235- ويلاحظ أن الأذى لم يمنع الاستجابة للدعوة، بل زيادتها، ومن المؤمنين الذين كان لهم فى الإسلام قدم ثابتة من كان الإيذاء هو السبب الواضح فى إسلامهم.
ولنذكر فى هذا المقام إسلام حمزة بن عبد المطلب، ولنذكر قصته كاملة كما رواها ابن إسحاق:
قال ابن إسحاق: «حدثنى رجل من أسلم كان واعية أن أبا جهل مر برسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم عند الصفا فاذاه وشتمه، ونال منه ما يكره من العيب لدينه، والتضعيف لأمره، فلم يكلمه رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ومولاة لعبد الله بن جدعان فى مسكن تسمع ذلك ... فلم يلبث أن أقبل حمزة متوشحا قوسه، راجعا من قنص له، وكان صاحب قنص يرميه، ويخرج له، وكان إذا رجع من
قنصه لم يصل إلى أهله حتى يطوف بالبيت، وكان إذا فعل ذلك لم يمر على ناد من قريش إلا وقف، وتحدث معهم، وكان أعز فتى فى قريش. وأشد شكيمة، فلما مر بالمولاة (التى سمعت سب أبى جهل) قالت له: يا أبا عمارة، لو رأيت ما لقى ابن أخيك محمد انفا من أبى الحكم بن هشام، وجده هاهنا جالسا، فأذاه وسبه، وبلغ منه ما يكره، ثم انصرف عنه، ولم يكلمه محمد صلى الله تعالى عليه وسلم. فاحتمل حمزة الغضب لما أراد الله به من كرامة. فخرج يسعى؛ ولم يقف على أحد عامدا لأبى جهل إذا لقيه أن يوقع به، فلما دخل المسجد نظر إليه جالسا فى القوم، فأقبل نحوه، حتى إذا قام على رأسه رفع القوس فضربه بها فشجه شجة منكرة، ثم قال: أتشتمه وأنا على دينه، أقول ما يقول، فرد ذلك على إن استطعت، فقام رجال من بنى مخزوم إلى حمزة لينصروا أبا جهل، فقال أبو جهل: دعوا أبا عمارة، فإنى والله قد سببت ابن أخيه سبا قبيحا، وتم حمزة على إسلامه، وعلى ما تابع عليه رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم» «1» .
وفيما ذكره ابن إسحاق هنا ما يوهم بأنه أعلن إسلامه، وكان ذلك الإعلان هو دخوله فى الإيمان، ولكن ذكر فى البداية عن ابن إسحاق أيضا أن حمزة إذ أعلن ذلك أنه أتبع محمد بن عبد الله عليه الصلاة والسلام ما كان ينطق بها إلا عن حمية العصبية، ولكنه فكر بعد ذلك فى مخرج منها، أو سير فى طريق الإيمان، ولننقل لك حديثه فى نفسه كما جاء على لسانه، وكما نقل ابن إسحاق:
«أقبل حمزة على نفسه، وقال ما صنعت، اللهم إن كان خيرا، فاجعل تصديقه في قلبى، وإلا فاجعل لى مما وقعت فيه مخرجا. فبات بليلة لم يبت بمثلها من وسوسة الشيطان، حتى أصبح، فغدا على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال يا ابن أخى، إنى قد وقعت فى أمر ولا أعرف المخرج منه، وإقامة مثلى على ما لا أدرى ما هو!! أرشد أم هو غىّ شديد، فحدثنى حديثا، فقد اشتهيت يا ابن أخي أن تحدثنى، فأقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم، فذكره ووعظه، وخوفه وبشره، فألقى الله تعالى فى قلبه الإيمان بما قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، فقال: أشهد أنك الصادق، فأظهر يا ابن أخى دينك، فو الله ما أحب أن لى ما أظلته السماء وأنى على دينى الأول. فكان حمزة ممن أعز به الدين. وروى البيهقى مثل ذلك «2» .
ويظهر من هذا الكلام، وما قبله أن حمزة رضى الله تبارك وتعالى عنه كانت له نزعة دينية كانت على الباطل، ثم كانت على الحق. كان فى جاهليته، إذا جاء من صيده وقنصه لا يغشى ناديا إلا إذا طاف بالبيت، والمتدين فى طبعه إذا رأى وضح الحق سار فيه ولصدق إدراكه عندما أعلن الإسلام فى غضبة
__________
(1) سيرة ابن هشام ج 1 س 292.
(2) البداية ج 3 ص 33.
عنيفة قوية، أراد أن ينعم النظر فيما عرض له من حال؟ أيخرج منها، وما السبيل؟ أم يمضى، فاعترته حيرة، كانت هادية موجهة، إذ هداه الله تعالى إلى الإسلام.