288- ذاق محمد صلى الله عليه وسلم ما ذاق من أهل مكة المكرمة من صد عن سبيل الله ومقاومة، وإيذاء له ولأصحابه، وقد بلغ الدعوة فيهم، وكلبوا عليه، ولكن دعوته عامة، وليست لقريش واحدهم بل هى للناس أجمعين، وقد علمها أهل مكة المكرمة، وقاوموها ما استطاعوا إلى ذلك سبيلا، ولله فى ذلك حكمة، ولو كانوا أول من يطيعه لقيل أنهم يريدون بذلك السلطان على الناس.
لقد اتجه النبى صلى الله عليه وسلم فى سبيل توسيع نطاق الدعوة إلى الطائف التى تقرب من مكة المكرمة، ولها من القوة والسلطان والثروة من الثمار والتجارة ما لمكة المكرمة، وربما يرى فيهم نصرة لم يرها من قريش.
وله فى الطائف نوع رحم، لأنه رضع فى بنى سعد، وهم قريبون من الطائف، ففيهم مراضعه، وحواضنه، وذلك فوق القرب النسبى، فقد كان الطائف بينها وبين مكة المكرمة نحو 120 (عشرين ومائة) ميلا، وذلك ليس ببعيد فى الشقة فى عرف أهل البلاد الصحراوية.
__________
(1) البداية والنهاية لابن كثير ج 3 ص 46.
ذهب إلى الطائف فى أخريات شوال من السنة العاشرة، ذهب إلى الطائف ليس لمجرد اشتداد قربه منه كما تذكر كتب السيرة، ولكن ذلك قد يكون بعض الأسباب، وليس أقواها، وإنما لذلك، ولأنه اعتراه ما يشبه اليأس من إيمان قريش، أو من بقى منهم، وما كان له أن يضرب فى حديد بارد، أو أن يقصر دعوته عليهم، وقد غلب عليهم الجدل بالباطل من غير أن يتجهوا إلى الاقتناع، فلا يشغل نفسه بهم، واتجه إلى بلد غير بعيد، وهو الطائف، يرجو منهم الاتباع ومن وراء الاتباع النصرة.
ذهب صلى الله عليه وسلم إلى الطائف سعيا على قدميه مع أن المسافة كما قلنا تبلغ نحو عشرين ومائة ميل، ولم يكن معه إلا مولاه زيد بن حارثة الذى أعتقه من قبل، وقد صار له حبيبا ودودا، فلم يكن له خادما، بل كان معينا، وقد ذهب راجلا كما ذكر، قيل لأنه لم يرد أن يعلم أحد بذهابه، وقد يكون ذلك بعض السبب، ولكن نقول إنه كان يجاهد فى سبيل الدعوة، ويبلغ به الجهد والجهاد أقصاهما.
قال ابن إسحاق فى سيرته بسنده لما انتهى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الطائف عمد إلى نفر من ثقيف هم يومئذ سادة ثقيف وأشرفهم، وهم إخوة ثلاثة. عبد ياليل بن عمرو بن عمير، ومسعود بن عمرو بن عمير وحبيب بن عمرو بن عمير، وابن عوف بن عقدة بن عوف بن ثقيف» «1» .
التقى بهؤلاء الذين كانوا يعدون من أشرافهم، لمكانة أبيهم فى ثقيف.
وقد كانت هذه الرحلة النبوية إلى ثقيف غير محققة الاستجابة، ولكنها كانت جهادا فى سبيل الدعوة من صاحبها.. ولنذكر لك المجاوبة التى كانت بين النبى عليه الصلاة والسلام ومن تحدث إليهم من أولاد عمرو بن عمير.
جلس رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أولاد عمرو بن عمير، فدعاهم إلى الله تعالى، وبما جاءهم له من نصرته عليه الصلاة والسلام، والقيام معه على من خالفه من قومه، فأجابوه بنكر من القول.
قال أحدهم: وهو يمرط ثياب الكعبة الشريفة، (أى أنه ينزع كساء الكعبة) إن كان الله تعالى أرسل النبى صلى الله تعالى عليه وسلم ينزع ثياب الكعبة الشريفة. وكأنه يسخر بالرسول عليه الصلاة والسلام، ويعلق علي إرسال النبى صلى الله عليه وسلم من الله تعالى أن ينزع هو ثياب الكعبة الشريفة، وذلك مستحيل لقدسيتها.
وقال الثانى: أما وجد الله أحدا يرسله غيرك!!
وكأنه يستنكر أن يكون هو الرسول عليه الصلاة والسلام.
__________
(1) سيرة ابن هشام ج 1، 2 ص 419.
وقال ثالثهم: لئن كنت رسولا من الله، كما تقول لأنت أعظم خطرا من أن أرد عليك، وإن كنت تكذب على الله ما ينبغى لى أن أكلمك.
كان الرد كله تهكما واستهزاء، فرأى النبى صلى الله تعالى عليه وسلم أنه لا استجابة منهم، ويئس منهم وأنهم اشتروا الضلالة بالهدى.
وإذا كانوا غير مستجيبين لدعوة الله تعالى فإنه قد يكون فيهم مروءة. فرأى عليه الصلاة والسلام أن يخفوا مجيئه إليهم، وكره أن يبلغ قومه فيدثرهم أى يثيرهم، ولكنهم للؤمهم لم يخفوا أمره، بل أعلنوه، بل أغروا بالنبى صلى الله تعالى عليه وسلم سفهاءهم، وعبيدهم، يسبونه ويتصيحون به، حتى اجتمع الناس عليه.
وقد روى موسى بن عقبة أنه قعد له أهل الطائف صفين على طريقه، فلما مر جعلوا لا يرفع رجليه ولا يضعهما إلا رضخوهما بالحجارة، حتى أدموه، فمضى، وهما يسيلان دما» «1» .
عاد النبى صلى الله تعالى عليه وسلم من تلك الرحلة الشاقة لقوم لئام، لم يذوقوا معنى المروءة، ولم يعرفوا الكرامة الإنسانية فى أى صورة من الصور الادمية.
أشد البلاء ما يثير عطف العدو اللدود، وقد أثار ما فعل أولئك اللئام عطف ابنى ربيعة عتبة وشيبة اللذين اشتركا من قبل فى إيذاء النبى صلى الله تعالى عليه وسلم. فقد كان لهما بستان قريب من الطائف، قد اوى النبى صلى الله تعالى عليه وسلم إلى ظل شجرة من أشجاره.
لقد تحركت الرحم فى ابنى ربيعة، فبعثا غلاما لهما يقال له عداس بقطف من العنب للنبى صلى الله تعالى عليه وسلم، ليتبلغ به، وذلك من الكرم القرشى.