567- قلنا أن عمرة القضاء كانت فرصة لتقريب البعيد، وإيناس الغريب عن الإسلام بمبادئه، والربط بالمودة، وإذا كانت نفوس جافية لم تستجب لداعى المودة والرحم، فإن العقلاء قد سرت إلى نفوسهم دعوة الحق، وأخذوا يرون الإسلام فى علاء، وعرفوا ذلك من منطق القوة، ومنطق الهداية ومنطق العقل، وقد زالت الغمة، وكشفت الحقائق، وكان من هؤلاء وعلى رأسهم خالد بن الوليد، الذى سمى بحق من بعد سيف الإسلام، وإن لم ينل مرتبة المجاهدين الأولين والبلاء بلاء، والقوى كلها تكاتفت على المسلمين.
لقد كانت نفس خالد المدركة التي تحس مائلة عن الشرك إلي دعوة محمد صلى الله تعالى عليه وسلم، وكان يرى أنه يخوض في الدفاع عن الشرك إلي غير غاية.
ولنترك الكلمة، لما روى خالد بن الوليد فى حديثه عن إسلامه.
قال: لما أراد الله تعالي بي ما أراد من الخير قذف في قلبي الإسلام، وحضرني رشدي فقلت، قد شهدت هذه المواطن كلها علي محمد صلى الله تعالى عليه وسلم، فليس لي موطن أشهده- أو أنصرف وأنا أري أني موضع في غير شيء، وأن محمدا سيظهر، فلما خرج رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم إلي الحديبية خرجت في خيل المشركين، فلقيت رسول الله بأصحابه بعسفان، فقمت بإزائه، وتعرضت له، فصلى الظهر أمامنا فهممنا أن نغير عليهم، ثم لم يعزم لنا، وكانت فيه خير. فاطلع علي ما في أنفسنا مما ألهم به، فصلي بأصحابه صلاة العصر صلاة الخوف، فوقع ذلك منا موقعا فقلت:
الرجل ممنوع فاعتزلنا، وعدل عن سير خطنا وأخذ ذات اليمين.
فلما صالح قريشا بالحديبية ودافعته قلت فى نفسى أى شيء بقى أأذهب إلى النجاشى؟ فقد اتبع محمدا وأصحابه عنده آمنون، أفأخرج إلى هرقل فأخرج من دينى إلى نصرانية أو يهودية؟ أفأقيم فى دارى؟.
فأنا فى ذلك إذ دخل رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فى عمرة القضاء، فتغيبت، ولم أشهد حضوره.
وكان أخى الوليد بن الوليد قد دخل مع النبى صلى الله تعالى عليه وسلم فى عمرة القضاء فطلبنى، فلم يجدنى، فكتب إلى كتابا فإذا فيه:
بسم الله الرحمن الرحيم، أما بعد فإنى لم أر أعجب من ذهاب رأيك عن الإسلام، وعقلك عقلك، ومثل الإسلام ما جهله أحد، وقد سألنى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم عنك، وقال:
أين خالد، فقلت: يأتى الله تعالى به، فقال: ما مثله يجهل الإسلام؟!، ولو كان جعل نكايته وحده مع المسلمين كان خيرا له، ولقدمناه على غيره، فاستدرك يا أخى ما قد فاتك من مواطن صالحة» .
فلما جاءنى كتابه نشطت للخروج، وزادنى رغبة فى الإسلام، سؤال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم عنى، وأرانى فى المنام كأنى فى بلاد ضيقة مجدبة، فخرجت فى بلاد خضراء واسعة، فقلت إن هذه لرؤيا، فلما أن قدمت المدينة المنورة قلت لأذكرنها لأبى بكر، فقال: مخرجك الذى هداك الله تعالى للإسلام، والضيق الذى كنت فيه من الشرك.
فلما أجمعت الخروج إلى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم قلت: من أصاحب إلى الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم!!، فلقيت صفوان بن أمية، فقلت: يا أبا وهب، أما ترى ما نحن فيه، إنما نحن كأضراس، وقد ظهر محمد صلى الله تعالى عليه وسلم على العرب والعجم، فلو قدمنا على محمد واتبعناه، فإن شرف محمد شرف لنا، فأبى أشد الإباء، وقال لو لم يبق غيرى ما اتبعته أبدا، فافترقنا وقلت هذا رجل قتل أخوه وأبوه ببدر، قلت فاكتم على فلقيت عكرمة بن أبى جهل، فقال مثل ما قال صفوان بن أمية فخرجت إلى منزلى فأمرت براحلتى، فخرجت بها إلى أن لقيت عثمان بن أبى طلحة، فقلت إن هذا لى صديق فلو ذكرت له ما أرجوه، ثم ذكرت من قتل من آبائه فكرهت أن أذكره، فقلت وما على، وأنا راحل من ساعتي، فذكرت له ما آل الأمر إليه، فقلت إنما نحن بمنزلة ثعلب فى جحر لو صب عليه ذنوب من ماء لخرج، وقلت له نحوا مما قلت لصاحبى، فأسرع الإجابة وقلت له إنى غدوت إليهم، وأنى أريد أن أغدو، وهذه راحلتى ... فأدلجنا سرا، فلم يطلع علينا الفجر، حتى التقينا فغدونا حتى انتهينا إلى الهدة. فوجدنا عمرو بن العاص، بها، فقال: مرحبا بالقوم، فقلنا: وبك، فقال إلى
أين مسيركم؟ فقلنا وما أخرجك؟ فقال وما أخرجكم؟ قلنا الدخول فى الإسلام، واتباع محمد صلى الله تعالى عليه وسلم، قال وذلك الذى أقدمنى، فاصطحبنا جميعا حتى دخلنا المدينة المنورة، فأنخنا بظهر الحرة ركابنا فأخبر بنا رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فسربنا فلبست من صالح ثيابى، ثم عمدت إلى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، فلقينى أخى فقال: أسرع فإن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم قد أخبر بك فسر لقدومك، وهو ينتظركم، فأسرعنا المشى، فاطلعت عليه، فما زال يبتسم لى حتى وقفت عليه، فسلمت عليه بالنبوة، فرد على السلام بوجه طلق، فقلت إنى أشهد أن لا اله إلا الله، وأنك رسول الله صلى الله تعالى عليك وسلم، فقال تعال، ثم قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: «الحمد لله الذى هداك، قد كنت أرى لك عقلا، ورجوت ألا يسلمك إلا إلى خير» قلت يا رسول الله، إنى قد رأيت ما كنت أشهد من تلك المواطن عليك مما أبرأ منه فادع الله أن يغفر لى ذلك، فقال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: «الإسلام يجب ما كان قبله» ، قلت يا رسول الله على ذلك فقال صلى الله تعالى عليه وسلم «اللهم اغفر لخالد بن الوليد، كل ما أوضع فيه من صد عن الله ورسوله» .
هذا ما نقله الواقدى بالرواية عن إسلام خالد بن الوليد.
وذكرناه بطوله، لأنه حكاية نفسه، وبيان خواطره، وبيان ما وجهه إلى الإسلام توجيها نفسيا، أهو الاعتقاد الجازم الذى ينبعث من النفس، أم هو المصلحة، ولا يمنع أن يكون الباعث هو المصلحة، ثم يشرب قلبه حب الإيمان، ويكون من الصادقين فى إيمانهم، ثم يكون من بعد ذلك من المحاربين فى الإسلام، وربما يكون من المجاهدين، إن صح التعبير.
كان خالد ممن لم يدخلوا مكة المكرمة من قريش غيظا من الإسلام وأهله وكراهية- عندما دخل النبى صلى الله تعالى عليه وسلم مكة المكرمة معتمرا حاجا. فدل هذا على النفرة الشديدة من الإسلام وأهله، ولكنه جاء بعد ذلك وأراد أن يكون مع المسلمين، ولم يكن كعمر الفاروق الذى كان ألبا على المسلمين ثم رق قلبه للإسلام وقذف الله فى قلبه بنوره، فكان قوة فى الإسلام، وفارقا بين الضعف والاختفاء، والقوة والاستعلان، فى وقت ضنت فيه الألسنة عن الحق، والقلوب عن الإيمان، ولا كحمزة أسد الله، فإنه لم يقف قط ضد الإسلام، وأسلم ابتداء حمية لابن أخيه، ثم صار بطل الجهاد، لا بطل الحرب، فقد يكون بطل الحرب غير مجاهد، وقد يكون بطل الجهاد لم تعرف له فى الحرب مكيدة، كبلال وعمار، وغيرهما من المؤمنين الأولين الذين كانوا اللبنة الأولى فى بناء الإسلام، وعلى بلائهم وأذاهم قام الإسلام.
كان خالد فى إسلامه ليس واحدا من هؤلاء ولا كواحد منهم، ولكنه فكر وقدر فى البقاء على وثنية مكة المكرمة، أتكون مصلحته، أم المصلحة فى أن يسير فى الركب لتحفظ له مكانة المحارب الفذ والقائد النادر المثال.
وجد مكة المكرمة قد سدت ولم تكن مكان العزة، ورأى محمدا صلى الله تعالى عليه وسلم هو ومن معه يعلون ولا ينخفضون، فهو إلى علاء، ومن فى مكة المكرمة إلى غيره أو استسلام له.
ونفذ إدراكه إلى سر فى علو محمد صلى الله تعالى عليه وسلم، وهو أنه ممنوع بمنع الله تعالى كالذى تسرب إلى نفسه وهو فى خيل المشركين يرقبون صلاة محمد صلى الله تعالى عليه وسلم بأصحابه.
ولكن كأن ومضة نفسية، لا نقول إنها انطفأت، ولكن نقول إن سباق تاريخ نفسه بنفسه يدل على أن ذلك لم يكن هو المسير الموجه إلى إيمانه.
بل كان الموجه أولا- أنه رأى أن لا مقام له بمكة المكرمة حيث سدت أبواب مظاهر النبوغ.
ثم كان الموجه ثانيا- أنه لم يكن له ملجأ فى الحبشة، لأن أصحاب محمد صلى الله تعالى عليه وسلم سبقوه، والنجاشى يؤمن بمحمد صلى الله تعالى عليه وسلم ويحبه، وفكر فى أن يلجأ إلى الروم، وينتقل من دين قومه إلى اليهودية أو النصرانية، وربما كان ذلك فاتحا له باب النور، ليخرج من دين قومه إلى دين رجل من قومه، شرفه شرفهم، كما عبر هو.
ثم كان الموجه ثالثا- الكتاب الذى بعث به إليه أخوه الوليد وقد ذكر فيه سؤال رسول الله وذكره، وذكر عقله، وذكر أن له موضعا فى حروب المسلمين تعرف فيها مكانته، وتتميز فيها قيادته.
اتجه إلى محمد صلى الله تعالى عليه وسلم لهذه الأمور، ولم يكن منها إيمانه بالعقيدة إيمانا دافعا مؤمنا مطمئنا مهديا، إلا أن يكون ما لاحظه من النبى صلى الله تعالى عليه وسلم إذ حول الصلاة القائمة إلى صلاة خوف، عندما حدثته نفسه إبان ذلك إلى الانقضاض على المؤمنين فى صلاتهم.
ولما ذهب إلى النبى صلى الله تعالى عليه وسلم، وتطلق البشير النذير فى وجهه، رضى بالإسلام دينا، وغفر الله تعالى له لدعوة النبى صلى الله تعالى عليه وسلم له بالغفران.
وإنا لا ننقص من مقام خالد بن الوليد القائد المحارب ذى الدربة فى القتال، إذا قلنا إنه ابتدأ دخوله فى الإسلام بأنه رأى فى دخوله فيه المصلحة بعد أن صارت القوة الوحيدة فى البلاد العربية للإسلام- لأنه إذا رأى فى ذلك مصلحة شخصية دنيوية، فإنها كانت باب النور إليه، ودخل الإسلام قلبه، وصار مؤمنا بالله واليوم الآخر، والملائكة والنبيين.
ولعل ما قلناه هو السر فى أن عمر بن الخطاب فاروق الإسلام الذى لم يفر أحد فريه فى الإسلام، لم يكن يعامله معاملة المطمئن إليه، وإن كان يقدر مقدرته الحربية.
,
568- يتشابه إسلام عمرو بن العاص مع إسلام خالد بن الوليد، وإن كان فى إسلام خالد معان توميء إلى أنه أدرك بعض معانى الوحى، بدليل ما لاحظه فى صلاة النبى صلى الله تعالى عليه وسلم، وإدراكه أن الله تعالى مانع النبى صلى الله تعالى عليه وسلم، وأنه غير مسلمه وإدراكه مكانة النبى صلى الله تعالى عليه وسلم بين العرب والعجم، وأن شرفه هو شرف قريش، بل كانت المصلحة الدافعة أوضح فى عمرو بن العاص.
لو نذكر كيف دخل الإسلام قلبه بما حكاه الواقدى عنه.
يقول عمرو بن العاص: «كنت للإسلام مجانبا معاديا، حضرت بدرا مع المشركين فنجوت، ثم حضرت أحدا فنجوت، ثم حضرت الخندق فنجوت، فقلت فى نفسى: والله ليظهرن محمد على قريش فلحقت بمالى، وأقللت من الناس (أى من لقائهم) ، فلما حضر الحديبية رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وانصرف رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فى الصلح، ورجعت قريش إلى مكة المكرمة، جعلت أقول يدخل محمد قابلا مكة المكرمة، ما مكة المكرمة بمنزل ولا الطائف، ولا شيء خير من الخروج، وأنا بعد ناء عن الإسلام، وأرى لو أسلمت قريش كلها لم أسلم، فقدمت مكة المكرمة، وجمعت رجالا من قومى، وكانوا يرون رأيى، ويسمعون منى، ويقدموننى فيما نابهم فقلت لهم كيف أنا فيكم، فقالوا ذو رأينا، ومدرهنا فى يمن نفس، وبركة أمر. قلت تعلمون أنى والله لأرى أمر محمد أمرا يعلو الأمور علوا منكرا وإنى قد رأيت رأيا. قالوا وما هو؟ قلت: نلحق بالنجاشى فنكون معه، فإن يظهر محمد كنا عند النجاشى، ونكون تحت يد النجاشى أحب إلينا من أن نكون تحت يد محمد، وإن تظهر قريش فنحن من قد عرفوا. قالوا: هذا الرأى- قلت فاجمعوا ما نهديه له.
جمعوا أحب ما يهدى إليه وهو الأدم، وذهبوا إلى النجاشى.
ثم يقول عمرو بن العاص فى لقائه مع النجاشى، فو الله إنا لعنده إذ جاء عمرو بن أمية الضمرى وكان رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم قد بعثه بكتاب كتبه يزوجه أم حبيبة بنت أبى سفيان، فدخل عليه، ثم خرج من عنده، فقلت لأصحابى: هذا عمرو بن أمية الضمرى، ولو دخلت على
النجاشى فسألته اياه، فأعطانيه فضربت عنقه، فإذا فعلت ذلك سرت قريش وكنت أجزأت عنها حتى قتلت رسول محمد.
فدخلت على النجاشى، فسجدت له، كما كنت أصنع، فقال: مرحبا بصديقى أهديت لى من بلادك شيئا!! قلت نعم أيها الملك أهديت لك أدما كثيرة. ثم قدمته فأعجبه، وفرق منه شيئا بين بطارقته، وأمر بسائره فأدخل فى موضع وأمر أن يكتب ويحتفظ به، فلما رأيت طيب نفسه قلت: أيها الملك إنى رأيت رجلا خرج من عندك، وهو رسول عدو لنا قد وترنا، وقتل أشرافنا وخيارنا فأعطنيه فأقتله.
فغضب من ذلك ورفع يده، فضرب بها أنفى ضربة، ظننت أنه كسره، فجعلت أتلقى الدم بثيابى، فأصابنى من الذل ما لو انشقت بى الأرض لدخلت فيها فرقا منه.
ثم قلت: أيها الملك لو ظننت أنك تكره ما قلت ما سألتك، فاستحيا وقال: «يا عمرو تسألنى أن أعطيك رسول من يأتيه الناموس الأكبر الذى كان يأتى موسى، والذى كان يأتى عيسى- لتقتله» .
قال عمرو: فغير الله قلبى عما كنت عليه، وقلت فى نفسى: عرفت هذا الحق العرب والعجم، وتخالف أنت، ثم قلت: أتشهد أيها الملك بذلك؟
قال الملك: نعم أشهد عند الله يا عمرو، فأطعنى واتبعه، فو الله إنه لعلى الحق، وليظهرن على من خالفه. كما ظهر موسى على فرعون وجنوده. قلت: أتبايعنى على الإسلام، قال نعم. فبسط يده، فبايعنى على الإسلام، ثم دعا بطست، فغسل عنى الدم، وكسانى ثيابا، وكانت ثيابى قد امتلأت بالدم فألقيتها.
ثم خرجت على أصحابى، فلما رأوا كسوة النجاشى سروا بذلك، وقالوا هل أدركت من صاحبك ما أردت؟ قلت: كرهت أن أكلمه فى أول مرة، وقلت: أعود إليه، فقالوا الرأى ما رأيت ففارقتهم، وكأنى أعمد إلى حاجة، فعمدت إلى موضع السفن، فأجد سفينة قد شحنت وتدفع فركبت معهم، ودفعوها، حتى انتهوا إلى الشعبة.
وخرجت من السفينة، ومعى نفقة، وابتعت بعيرا، وخرجت أريد المدينة المنورة مررت على الظهران ومضيت حتى إذا كنت بالهدة، فإذا رجلان قد سبقانى بغير كثير يريدان منزلا، وأحدهما داخل فى الخيمة، والآخر يمسك الراحلتين، فنظرت فإذا خالد بن الوليد، فقلت أين تريد قال محمدا صلى الله تعالى عليه وسلم. دخل الناس فى الإسلام، فلم يبق أحد، والله لو أقسمت لأخذ برقابنا كما يؤخذ برقبة الضبع فى مغارتها، قال عمرو وأنا والله أردت محمدا صلى الله تعالى عليه وسلم أو أردت الإسلام، فخرج عثمان بن أبى طلحة فرحب بى فنزلنا جميعا فى المنزل، ثم اتفقنا حتى أتينا المدينة المنورة فما أنسى
قول رجل لقيناه ببئر أبى عنبة يصيح يا رباح يا رباح فتفاء لنا، بقوله وسرنا، ثم نظر إلينا، فأسمعه يقول: قد أعطت مكة المكرمة المقادة بعد هذين فظننت أنه يعنينى، ويعنى خالد بن الوليد، وولى إلى المسجد سريعا، فظننت أنه بشر رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم بقدومنا، فكان كما ظننت وأنخنا بالحرة، فلبسنا من صالح ثيابنا، ثم نودى بالعصر فانطلقنا على محمد صلى الله تعالى عليه وسلم، وإن لوجهه تهللا والمسلمون حوله قد سروا بإسلامنا فتقدم خالد بن الوليد فبايع، ثم تقدم عثمان بن أبى طلحة فبايع، ثم تقدمت، فوالله ما هو إلا أن جلست بين يديه فما استطعت أن أرفع طرفى حياء منه، فبايعته على أن يدعو الله سبحانه وتعالى أن يغفر لى ما تقدم من ذنبى، فقال إن الإسلام يجب ما قبله والهجرة تجب ما قبلها، فوالله ما عدل بى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وبخالد بن الوليد أحدا من أصحابه فى أمر حزبه منذ أسلمنا» .
نقلنا الحديث بطوله، وكنا نود أن نحذف الجزء الأخير، وهو أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم لم يعدل أحدا من أصحابه. فإنا لا نحسب يمينه فى هذا برة إن كانت صحيحة النسبة إليه، لقد كانت بعد ذلك غزوة مؤتة وتبوك وفتح مكة المكرمة وهوازن وحنين فلم يعدل بهما على بن أبى طالب والزبير بن العوام وأبا عبيدة عامر بن الجراح، وسعد بن أبى وقاص. إن هذه اليمين غير البرة فرية عليه أو غير ذلك، ولماذا كان اللواء لزيد بن حارثة، ثم لجعفر بن أبى طالب، ثم لعبد الله بن رواحة، ولم يتولها خالد إلا حيث لم يكن وال يحملها.
ومهما يكن من أمر هذه اليمين، فإن ما جاء على لسانه يدل كما دل كلام صاحبه على أن إسلامهم ابتداء كان لمصلحة، وقد أشرب قلوبهم الإيمان من بعد.
هذا عمرو كان يقول لو أسلمت قريش كلها ما أسلم، ثم يخرج ببعض قومه ليحرض النجاشى على المؤمنين، ويحاول أن يتمكن من قتل رسول من عند رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فيلطمه النجاشى لطمة جدعت أنفه. هذه اللطمة هى التى نبهته إلى الحق، أم نبهه غضب النجاشى، وإرادة إرضائه. ليس فى الوقائع التى ذكرها ما يدل على أنه رأى فى النبى صلى الله تعالى عليه وسلم أن الله مانعه، فهو لم ير شيئا من ذلك، ولذلك نقول إن إسلامه كان لمصلحته الشخصية الدنيوية ولعل الإسلام قد دخل قلبه من بعد ذلك حتى صار إيمانا، وهذا ما رجحناه.
وفى قصة عمرو بن العاص عن نفسه ما يدل على أنه رجل لا يظهر فى الهيجاء، ويبغى لنفسه الانحياز عن مواطن الردى، فهو يحضر بدرا، وينجو، وأحدا وينجو، والخندق وينجو، ويظهر أنه لم يقتل ولم يقاتل بل كان من النظارة أو المدبرين، كما كان شأنه فى القتال بين إمام الهدى على بن أبى طالب ومعاوية يدبر فى حرب البغاة.
وسيأتى من الأنباء مقامه هو وخالد بجوار صحابة النبى صلى الله تعالى عليه وسلم الذين رضى الله تعالى عنهم، ورضوا عنه فى بيعة الرضوان.