314- جاءت العقبة الأولى بعد اللقاء الأول بين النبى صلى الله تعالى عليه وسلم والخزرج وبهم انتقل خبر الإسلام إلى يثرب التى أعدها الله تعالى لتكون المدينة الفاضلة، مدينة الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم، ثم كان فى العقبة الأولى التعريف بمباديء الإسلام والبيعة بها، على أن تكون هذه البيعة الميثاق الذى أخذه النبى صلى الله تعالى عليه وسلم، وكانت البيعة الثانية فى العقبة بعد أن فشا الإسلام، وكانت تمهيدا للانتقال إلى المدينة والهجرة، ويظهر أنها كانت فى اخر موسم حضره النبى صلى الله تعالى عليه وسلم بالمدينة المنورة، والعقبة الأولى كانت فى الموسم الذى قبله، ولذلك كانت البيعة فيها بالإيواء والنصرة، كما يتبين ذلك.
ويظهر أن خبر اتصال النبى صلى الله تعالى عليه وسلم كان يتسرب إلى قريش، ويحاولون أن يأخذوا حذرهم، إذ رأوا أن النبى صلى الله تعالى عليه وسلم كان يعرض نفسه على القبائل، وهم يتوجسون خيفة من أن تخرج الدعوة إلى التوحيد من بين ظهرانيهم إلى العرب، وإنهم يتوقعون منهم الاستجابة، ليستعين بهم، ويتخذ منهم قوة عليهم.
وقد رأينا كيف يتعقبه أبو جهل وأبو لهب، ويتناوبان.
لذلك عندما جاء مصعب من يثرب هو وأسعد بن زرارة، ومعهم جماعات من الأوس والخزرج، قد أسلموا، وقد كان معهم من سكان يثرب من كانوا لا يزالون على وثنيتهم، ولم يذوقوا بعد بشاشة الإسلام، ومنهم من تتجافي قلوبهم دونه مثل عبد الله بن أبى بن سلول الذى أكله بغض الإسلام والمسلمين، حتى صار رأس النفاق فى المدينة المنورة من بعد، وكان يضع الفتنة ويبنيها، ويثيرها حيثما وجد إلى ذلك سبيلا.
ولقد أخذ النبى صلى الله تعالى عليه وسلم حذره من ناحيتين، من ناحية قريش الذين احتسبوا بأن أمرا يدبر من ورائهم، ولقد كان يرى عيونهم تبث من حوله، حتى أن الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم
ليقول لوفد الأوس والخزرج عندما التقى بهم فى العقبة: «ليتكلم متكلمكم، ولا يطل الخطبة، فإن عليكم من المشركين عينا، وإن يعلموا بكم يفضحوكم» .
والناحية الثانية من أولئك المشركين الذين صحبوا المسلمين من الأوس والخزرج، ولعله صلى الله تعالى عليه وسلم فيما حذر من عيون المشركين، كان كلامه يعم الفريقين، فريق قريش، وفريق المشركين الذين صحبوا وفد الإيمان.
ولهذا لم يلتق فى أول حضورهم، بل ضرب لهم موعدا فى أيام منى، فلم يأخذ عليهم البيعة فى أول لقاء.
فروى ابن إسحاق بسنده عن كعب بن مالك، قال «خرجنا إلى الحج وواعدنا رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم بالعقبة من أواسط أيام التشريق فلما فرغنا من الحج، وكانت الليلة التى واعدنا رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ... وكنا نكتم من معنا من قومنا من المشركين.
ويقول كعب فى هذه الرواية: فنمنا تلك الليلة فى قومنا فى رحالنا حتى إذا مضى ثلث الليل خرجنا من رحالنا لميعاد رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم نتسلل تسلل القطا مستخفين، حتى اجتمعنا عند العقبة ونحن ثلاث وسبعون رجلا، ومعنا امرأتان.
هذه رواية كعب بن مالك، وروى أنهم كانوا سبعين، ومعهم امرأتان.
التقى النبى صلى الله تعالى عليه وسلم، فى الميقات المحدود، والمكان المعين وقد صحبه فى هذا اللقاء عمه العباس بن عبد المطلب، وهو على دين قومه وإنما صحبه ليتوثق له، ويطمئن على نصرته، وقد قال فى هذا اللقاء: «يا معشر الخزرج «1» ، إن محمدا منا، حيث قد علمتم، وقد منعناه من قومنا، ممن هم على مثل رأينا فيه فهو فى عز من قومه، ومنعة فى بلده، وإنه قد أبى إلا الانحياز إليكم، واللحوق بكم، فإن كنتم ترون أنكم وافون له بما دعوتموه إليه، وما نعوه من خالفه، فأنتم وما تحملتم من ذلك، وإن كنتم ترون أنكم مسلموه وخاذلوه بعد الخروج إليكم، فمن الان فدعوه، فإنه فى عزة ومنعة من قومه وبلده.
عندئذ قال قائل الأوس والخزرج: قد سمعنا ما قلت، فتكلم يا رسول الله، فخذ لنفسك ولربك ما أحببت.
فتكلم رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، ودعا إلى الله تعالى، ورغب فى الإسلام.
وقد طلب رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم أن يختاروا من بينهم اثنى عشر نقيبا ففعلوا.
__________
(1) قال ابن هشام: كانت العرب يسمون هذا الحى الخزرج، خزرجها وأوسها، ولعل ذلك لأنهم كانوا أكثر أو أظهر عند قريش.
,
315- هذه هى البيعة الثانية، كما جاءت بذلك الروايات المتضافرة وقد انقسمت البيعة إلى قسمين:
أحدهما- لتوثيق مباديء الإسلام؛ وقد روى الإمام أحمد فى هذا القسم: أن النبى صلى الله تعالى عليه وسلم قال فيه: «تبايعون على السمع والطاعة فى النشاط والكسل، والنفقة فى العسر واليسر، وعلى الأمر بالمعروف، والنهى عن المنكر. وأن تقولوا فى الله لا تخافون لومة لائم» .
والقسم الثانى- خاص بنصرته صلى الله تعالى عليه وسلم. وأن يمنعوه.
ويروى ابن إسحاق عن أبى أمامة أسعد بن زرارة أنه قال للنبى صلى الله تعالى عليه وسلم:
سل يا محمد لربك ما شئت، ثم سل لنفسك ما شئت، ثم أخبرنا مالنا من الثواب على الله وعليكم إذا فعلنا، فقال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: «أسئلكم لربى أن تعبدوه، ولا تشركوا به شيئا، وأسئلكم لنفسى وأصحابى أن تؤوونا وتنصرونا، وتمنعونا مما تمنعون منه أنفسكم» .
وروى الإمام أحمد أيضا عن عبادة بن الصامت أنه قال: إنا بايعنا رسول الله على السمع والطاعة فى النشاط والكسل، والنفقة فى العسر واليسر، وعلى الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر، وعلى أن نقول فى الله، لا تأخذنا فيه لومة لائم، وعلى أن ننصر رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم إذا قدم علينا يثرب، مما نمنع به أنفسنا وأزواجنا وأبناءنا، ولنا الجنة.
هذه روايات متعددة فى ألفاظ البيعة ومعانيها، ولا تخالف بينها، بل يكمل بعضها بعضا، وإذا كانت نقصت بعض العبارات من رواية، فإن الرواية الاخرى تكملها.
ولقد قال النبى صلى الله تعالى عليه وسلم فى نتيجة البيعة «أخذت وأعطيت» أخذ عليهم العهد لله بالتوحيد والطاعة والأمر بالمعروف والنهى عن المنكر وأعطاهم الوعد بالجنة.
ولقد أعطوا الوعد بالنصر والإيواء عن بينة من ربهم، فقد بين بعضهم لبعض ما فى الوعد بالنصر من تبعات، سيتحملونها، ولنذكر لك بعض ما تذاكروه قبل أن يصفقوا بالبيعة، أو فى عنفها.
قال العباس بن عبادة بن فضلة الأنصارى أحد بنى سالم بن عوف: هل تدرون علام تبايعون هذا الرجل؟ قالو: نعم.
قال: إنكم تبايعونه على حرب الأحمر والأسود من الناس، فإن كنتم ترون أنكم إذا أنهكت أموالكم مصيبة وأشرافكم قتلا أسلمتموه فمن الان، فهو والله إن فعلتم خزى الدنيا والاخرة، وإن كنتم ترون أنكم
وافون له بما دعوتموه إليه، على نهكة المال وقتل الأشراف فخذوه، فهو والله خير الدنيا والاخرة، قالوا: فإنا نأخذه على مصيبة الأموال، وقتل الأشراف.
ولقد قال البراء بن معرور أحد النقباء مجيبا قول النبى صلى الله تعالى عليه وسلم عندما طلب أن يمنعوه مما يمنعون منه نساءهم وأبناءهم. قال رضى الله تعالى عنه:
نعم، فو الذى بعثك بالحق لنمنعك مما نمنع أزرنا. فبايعنا يا رسول الله، فنحن والله أبناء الحروب ورثناها كابرا من كابر.
واعترض أبو الهيثم بن التيهان فقال: «يا رسول الله، إن بيننا وبين الرجال حبالا- وإنا قاطعوها- يعنى اليهود- فهل عسيت إن قبلنا ذلك، ثم أظهرك الله أن ترجع إلى قومك وتدعنا.
فتبسم رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، ثم قال: بل الدم الدم، والهدم الهدم، أنا منكم، وأنتم منى، أحارب من حاربتم، وأسالم من سالمتم.
ولقد قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم بعد أن تمت البيعة: «أنتم بما فيهم كفلاء ككفالة الحواريين بعيسى ابن مريم، وأنا كفيل على مدتى» .
بهذا تمت البيعة الثانية، وكانت إيذانا بالهجرة، وكان أساس قيامها ما يكون من حماية للنبى صلى الله تعالى عليه وسلم.
وقد كانت حماسة الأنصار لهذه البيعة شديدة، وبعضهم أراد تنفيذها؛ ومحاربة قريش فى عقر دارهم، لقد قال العباس بن فضلة الذى نقلنا كلامه انفا: يا رسول الله، والذى بعثك بالحق؛ إن شئت لنميلن على أهل منى عذابا بأسيافنا، فقال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: لم نؤمر بذلك، ولكن ارجعوا إلى رحالكم.
,
316- كان حذر النبى صلى الله تعالى عليه وسلم من أن يعلم المشركون بالبيعة قبل أن تتم فى موضعه، لأنهم كانوا يبثون العيون لمعرفة أخبار الخزرج والأوس، إذ كانوا يتوجسون منهم خيفة.
لقد رجع أهل البيعة إلى منازلهم فلما أضحوا غدا عليهم ناس من جلة قريش، حتى جاؤا إلى منازلهم.
قالوا: يا معشر الخزرج، إنه قد بلغنا أنكم جئتم إلى صاحبنا تستخرجونه من بين أظهرنا وتبايعونه على حربنا وإنه والله ما من حى من العرب أبغض إلينا من أن تنشب الحرب بيننا وبينهم منكم.
وقد كان من بين أهل يثرب مشركون مثلهم، وقد اجتهد الذين مال قلبهم للإيمان وأسلموا أن يخفوا عنهم أمر البيعة وما يتصل بها. لذلك انبعث من أولئك المشركين من يحلفون ما كان من هذا شيء وما علمنا، فصدق القرشيون مقالتهم.
وقد روى ابن إسحاق أن القرشيين أتوا عبد الله بن أبى بن سلول الذى صار من بعد رأس المنافقين، وكان من المشركين، فسألوه عن أمر البيعة، فقال لهم: إن هذا الأمر جسيم، ما كان قومى ليتفرقوا على مثل هذا، وما علمته. كان الأمر بالنسبة لقريش أول الأمر ظنا ظنوه، ولم يكونوا قد استوثقوا من صدقه، فكان التكذيب كافيا، لإزالة الظنة، ولكن لم يطمئنوا.
لذلك أخذوا يتحرون صدق الخبر، ليطمئنوا، فلما نفر الناس من منى، وجدوا أن البيعة قد تمت، أو أن ما ظنوه ظنا قد وقع.
راعهم ذلك، فخرجوا فى طلب القوم الذين بايعوا، فلم يلحقوا بهم، ولكن أدركوا منهم سعد بن عبادة والمنذر بن عمرو، وكان كلاهما من النقباء، وقد استطاع المنذر ألا يمكنهم منه، فأعجزهم اتباعه.
وأما سعد بن عبادة فأخذوه فربطوا يديه إلى عنقه، ثم أقبلوا به حتى أدخلوه مكة المكرمة يضربونه، ويجذبونه بجمته «1» ، وكان ذا شعر كثيف.
ولقد حكى سعد حاله، فقال: «فو الله إنى لفى أيديهم، إذ طلع على نفر من قريش فيهم رجل وضئ الوجه شعشاع، خلو من الرجال، فقلت فى نفسى إن يك عند أحد من القوم خير، فعند هذا، فلما دنا منى كلمنى كلمة شديدة، فقلت فى نفسى: «لا والله، ما عندهم بعد هذا من خير» فو الله إنى لفى أيديهم، إذ أدلى لى رجل ممن معهم، فقال: ويحك أما بينك وبين أحد من قريش جوار، ولا عهد. قلت: بلى والله، لقد كنت أجير لجبير بن مطعم.. تجارة، وأمنعهم ممن أراد ظلمهم ببلادى، وللحارث بن حرب بن أمية.. قال: ويحك.. وخرج ذلك الرجل إليهما فوجدهما فى المسجد عند الكعبة الشريفة، فقال لهما: إن رجلا من الخزرج يضرب بالأبطح، ويذكر أن بينكما وبينه جوارا، قالا:
ومن هو؟ قال: سعد بن عبادة، قالا: صدق والله! إنه كان ليجير تجارنا، ويمنعهم من أن يظلموا ببلده، فجاا فخلصا سعدا.
__________
(1) الجمة مجتمع شعر الرأس من مقدمه.
ذكرنا هذه القصة بطولها. ليتبين أن قريشا أحنقهم، أن استجيب طلب محمد عليه الصلاة والسلام أن يجد المأوى لدعوته فى يثرب وظهر غضبهم فى تتبع القوم وفى الأذى الذى أنزلوه بسعد بن عبادة، وهو الذى أدركوه، وغيره قد اجتازوا الطريق، ورحلوا، قبل أن يصلوا، ولو أدركوهم فوق السبعين لا يعلم إلا الله تعالى كيف تكون العاقبة. ولعلها تكون أول موقعة بين المشركين والمسلمين، بل لعل هذه المطاردة ذاتها أول معركة بين قوة الإسلام ولو قليلة وقوة الشرك، وإن كانت كثيرة، ولعل المشركين أدركوا بأن عهد الاستضعاف أو شك على نهايته، والله ولى الصابرين.