب بن أسيد من بنى عبد شمس، ثم مضى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم على وجهه نحو هوازن، أو حنين أو أوطاس، وكلها أسماء لهذه المعركة.
ولا شك أن الجيش كان فيه ألفان قريبا عهد بالجاهلية، كما أشرنا من قبل، ولقد روى ابن إسحاق بسنده عن الحارث بن مالك، أن الحارث هذا قال: خرجنا مع رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم إلى حنين ونحن حديثو عهد بالجاهلية.
ولقد رأى الجيش شجرة عظيمة خضراء يقال لها ذات أنواط كانت قريش ومن حولهم يقدسونها ويأتون كل سنة يذبحون عندها تقديسا لها.
فراعهم منظرها، ورأوها سدرة عظيمة. ويقول الحارث بن مالك: تنادينا من جنبات الطريق: يا رسول الله اجعل لنا ذات أنواط (أى شجرة عظيمة نقدسها، وننحر عندها) .
قال لهم رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: الله أكبر قلتم والذى نفس محمد بيده كما قال قوم موسى اجعل لنا إلها كما لهم آلهة؛ قال إنكم قوم تجهلون. إنها السنن لتركبن سنن من كان قبلكم.
كان من الألفين اللذين ضمهما النبى صلى الله تعالى عليه وسلم إلى الجيش الذى غزا به مكة المكرمة، من فيهم هذه العقلية وكلهم أو جلهم حديث عهد بالجاهلية لما يدخل الإيمان فى قلوبهم.
,
621- تقدم جيش الإسلام إلى وادى حنين، وكان ذا أودية وطرق مختلفة، فتقدم المسلمون فى واد من أودية تهامة، وانحدر فيه انحدارا حتى أو غلوا فى باطن الوادى، وكان جيش هوازن قد سبقهم إلى الوادى وادى حنين، وكمنوا فى شعابه، وأحنائه ومضايقه.
وكانوا محميين مهيئين، وكان فى المتقدمين من جيش المسلمين على رأس بنى سليم خالد ابن الوليد، وما أن تقدم المسلمون وسط هذا الكمين المتعدد النواحى، وهم فى عماية الصبح، وهو الظلام الذى يسبقه!.
وفى هذه الحال راع جيش المسلمين انقضاض هوازن عليهم كتائب قد تعددت، فشدوا شدة رجل واحد، فكانت المفاجأة مروعة عنيفة، وانتثر الناس راجعين لا يلوى أحد على أحد.
وقد انحاز رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ذات اليمين، ثم قال: أيها الناس هلم إلى أنا رسول الله محمد بن عبد الله.
ولكن الناس يفرون، وحمل بعضهم على بعض، وكان الفرار من غير المؤمنين الأولين قد أفسد نظام الجيش واضطرب الأمر، واختلط الحابل بالنابل.
ولقد ثبت مع النبى صلى الله تعالى عليه وسلم أبو بكر وعمر، وثمانية من بنى هاشم صدقوا وآمنوا، وعلى رأسهم على بن أبى طالب، والعباس بن عبد المطلب، ولا نعد ثبات على للقرابة، بل لأن الثبات من شيمته أولا إذ هو فارس الإسلام كما قال النبى صلى الله عليه وسلم، ولإيمانه ثانيا، وقد يكون لقرابته ثالثا، فهى فى المرتبة الأخيرة من الأسباب.
وأما السبعة الباقون فإنا قد نقول للرحم دخل فيها، ولكن لا نحرمهم من الإيمان، خصوصا العباس فقد آمن بمحمد صلى الله تعالى عليه وسلم فى أعقاب بدر وخرج مكرها فى بدر، فرضى الله تعالى عنه، وفى الوقت الذى كانت فيه الكفة راجحة لهوازن، وقبل أن يلبى نداء رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم المهاجرون الأولون والأنصار جرت أمور تدل على سبب الهزيمة.
أولها: وحدتهم فى الفكرة، وإن كانوا على ضلال، فالوحدة مع الشرك تثمر فى الحرب أكثر من العقيدة السليمة عند تفرق الأهواء والمنازع، ووجود ضعاف الإيمان مع أقويائه.
لقد كان فيهم رجل على جمل أحمر معه رمح طويل، فإن وجد هدفا لرمحه ضرب، وإن لم يجد هدفا رفع رمحه أمام جيش هوازن، والناس من خلفه يتبعونه.
ثانيها: أن التردد وروح الهزيمة ظهر من رجال من الألفين، فتكلم ناس من جفاة أهل مكة المكرمة. قال ابن إسحاق: لما انهزم الناس، ورأى من كان مع رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم من جفاة أهل مكة المكرمة الهزيمة تكلم رجال بما فى نفوسهم من الضغن، فقال أبو سفيان بن حرب:
«لا تنتهى هزيمتهم دون البحر» ، تلك أمانيه، وأخذ الطالع فى الأزلام رجاء أن تنبئه فى زعمه بأنها هزيمة ساحقة.
ولقد صرخ كلدة بن الحنبل، وهو مع صفوان بن أمية الذى كان لا يزال مشركا، إذ لم تمض المدة التى أخذ الخيار لنفسه فيها، صرخ كلدة هذا: ألا بطل السحر اليوم، فقال صفوان الذى لم يعلن بعد إسلامه لهذا الذى ظهر فى الجيش مسلما، وقال ما قال. قال صفوان: اسكت فض الله فاك، فوالله لأن يربنى رجل من قريش أحب إلى من أن يربنى رجل من هوازن.
ثالثها: أنه وجد من بين هذين الألفين من كان يحاول فى زحمة الاضطراب أن يغتال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، فلقد قال شيبة بن عثمان بن أبى طلحة أخو بنى عبد الدار قال ذلك الحاقد: اليوم أدرك ثأرى من محمد، وكان أبوه من حملة اللواء الذين قتلوا فى أحد «1» ، وهو غير عثمان بن طلحة الذى أسلم مع خالد، وأعطاه النبى صلى الله تعالى عليه وسلم مفتاح الكعبة الشريفة، ولم يعطه على بن أبى طالب مهلة، إذ طلبه.
622- هذه ظواهر بدت بعد الانهزام وهى تعلن سبب الانهزام، وهو أن الجيش الإسلامى الكبير كان فيه دعاة التردد والهزيمة من بين الألفين الذين كان الكثيرون منهم حديثى عهد بالجاهلية، ولما يدخل الإيمان قلوبهم.
ونعود إلى الانتصار بعد الهزيمة، لم يزلزل قلب المؤمن، والرسول عليه الصلاة والسلام لم تؤثر فيه هذه الحال، بل اشتد بأسه، وقال: لقد حمى الوطيس، وأخذ يدعو المهاجرين الأولين ليعلموا مكانه، ويقول: مناديا لهم، أين أيها الناس، ثم قال: يا عباس اصرخ، وكان جهير الصوت: يا معشر أصحاب الشجرة، يا معشر أنصار الله وأنصار رسوله، يا معشر الخزرج، فأجابوه لبيك لبيك، فكان الرجل يذهب ليعطف بعيره، فلا يقدر على ذلك، فيقذف درعه فى عنقه ثم يأخذ سيفه وترسه، ويؤم الصوت، حتى اجتمع عند رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم نحو مائة ولكنهم بقية من بقايا بدر، وكما قال على بطل بدر وأحد، والخندق: بقية السيف أبقى عددا وأكثر ولدا، والنبى صلى الله تعالى عليه وسلم راكب بغلته، وأخذ بزمامها العباس وهو يقول ومعه هذا الجمع المؤمن:
أنا النبى لا كذب أنا ابن عبد المطلب اللهم أنزل نصرك
ثم تجمعت الجموع المؤمنة حول النبى صلى الله تعالى عليه وسلم، وهو يقول: الآن حمى الوطيس، عادت الجولة لجيش المؤمنين بعد أن مازت الهزيمة الخبيث من الطيب.
رأى على كرم الله وجهه الرجل الذى يحمل الرمح الطويل الذى يضرب به الهدف، إن وجده، ووراءه جيش هوازن، رأى على الرجل، وهوى إليه مع أنصارى، فضرب على عرقوبى الجمل فوقع على عجزه، ووثب الأنصارى على الرجل وضربه ضربة أطن بها قدمه.
وإذا كان كما يبدو الرجل حامل لوائهم فهذا لواؤهم قد سقط.
__________
(1) لكن هذا الرجل حسن إسلامه وأحب رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ وجد أنه ممنوع- ولقد أخرج البيهقي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ضرب يده في صدر شيبة ثم قال: - اللهم اهد شيبة ثلاثا.. فيقول شيبة: فوالله ما رفع يده عن صدري في الثالثة حتي ما كان أحد من خلق الله أحب إلى منه..
والنبى صلى الله تعالى عليه وسلم يحث المؤمنين على القتال، ويقول: من قتل قتيلا فله سلبه، وقد قتل بعض المؤمنين عشرين قتيلا من هوازن، فكانت له أسلابهم.
وكان يتناول زمام بغلة رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم العباس عمه، وأبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب، وكان ممن صبر فى تلك المعركة.
وكان فى المقاتلين فى جيش النبى صلى الله تعالى عليه وسلم نساء مؤمنات، ومنهن أم سليم، وكانت حازمة وسطها ببرد لها وهى حامل، وكانت راكبة جملا، فكانت تخشى أن ينفر، فكانت تأخذ حزامها مع خطامه.
وكانت ترى أن الذين انهزموا كانوا من دعاة التردد والهزيمة، رآها رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، فقال لها أم سليم، فقالت نعم بأبى أنت وأمى يا رسول الله، اقتل هؤلاء الذين ينهزمون عنك، كما تقتل الذين يقاتلونك، فإنهم لذلك أهل، فقال لها رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، أو يكفى الله تعالى يا أم سليم، وكان معها خنجر، فقال لها زوجها ما هذا الخنجر الذى معك يا أم سليم؟
قالت خنجر أخذته إن دنا منى أحد من المشركين بعجته، فقال زوجها ألا تسمع يا رسول الله ما تقول أم سليم!!.
تحارب الناس، واجتلدوا، وكانت هوازن رماة، ولكن رمى الله بالمؤمنين فى أوساطهم وهم يسلبون القتلى، ويكتفون الأسارى.
يروى ابن إسحاق عن جابر بن عبد الله أنه قال: والله ما رجعت راجعة، حتى وجدوا الأسارى مكتفين عند رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم.
,
623- انتهت المعركة بالهزيمة الساحقة فى حنين، بأن لجأ المنهزمون إلى أوطاس، وذلك بعد أن دعا رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وجمع المؤمنين حوله، وكان دعاؤه هكذا: «اللهم إنى أنشدك ما وعدتنى، اللهم لا ينبغى لهم أن يظهروا علينا» ، ونادى أصحابه «يا أصحاب البيعة، يا أصحاب الحديبية: الله، الله، الكرة على نبيكم، يا أنصار الله، وأنصار رسوله، يا بنى الخزرج يا أصحاب سورة البقرة» وأمر من ينادى بذلك، وقبض قبضة من الحصباء فحصب بها وجوه المشركين، وقال:
شاهت الوجوه، فهزم الله أعداءه، وأعداء الحق من كل من حصبهم فيها، واتبعهم المؤمنون يقتلونهم، وغنمهم الله تعالى أموالهم ونساءهم، وذراريهم.
وفر فى هذه الهزيمة كبيرهم وقائدهم الذى كان يحثهم على أن يضربوا ضربة رجل واحد، وهو مالك بن عوف، فروا فرارا حتى دخلوا حصن الطائف. وفريق آخر منهم فروا إلى أوطاس، فأرسل النبى صلى الله تعالى عليه وسلم سرية لهم، سنذكر أمرها إن شاء الله.
وأخذ الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم وأصحابه يجمعون الغنائم من السبايا والأموال، وغيرها مما أفاء الله تعالى به عليهم. ولقد حدث ابن إسحاق بسنده أن النبى صلى الله تعالى عليه وسلم، وهو يبحث بقايا المعركة من غنائم، وآثار انهزام، رأى امرأة مقتولة، قالوا إن خالد بن الوليد قتلها، ويظهر أنها ممن كن خلف المقاتلين، ليدفعوهم للقتال، كما دبر مالك بن عوف، وحذره منه دريد بن الصمة لما رأى النبى صلى الله تعالى عليه وسلم ذلك قال مستنكرا: ما كانت هذه لتقاتل. وقال لبعض من حوله: الحق خالدا فقل له لا تقتلن ذرية وعسيفا.
ولم يذكر خالد فى هذه المعركة إلا فى هذا الموضع منها. ورضى الله عن عمر إذ قال عندما عزله عن قيادة الجيش فى الشام: «إن فى سيف خالد لرهقا» .
,
625- جمع النبى صلى الله تعالى عليه وسلم غنائم هوازن، وأرسلها إلى الجعرانة حتى يتتبع فلولها ثم ضم إليها ما غنمه من أوطاس من أموال وسبايا، وكان مجموع ذلك كثيرا، لأن هوازن برأى مالك بن عوف قربت السبايا والأموال من موطن الجهاد، فكان مؤدى هزيمته.
أمر رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم بالسبى والغنائم أن تجمع، فجمع ذلك كله، ووجه إلى الجعرانة، وكان السبى ستة آلاف رأس ما بين نساء وذرية، وعدد الإبل أربعة وعشرون ألفا، وعدد الغنم أكثر من أربعين ألف شاة وأربعة آلاف أوقية من الفضة.
وهذا على أن أكثر معاملتهم النقدية كانت بالفضة، ولم يكن استعمالهم للدينار الرومانى كثيرا.
ولم يوزع هذه الغنائم بين الفاتحين بمجرد انهزامهم، وجمعها، بل استأنى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم رجاء أن يأتوا مسلمين، ولو بظاهر من القول، تقريبا للنفوس، فما كان محمد صلى الله تعالى عليه وسلم إلا هاديا يدعو إلى الإسلام، وخصوصا أن ما أخذ منهم إن لم يكن كل أموالهم، فهو أكثرها.
ولكن مضى بضع عشرة ليلة، ولم يجيء أحد.
فقسمها بين الفاتحين، وصرف منها للمؤلفة قلوبهم، فأعطى أبا سفيان بن حرب تأليفا لقلبه، وليدخله الإيمان أربعين أوقية من فضة، ومائة من الإبل، ولكنه لم يكتف بما أخذ بل طلب لابنه يزيد، فقال: ابنى يزيد، فقال النبى صلى الله تعالى عليه وسلم: أعطوه أربعين أوقية، ومائة من الإبل، ولكنه الطمع، فقال ابنى معاوية فقال النبى صلى الله تعالى عليه وسلم: أعطوه أربعين أوقية ومائة من الإبل، فمعاوية كان من المؤلفة قلوبهم ليدخلها الإيمان فليذكر ذلك من يضعونه أمام على أو يناصرونه.
وأعطى حكيم بن حزام مائة من الإبل، ثم سأله مائة أخرى فأعطاه، وأعطى النضر بن الحارث ابن كلدة، وأعطى العلاء بن حارثة الثقفى خمسين وأعطى العباس بن مرداس أربعين، فقال فى ذلك شعرا، فكمل له مائة.
واختص من بعد ذلك زيد بن ثابت بإحضار الغنائم والناس، ثم فرقها على الناس، فكانت سهامهم لكل رجل أربعا من الإبل وأربعين شاة، فإن كان فارسا أخذ اثنى عشر بعيرا، وعشرين ومائة شاة، وإنه مما يلاحظ أن المؤلفة قلوبهم الذين كانوا فى المعركة نظارة ينظرون، أخذوا أكثر نسبيا من المجاهدين، فبينما كان نصيب المجاهد فى الغنيمة التى استولى عليها بسيفه أربع نوق كان نصيب أبى سفيان المترقب مائة له ولكل واحد من أولاده مائة وله أربعون أوقية، ولكل واحد مثلها.
ولكن المؤمنين الصادقين فى إيمانهم ما كانوا ليعترضوا على رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، فهو الهادى وهو المرشد، وهو الداعى إلى الحق، والمؤلف للقلوب التى تتجه إليه، ولكيلا تنحرف عنه، وأولئك الذين ألفت قلوبهم ماديون، تجذبهم المادة أكثر مما يجذبهم الحق المجرد.
ولا يصح أن يفهم أحد أن ذلك شراء للإيمان، فإن الإيمان لا يشرى بالمال، ولكن يشترى بالإذعان للحق، ولكن أولئك أخذت منهم رياسة، وأخذ منهم سلطان، وهم كما عرف من ماضيهم لا يذعنون للحق المجرد، ولا للدليل، وفى دخولهم للإسلام، لا بد من تأليف قلوبهم للإسلام، وما يكتسبه الإيمان بدخول الإيمان قلوبهم أكثر ما نخسر من مال، ولقد قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم لإمام الهدى على بن أبى طالب «لأن يهدى الله تعالى بك رجلا واحدا، خير لك من حمر النعم» .
ويجب التنبيه هنا إلى أن كثيرين من أهل مكة المكرمة الذين يترددون فى الدخول فى الإسلام دخلوا فيه أفواجا أفواجا لما رأوا النصر المبين، والتأييد البين من الله سبحانه وتعالى.
,
626- روى ابن إسحاق بسنده عن أبى سعيد الخدرى قال: لما أعطى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ما أعطى من العطايا الكبار فى قريش، وفى قبائل العرب، ولم يكن فى الأنصار منها شيء، وجد هذا الحى من الأنصار فى أنفسهم، حتى قال قائلهم، لقى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم قومه، فدخل عليه سعد بن عبادة فقال: يا رسول الله، إن هذا الحى من الأنصار قد وجدوا عليك فى أنفسهم، لما صنعت فى هذا الذى أصبت، قسمت فى قومك وأعطيت عطايا عظيمة فى قبائل العرب، ولم يكن فى هذا الحى من الأنصار منها شيء. قال النبى صلى الله تعالى عليه وسلم:
فأين أنت من ذلك يا سعد. قال: يا رسول الله ما أنا إلا من قومى. قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، فاجمع لى قومك فى هذه الحظيرة.
فجاء رجال من المهاجرين فتركهم فدخلوا، وجاء آخرون فردوا، فلما اجتمعوا أتى سعد فقال قد اجتمع لك هذا الحى من الأنصار.
فأتاهم رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، ووقف فيهم خطيبا، فحمد الله تعالى، وأثنى عليه بما هو أهله ثم قال: «يا معشر الأنصار، ما قالة بلغتنى، وموجدة وجدتموها فى أنفسكم، ألم آتكم ضلالا، فهداكم الله بى. وعالة فأغناكم الله بى، وأعداء فألف بين قلوبكم!! قالوا: لله ورسوله المن والفضل، ثم قال صلى الله تعالى عليه وسلم: ألا تجيبونى معشر الأنصار، قالوا: بماذا نجيبك يا رسول الله فقال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: أما والله لو قلتم، لصدقتم ولصدقتم، أتيتنا مكذبا فصدقناك، ومخذولا فنصرناك، وطريدا فاويناك، وعائلا فواسيناك، أوجدتم يا معشر الأنصار فى أنفسكم من لعاعة من الدنيا، تألفت بها قوما ليسلموا، ووكلتكم إلى إسلامكم، ألا ترضون يا معشر الأنصار أن يذهب الناس بالشاة والبعير، وترجعوا برسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم إلى رحالكم، فوالذى نفس محمد بيده لما تنقلبون به خير مما ينقلبون، ولولا الهجرة لكنت امرأ من الأنصار، ولو سلك الناس شعبا وواديا، وسلك الأنصار شعبا وواديا لسلكت شعب الأنصار وواديها، الأنصار شعار، والناس دثار لهم، اللهم ارحم الأنصار وأبناء الأنصار وأبناء أبناء الأنصار. قال أبو سعيد الخدرى: فبكوا حتى أخضلوا لحاهم. وقالوا: رضينا برسول الله قسما وحظا» .
وإن الموجدة التى وجدوها، ربما كان من أسبابها أنهم وجدوا أبا سفيان الذى قاتلوه أخذ العطايا العظيمة هو وابناه، وهم الذين قاتلوهم مجاهدين فى سبيل الله.
ولقد دعا النبى صلى الله تعالى عليه وسلم بالرحمة لأبناء الأنصار وأبناء أبناء الأنصار فحقت عليهم الرحمة والرضا من الله ورسوله صلى الله تعالى عليه وسلم. وكان من أبناء المؤلفة قلوبهم من سبوا نساء الأنصار وأبناء الأنصار فى واقعة الحرة، فلعنه الله تعالى، ولعن من مكنه.
,
627- مكث النبى صلى الله تعالى عليه وسلم بضع عشرة ليلة لا يوزع الغنائم، رجاء أن يسلموا، أو رجاء أن يطلبوها على عهد يتعهدونه، ورجاء محمد صلى الله تعالى عليه وسلم ليس رجاء محارب إنما هو رجاء هاد مرشد، يريد القلوب ولا يريد الحروب لذاتها.
ولما وزعها عليه الصلاة والسلام، جاء إليه صلى الله تعالى عليه وسلم وفد من هوازن من أربعة عشر رجلا، وعلى رأسهم عم رضاعى لرسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم.
جاؤا إليه صلى الله تعالى عليه وسلم، وقد فرغت أيديهم من أموالهم بسبب حمق مالك بن عوف، وعدم طاعته لصاحب الخبرة من قومه، ورأوا نساءهم سبايا.
جاؤا إلى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، وسألوه أن يمن عليهم بالسبى والأموال، أى يرد عليهم كل ما أخذ منهم. ويظهر أن النبى صلى الله تعالى عليه وسلم كان يميل إلى أن يرد السبايا، ولا يرد الأموال، فقال صلى الله تعالى عليه وسلم لهم: إن معى من ترون، وإن أحب الحديث إلى أصدقه، فأبناؤكم ونساؤكم أحب إليكم أم أموالكم، قالوا ما كنا نعدل بالأحساب شيئا.
فقال لهم رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: «إذا صليت الغداة، فقوموا فقولوا إنا نستشفع برسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم إلى المؤمنين، ونستشفع بالمؤمنين على رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم أن يرد سبينا» .
فلما صلى الغداة قاموا فقالوا ذلك.
فقال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: أما ما كان لى ولبنى عبد المطلب، فهو لكم، وسأسأل الناس.
فقال المهاجرون والأنصار، ما كان لنا فهو لرسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم. فقال الأقرع بن حابس: أما أنا وبنو تميم فلا.
وقال عيينة بن حصن: أما أنا وبنو فزارة فلا.
وقال العباس بن مرداس: أما أنا وبنو سليم فلا، فقالت بنو سليم: ما كان لنا فهو لرسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم. فقال العباس بن مرداس لقومه: وهنتمونى.
وهنا نجد الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم الحر الكريم المحب للحرية يبين أنه يريد تحرير السبى، فيقول صلى الله تعالى عليه وسلم «إن هؤلاء القوم، قد جاؤا مسلمين، وقد كنت استأنيت سبيهم، وقد خيرتهم، فلم يعدلوا بالأبناء والنساء شيئا، فمن كان منكم عنده منهن شيء فطابت نفسه، فبسبيل ذلك. ومن أحب أن يتمسك بحقه، فليرد عليهم، وله بكل فريضة ست فرائض من أول ما يفيء الله علينا»
فدى بذلك كل السبايا من مال المؤمنين، وقد طابت نفوس الناس بذلك وقالوا قد طيبنا رسول الله.
واتجه النبى صلى الله تعالى عليه وسلم من بعد ذلك إلى تعرف من رضى ومن لم يرض، وقال: ارجعوا حتى يرفع إلينا وفاؤكم أمركم، فتفرقوا، وردوا النساء والأبناء ولم يتخلف منهم أحد غير عيينة بن حصن، فإنه أبى أن يرد عجوزا صارت إليه من السبى، ثم ردها من بعد.
وإن النبى صلى الله تعالى عليه وسلم رد السبايا مكرمات، وكساهن كسوة كريمة، فكساهن من القباطى، وأعطى كل واحدة منهن قبطية، ولسان حاله يقول رحمة: مغلوبين مكرمين.
وقبل أن ننتهى من الكلام فى الغنائم ومالها، وهى غنائم هوازن نذكر حكمة الله تعالى فيها ورعايته لجيش الإسلام، وحمايته من الضياع.
ذلك أن فتح مكة المكرمة لم ينل فيه المسلمون شيئا من الغنائم، فما أفاء الله تعالى على رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم والمؤمنين بشيء منها تكريما لها، وحماية لأموالها، فجاؤا إليه غير فاتحين بل جاؤا طائفين ساعين بين الصفا والمروة، وإن لم يحرموا إحرام عمرة.
ولكنه جيش جرار، يضم عشرة آلاف جاؤا من المدينة المنورة إلى مكة المكرمة، فلا بد أن يحتاجوا ما يمون جيشا كبيرا، فهؤلاء قطعوا الفيافى والقفار، وليسوا على مقربة من ديارهم حتى ينالوا منها ما يحتاجون إليه.
فساقهم الله تعالى إلى هوازن، وساق هوازن إليهم، وقذف الله تعالى إلى قلب قائدها مالك بن عوف أن يخرج بمال هوازن جميعه ونسائهم ليقوى الجيش وتجرى فيه الحماسة دفاعا عنهم، فلم يغن عنهم من ذلك شىء، وساق الله تعالى بذلك سبيا كثيرا، ومالهم كله، فأخذ جيش الإسلام المال كله، ووزعه النبى صلى الله تعالى عليه وسلم بما أراه الله.
,
,
632- تكلمنا فى توزيع غنائم هوازن، ولعلها كانت أكبر غنائم غنمها من العرب، أو لعلها تماثل غنائم خيبر أو تقاربها، وفعلنا ذلك عقب هزيمة هوازن، ولكن لم نسر سيرا زمانيا، لأن النبى صلى الله تعالى عليه وسلم لم يوزعها إلا بعد الانتهاء من حرب الطائف، فلم ننتظر حتى يجيء الزمان الذى وزعها النبى صلى الله تعالى عليه وسلم فيه، بل ذكرنا توزيعها فور الانتهاء منها.
والآن نبين زمان التوزيع، وإن كان متأخرا عن الغزوة لرأى النبى صلى الله تعالى عليه وسلم.
وقد ذكرنا ما أعطاه النبى صلى الله تعالى عليه وسلم المؤلفة قلوبهم، ولم يكن فى المؤلفة قلوبهم أحد من بنى عبد المطلب قط، فلم يكن فيهم العباس، ولا أولاد الحارث بن عبد المطلب ولا غيرهم ممن ثبتوا مع النبى صلى الله تعالى عليه وسلم هم وأبو بكر وعمر ولم يثبت أحد غيرهم، ولم يجد أحد من المهاجرين فى نفسه شيئا، لأنهم يريدون عز الإسلام، ولا يريدون مالا ولا نسبا بل يريدون عزة الإسلام، فلم يجد فى نفسه أبو عبيدة، ولا عبد الرحمن بن عوف، ولا غير هؤلاء.
ولكن وجد الأنصار فى أنفسهم موجدة لا من أجل المال، ولكنهم حسبوا أن النبى صلى الله تعالى عليه وسلم، نسيهم بقومه إذ التقى بهم، فقد كان الأنصار الذين آووا ونصروا لا يريدون المال، ولكن يريدون الرسول عليه الصلاة والسلام ذاته، يريدونه هم والمهاجرون، يريدون بقاء محبته لهم.
هؤلاء الأنصار كانوا أطهارا حتى فى موجدتهم، ولكن وجد ناس ليسوا مهاجرين ولا أنصارا، وليست الدعوة الإسلامية فى حسابهم، ولا تأليف القلوب التى لا يدخلها الإيمان فى نفوسهم قد تكلموا فى هذا ناكرين مما يدل على أنهم لم يكونوا أنصارا بل كانوا منافقين، وعدهم القرآن الكريم منهم.
لقد أعطى النبى صلى الله تعالى عليه وسلم المؤلفة، فقام ذو الخويصرة من بنى تميم، فقال للنبى صلى الله عليه وسلم: يا محمد لقد رأيت ما صنعت فى هذا اليوم، فقال رسول الله صلى الله تعالى عليه
وسلم: فما رأيت؟ قال: لم أرك عدلت- فغضب النبى صلى الله عليه وسلم ولكنها غضبة الرفيق الحكيم، فقال: ويحك إذا لم يكن العدل عندى، فعند من يكون؟.
فقال عمر بن الخطاب: ألا نقتله؟ فقال الهادى الأمين صلى الله تعالى عليه وسلم: دعوه فإنه سيكون له شيعة، يتعسفون فى الدين حتى يخرجوا منه كما يخرج السهم من الرمية.
وإن قائل هذا القول لا يمكن أن يكون مؤمنا، كما يبدو من لحن قوله فهو يقول فى ندائه للنبى صلى الله تعالى عليه وسلم بقوله: يا محمد، ولم يقل يا رسول الله عليه الصلاة والسلام، وكذلك قال قوله واحد مثله، فقد رأى بلالا فى ثوبه مال يوزعه النبى صلى الله تعالى عليه وسلم فقال اعدل يا محمد فقال النبى صلى الله تعالى عليه وسلم «ويلك من يعدل إذا لم أكن أعدل، لقد خبت وخسرت إذا لم أكن أعدل» .
فقال عمر بن الخطاب: يا رسول الله، أفأقتل هذا الرجل؟
فقال الرسول الحكيم صلى الله تعالى عليه وسلم «معاذ الله أن يتحدث الناس أنى أقتل أصحابى، إن هذا وأصحابه يقرأون القرآن الكريم لا يتجاوز حناجرهم، يمرقون من الدين، كما يمرق السهم من الرمية» .
ولقد بلغه أن بعض الناس عندما أعطى رسول الله المؤلفة قلوبهم قال: هذه قسمة ما أريد بها وجه الله تعالى، فلما بلغ ذلك رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، قال: «رحم الله تعالى موسى، لقد أوذى بأكثر من ذلك» وهذه إشارة إلى قول الله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قالُوا، وَكانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهاً.
وأن هؤلاء أساس كلامهم، وإن كنت أحسب أنهم جميعا لم يدخل الإيمان قلوبهم، وهم من الأعراب الذين قال الله فيهم: الْأَعْرابُ أَشَدُّ كُفْراً وَنِفاقاً، وَأَجْدَرُ أَلَّا يَعْلَمُوا حُدُودَ ما أَنْزَلَ اللَّهُ (التوبة: 97) .
لقد فهموا خطأ طواعية لأهوائهم ومطامعهم، أن كل من حضر القتال له حق فيها يساوى غيره ممن حضروا، وظنوا أن هذه المساواة عادلة، وأخطأوا إذ أن المساواة قد تكون ظلما، فالمساواة بين العامل المجاهد، ومن وقف ينتظر النتيجة تكون لأى الفريقين تكون ظلما.
وفهموا خطأ أن الذين يحضرون الحرب فى الغنيمة لهم حقوق، وأن من يحول بينهم وبين ما زعموه حقا لهم يكون قد ظلمهم، وتلك أوهام قد أوجدتها المطالع، وهى باطلة، إن النبى صلى الله تعالى
عليه وسلم قد وضع الله تحت تصرفه خمس الغنيمة، والغنائم كلها تحت تصرف النبى صلى الله تعالى عليه وسلم، يقيم القسطاس والعدل والرحمة فيها، ألم تره عندما رأى الرحمة ونظام الإسلام أن ترد السبايا إلى أهلهن، وأن يطلق سراحهن نفذ ذلك، وقد صارت السبايا إلى من هى فى أيديهن، فنزعها منهم بحكمته، قدمها المؤمنون طوعا واختيارا واتباعا للنبى صلى الله تعالى عليه وسلم، ونفذها على بنى عبد المطلب، ولم يحاول أن يأخذ بغير رضا منهم ومن امتنع من المسلمين الذين لم يدخل الإيمان قلوبهم حملهم على رد السبايا وعوضهم.
فالغنائم كلها فى يده يتصرف فيها بما توجب النبوة والدعوة الإسلامية، والرحمة والعدل الإسلامى، لا طلب الأهواء الذى هو الظلم ذاته.
لقد وجد أن الدعوة الإسلامية توجب تأليف قلوب، لهم فى قومهم منزلة وليس لهم فى الإسلام جهاد ولم يدخل الإيمان قلوبهم، وقد أكلتهم الضغينة وقتل الجهاد والمجاهدون من قتل منهم، ويريد تأليفهم إلى الإسلام، ونسيان الإحن، فأعطى أبا سفيان وأولاده، وأعطى الأقرع بن حابس وغيره. لقد قال بعض أصحاب رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: أعطيت الأقرع بن حابس، وعيينة بن حصن، وتركت جعيل بن سراقة الضمرى، فقال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم مبينا سبب العطاء، وهو لم يمنع أحدا حقا له:
«أما والذى نفس محمد بيده لجعيل خير من مثل عيينة والأقرع، ولكن تألفتهما ليسلما، ووكلت جعيل بن سراقة لإسلامه» .
هذا هو أساس العطاء، وهؤلاء نظروا إلى الأموال، ولم ينظروا إلى واجب النبى صلى الله تعالى عليه وسلم فى نشر الدعوة، وما يراه طريقا لتأليف القلوب.
وإن قوله تعالي: وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقاتِ، فَإِنْ أُعْطُوا مِنْها رَضُوا، وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْها إِذا هُمْ يَسْخَطُونَ (التوبة- 58) فهذه الآية نزلت فى المنافقين، والذين اعترضوا كانوا من الأعراب الذين هم أَشَدُّ كُفْراً وَنِفاقاً، وَأَجْدَرُ أَلَّا يَعْلَمُوا حُدُودَ ما أَنْزَلَ اللَّهُ
(التوبة- 97) .
وما كان الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم ليخضع فى أمر الدعوة ومقتضياتها لناس حديثى عهد بجاهلية، وحسبه أن يكون معه المهاجرون والأنصار، والذين أخلصوا دينهم لله سبحانه وتعالى.