105- اتجه محمد صلى الله تعالى عليه وسلم إلى التجارة منذ بلغ البلوغ الطبيعى، وقد ثبت فى المصادر التاريخية أنه زاولها مع شريك أو شركاء، وقد ثبت أنه كان شريكا للسائب بنى أبى السائب، واستراح إلى شركته، ورأى فيه ما يمازج أخلاقه، وإن لم يسم إليها، ولكنه على أى حال رأى الشريك الأمين السمح فى معاملته، فكان التاجر لا يمارى ولا يجادل فى الشراء، ولا يخفى الخبيث من البضائع، ويظهر الطيب بلا مماراة فى تجارته.
وقد التقى به النبى صلى الله تعالى عليه وسلم عند فتح مكة، فرحب به، ووفى له بحق الرفقة القديمة فى الاتجار، وتلقاه مستبشرا مرحبا، وقال له مذكرا بماضيه ليؤنسه فى حاضره: «مرحبا بأخى وشريكى، كان لا يشارى ولا يمارى» .
ولم يذكر فى التاريخ ما كان يتجر فيه، لأن كتاب السيرة لا يعنون فى حياة النبى صلّى الله عليه وسلّم الإنسانية بمقدار عنايتهم فيما يتعلق بالرسالة، وإرهاصات النبوة، وخوارق العادة الصادقة التى أحاطت بحياته فى حله وترحاله، ووجهتهم فى ذلك أنهم يجعلون موضع الاهتمام فى دراستهم هو ما امتاز به من يدرسون حياته، ومثلهم فى ذلك أن من يكتب فى حياة رجل من النبغاء يعنى بجهة نبوغه، وموضع النبوغ، ولا يعنى بالنواحى الاخرى إلا لتصوير شخصه.
وكذلك الأمر بالنسبة لمحمد رسول الله تعالى، صلى الله تعالى عليه وسلم، وله عليه الصلاة والسلام المثل الأعلى للإنسانية، كانت عناية كتاب سيرته الشريفة، بما يتصل بالرسالة مما سبقها ولحقها، وقليل منهم ما يكون اتجاهه إلى نواحيه المتصلة به كإنسان إلا أن يكون لذلك اتصال بموضوع الرسالة.
وقد كان محمد صلى الله تعالى عليه وسلم، فى حياته الأولى راعيا للغنم، أو تاجرا مثالا للأمانة والصدق، وكان مرموقا من مكة، وأخص ما امتاز به فى حياته كلها الصدق والأمانة والوفاء بالعهد، ولطف العشرة وأنه موطأ الكنف يألف ويؤلف، يفتح قلبه لكل عمل كريم، ولا يضن على أحد بالمعونة إن لزمت.
كذلك كان فى كل أعماله فى الحياة، وكذلك كان فى تجارته، حتى سمى الأمين، وصار هذا اللقب علما له مع اسمه، فإذا أطلقت كلمة الأمين، لا تنصرف إلا إليه، إذ هى لا تطلق إلا عليه، وإن كل من يعمل بأمانة، ويقول بصدق دونه فى الأمانة والصدق، وكان لذلك فى مكان يعلو به على كل من فى مكة المكرمة من غير استعلاء ولا استكبار.
ولكن ما الذى كان يتجر فيه؟ ما زال هذا السؤال يلح علينا ما دمنا لم نذكر مادة تجارته فيما ذكرنا، ولكن يصح أن نسد الفراغ فى هذا الجزء من تاريخه، عليه الصلاة والسلام، بأنه يتجر فى البضائع التى تتبادل داخل مكة المكرمة، ولا تذهب إلى خارجها، لأنه لم يعرف أنه خرج من مكة المكرمة مع قافلة التجار إلى اليمن أو الشام، فكانت تجارته عليه الصلاة والسلام، مع شريكه مقصورة على ذلك النطاق فى داخل المدينة، وما يفد إليها، وقد كانت فيها أسواق تمتليء بالتجار فى موسم الحج، وكون الحجيج يفدون من أقصى أرض العرب إلى أدناها لابد أن يجعل فيها بضائع ترد إليها مع الحجيج، ويأخذ الحجيج من بضائع فى مكة المكرمة يعودون بها إلى ديارهم.
وإذا كانت رحلة الشتاء والصيف لقريش فيها التجارة الخارجية التى ينقلون فيها بضائع الروم إلى الفرس وبضائع الفرس إلى الروم، فمكة المكرمة كان فيها الاتجار فى داخل البلاد العربية فى موسم الحج، ومنها بضائع الروم والفرس فى البلاد العربية، فكانت فيها الأسواق رائجة.