53- جاء ذكر محمد عليه الصلاة والسلام فى التوراة بالإشارة الواضحة، ومع أنه جرى فيها التغيير والتبديل لم يمح ذلك ما فيها من إشارات بينات واضحات إلى رسالته عليه الصلاة والسلام مما جعل اليهود يعرفونه على وجه اليقين، كما يعرفون أبناءهم، واستفتاحهم على المشركين به قبل أن يبعث، فلما بعث كفروا.
وقد عنى الأستاذ عبد الحق ببيان النصوص العبرية التى فيها البشارة بالنبى صلى الله تعالى عليه وسلم، وكانت ترجمتها هى «إن الرب جاء من سيناء ونهض من ساعير لهم، وسطع من جبل فاران، وجاء مع عشرة الاف قديس وخرج من يمينه نار شريعة لهم» .
وجبل فاران إنما هو بمكة، وقد قال عبد الحق فى ذلك: «إن الشواهد القديمة جميعا تنبيء عن وجود فاران فى مكة، وقد قال المؤرخ جيرون، واللاهوتى يوسبيوس إن فاران عند بلاد العرب على مسيرة ثلاثة أيام إلى الشرق من أيلة، ولا يكتفى بالنقل العبرى وترجمته، بل ينقل عن النص العربى المترجم أن إسماعيل سكن برية فاران بالحجاز، ثم يقرر أن سفر العدد من العهد القديم جاء فيه أن بنى إسرائيل ارتحلوا
__________
(1) سورة الأعراف: 156، 157.
من برية سيناء فحلت السحابة فى برية فاران.. ويستنبط من ذكر عشرة الالاف الذين ذكروا على أنهم محمد وأصحابه عندما خرجوا فى غزواتهم إلى مكة، وإلى الشام، فقد بلغوا هذا العدد، وكانوا من الصحابة الأطهار. ويسوق ما جاء فى التوراة من أن موسى كليم الله تعالى بشر بمحمد عليه الصلاة والسلام بقوله: «إن نبيا مثلى سيقيم الرب إلهكم من إخوانكم أبناء إبراهيم» .
ويسترسل الكاتب المحقق فى بيان ما جاء بالتوراة من إشارات فيذكر أن عبارة «نبى من أبناء إبراهيم مثلي» تثبت أنه محمد عليه الصلاة والسلام، إذ لم يجيء أى نبى بعد موسى عليه السلام بشريعة كاملة تبين كل الأحكام غير القران الكريم الذى نسخ بعض الأحكام التى جاءت فى التوراة «1» .
وهكذا نجد التوراة قد بشرت بالنبى وإشارات التبليغ قائمة فيها، حتى بعد أن عراها التغيير والتبديل.
وإن هذا الكلام لا يبشر فقط بالنبى عليه الصلاة والسلام، بل يبين مكان الرسالة، ومنبعثها الذى تعم منه مشارق الأرض ومغاربها، ففاران كما جاء فى أخبار المؤرخين والمحققين من الكتاب الأقدمين، كان بينها وبين أيلة مسيرة ثلاثة أيام، وكما جاء فى كثير من أقوال المؤرخين كانت حول مكة أو بمكة.
وقد ذكر الأحمديون الذين عنوا بترجمة معانى القران الكريم، وإن كنا نخالفهم فى أصل ترجمة القران، كما نرى الرأى المبطل لاعتقادهم، مع ذلك نأخذ كلامهم فى التبشير بالنبى صلّى الله عليه وسلّم، فإن اللؤلؤة الفائقة لا تهون لهوان غائصها الذى استخرجها، والحكمة ضالة المؤمن يلقفها أنى وجدها.
ذكر الأستاذ المرحوم العقاد ما قاله الأحمديون، فقال:
«ومن الجماعات التى عنيت عناية خاصة بهذه النبوات جماعة الأحمدية الهندية التى ترجمت القران (أى معانيه) إلى اللغة الإنجليزية، فإنها أفردت للنبوات والطوالع عن ظهور محمد عليه الصلاة والسلام بحثا مستفيضا فى مقدمة الترجمة.. قالت فيه إن نبوءة موسى الكليم تشتمل على ثلاثة أجزاء، وهى التجلى فى سيناء، وقد حصل فى زمانه، والتجلى من ساعير، أو جبل أشعر، وقد تجلى فى زمن السيد المسيح، لأن هذا الجبل، على قول الجماعة الأحمدية، واقع حيث يقيم أولاد يعقوب الذين اشتهروا بعد ذلك بأبناء أشعر، وأما التجلى الثالث فمن أرض فاران، وهى أرض التلال التى بين المدينة ومكة.
وقد جاء فى كتاب (فصل الخطاب) أن الأطفال يحيون الحجاج فى تلك الأراضى بالرياض من برية فاران ... وقد أصبح أبناء إسماعيل أمة كبيرة، كما جاء فى وعد إبراهيم، فلا يسعهم شريط من الأرض على تخوم كنعان ولا وجه لإقامتهم، حيث أقام العرب المنتسبون إلى إسماعيل، ولا باعث لهم
__________
(1) الكتاب المذكور ص 150.
على انتحال هذا النسب، والرجوع به إلى جارية مطرودة من بيت سيدها، وقد جاء فى التوراة أسماء ذرية إسماعيل الذين عاشوا فى بلاد العرب.
ومن نبوءة أشعياء التى سبقت مولد السيد المسيح بسبعمائة سنة أن أبناء أسماعيل كانوا يقيمون بأرض الحجاز، ففى هذه النبوءة يقول النبى أشعياء فى الإصحاح الحادى والعشرين: «تبيتين بقوافل الدادانيين، هاتوا ماء لملاقاة العطشان، بإسكان أرض تيماء، وأووا الهارب بخبره، فإنهم من أمام السيوف قد هربوا، من أمام السيف المسلول، ومن أمام القوس المشدودة، ومن أمام شدة الحرب، فإنه هكذا قال إلى السير فى مدة سنة كسنة الأجير يفنى كل مجد فيدا» . ويقول المترجمون من الجماعة الأحمدية فيفسرون هزيمة فيدا بهزيمة المكيين فى وقعة بدر، وهى الهزيمة التى نزلت بهم فى وقعة بدر بعد هجرة النبى صلّى الله عليه وسلّم إلى المدينة «بنحو سنة كسنة الأجير» «1» وهذا النص يشير، وكل تبشيرات الكتب بالأخبار المستقبلة تكون بالإشارة التى لا تخفى على المتأمل، وربما لا يفهمها من يأخذ بظواهر الألفاظ، لا بمراميها وغاياتها، وإن التفسير بالظواهر لا يجدى ولا يؤدى معانى، والاتجاه إلى المرامى التبشيرية يجعل للألفاظ معانى قائمة بذاتها وواضحة.
ويسوق جماعة الأحمدية فى مقدمة تفسيرهم بالإنجليزية، فينقلون عن إصحاح فى سفر أشعياء، «وهو يرفع راية للأمم من بعيد، ويصف لهم من أقصى الأرض، فإذا هم بالعجلة يأتون، وليس فيهم وازع ولا عائر، لا ينعسون ولا ينامون، ولا تنحل حزم حقائبهم، ولا تنحل سيور أحذيتهم، سهامهم مملوءة، وجميع قسيهم ممدودة، حوافر خيلهم كأنها الصوان» .
وإن هذا النص يدل على الدعوة إلى الحج، وهى قد تدل على بعض قوله تعالى: وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجالًا، وَعَلى كُلِّ ضامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ. لِيَشْهَدُوا مَنافِعَ لَهُمْ، وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُوماتٍ عَلى ما رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعامِ، فَكُلُوا مِنْها، وَأَطْعِمُوا الْبائِسَ الْفَقِيرَ «2» .
وجاء فى سفر أشعياء فى الإصحاح الثامن: «ولا تقولوا فتنة لكل ما يقول هذا الشعب فتنة، ولا تخافوا خوفة ولا زهوا، وقدسوا رب الجنود فهو خوفكم وهو رهبتكم، ويكون مقدسا، وحجر كل صدمة، وصخرة عثرة وكما شرقا لسكان أورشليم، فيعثر بها كثيرون، ويسقطون فيتكسرون، ويعلقون فليفظون، صدا شهادة، أختتم الشريعة بتلاميذى، فاصطبر للأب السائر وجهه فى بيت يعقوب» .
__________
(1) الكتاب المذكور ص 17.
(2) سورة الحج: 27، 28.
ذاك، وإننا نرى أن الإشارة بعيدة أو أن الدلالة يعسر إدراكها على وجه يقينى، وحسبنا ما مضى من نقول ففيها ما يكفى.
,
184- قد ذكرنا فيما مضى إشارة إلى أن اليهود كانوا يستفتحون على الذين كفروا من الوثنيين بنبى مرسل يكون لهم، ويكون على الوثنيين، ينصر اليهود، ذكرنا بالإشارة، ولكن فى هذا المقام لا تغنى الإشارة عن العبارة، فلابد من أن نذكر بعض الإيضاح ليتبين الباحثون من معرفة أن العصر كانت فيه البيانات الكافية التى تبين أن رسولا من قبل الله تعالى وشيك أن يظهره الله تعالى بينهم مصحوبا بحجته، مبينا باياته ودعوته.
ولم يكن ذكر النبى عليه الصلاة والسلام لمن عاصروه من الأوس والخزرج فقط، بل كان من قبل أن تقع الحروب بين اليهود وبينهم.
فقد ثبت فى التاريخ أن تبعا أبا كريب اليمنى جاء إلى يثرب وأحنقه أن بعض أهلها قتل رجلا من رجاله، فقاتلهم، وبينا تبع على ذلك من قتالهم إذ جاءه حبران من أحبار اليهود من بنى قريظة، وهما عالمان بأصول الديانة اليهودية ومصادرها، والمخبوء من وثائقها، وقالوا له:
«أيها الملك لا تفعل، فإنك إن أبيت إلا ما تريد، حيل بينك وبينها، ولم نأمن عليك العقوبة» فقال لهما: ولم ذلك: قالا: «هى مهاجر نبى يخرج من هذا الحرم من قريش تكون داره وقراره» «1» .
ولقد كانت أخبار اليهود بنبى يجيء تشيع فى يثرب، وتنتقل إلى أهلها طبقة بعد طبقة، وكان من أسباب مسارعة الأنصار للاستجابة للنبى عليه الصلاة والسلام، وكان لهم بذلك علم بالكتاب أتى إليهم من اليهود، وقد ذكر قتادة عن رجال قومه، والسبب فى مسارعتهم إلى إجابة النبى عليه الصلاة والسلام إلى النصرة والإيمان فقال:
«إن مما دعانا إلى الإسلام مع رحمة الله، وهداه لنا لما كنا نسمع عن رجال يهود، وكنا أهل شرك وأوثان، وكان عندهم علم ليس لنا، وكانت لا تزال بيننا وبينهم شرور، فإذا نلنا منهم بعض ما يكرهون، قالوا لنا إنه قد تقارب زمان نبى يبعث الان نقاتلكم معه قتل عاد وإرم، فكنا كثيرا ما نسمع ذلك منهم، فلما بعث الله رسوله صلى الله تعالى عليه وسلم أجبناه حين دعانا إلى الله تعالى، وعرفنا مما كانوا يتوعدوننا به، فبادرناهم إليه، فامنا به وكفروا» «2» .
ولم يكن اليهود يذكرون خبر النبى عليه الصلاة والسلام مقتصرين على الخبر، بل يذكر مع ذلك الإيمان باليوم الاخر، والجزاء بالنعيم المقيم، أو بالجحيم، ويظهر أنهم لم يكونوا من الذين ينكرون البعث، ففيهم من يصدقه، ومنهم من يكفر به.
ولقد ذكر بعض من الأنصار، وهو سلمة بن سلام، فقال:
«كان لنا جار من يهود بنى عبد الأشهل، فخرج علينا من بيته، حتى وقف على بنى عبد الأشهل؛ فذكر القيامة والبعث والحساب والميزان، والجنة والنار. فقالوا له: ويحك، أو ترى هذا كائنا: أن الناس يبعثون بعد موتهم إلى دار فيها جنة ونار، يجزون فيها بأعمالهم!! قال نعم، والذى يحلف به ... فقالوا له: ويحك، فما اية ذلك! قال: نبى مبعوث نحو هذه البلاد، وأشار بيده إلى مكة المكرمة واليمن، فقالوا:
ومتى نراه، قال سلمة: فنظر إلى وأنا من أحدثهم سنا فقال: «إن يستنفد هذا الغلام عمره يدركه» «3» .
قال سلمة: «فو الله ما ذهب الليل والنهار، حتى بعث الله محمدا رسول الله، صلى الله عليه وسلم وهو حى بين أظهرنا، فامنا به، وكفروا به بغيا وحسدا» .
ولقد عرف بعض اليهود وصف النبى عليه الصلاة والسلام وفيه إنه يسبق حلمه جهله، فهو لا يحمق.
__________
(1) البداية والنهاية ج 2 ص 164.
(2) سيرة ابن هشام ج 1 ص 211.
(3) سيرة ابن هشام ج 1 ص 211.
ولقد روى عن عبد الله بن سلام الصحابى أنه قال: لما أراد الله تعالى هدى زيد بن سمية، قال:
لم يبق شيء من علامات النبوة إلا عرفتها فى وجهه صلى الله تعالى عليه وسلم حين نظرت إليه إلا اثنتين، لم أخبرهما منه، يسبق حلمه جهله، ولا تزيده شدة الجهل عليه إلا حلما، فكنت أتلطف له لأن أخالطه، فأعرف حلمه وجهله» فذكر قصة إسلافه للنبى صلى الله تعالى عليه وسلم مالا فى ثمرة.
قال: فلما حل الأجل أتيته، فأخذت بمجامع قميصه وردائه، وهو فى جنازة مع أصحابه، ونظرت إليه بوجه غليظ، وقلت: يا محمد، ألا تقضينى حقى، فو الله علمتكم يا بنى عبد المطلب لمطل. فنظر إلى عمر، وعيناه تدوران فى وجهه كالفلك المستدير، ثم قال: يا عدو الله أتقول لرسول الله عليه الصلاة والسلام ما أسمع، وتفعل ما أرى، فو الذى بعثه بالحق لولا ما أحاذر لومه لضربت بسيفى رأسك، ورسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ينظر إلى عمر فى سكون وتؤدة، وتبسم ثم قال: أنا وهو كنا أحوج إلى غير هذا منك يا عمر: أن تأمرنى بحسن الأداء، وتأمره بحسن الطلب، اذهب به يا عمر، فاقضه حقه وزد عشرين صاعا من تمر، فأسلم» .
185- هذه نقول تاريخية ثابتة تبين أن العصر الذى بعث فيه عليه الصلاة والسلام كان عصرا يدور فيه كلام حول نبى يرسل، وقد كان لهذا الكلام مصدران:
أولهما- ما كان يحاوله الذين أرادوا إحياء ملة إبراهيم عليه السلام، فقد كان بعض من أهل مكة المكرمة يؤمنون بضرورة إحياء ملة إبراهيم الحنيفية السمحة، وقد وجدوا بفطرتهم أن الله لا يدع ذربة إبراهيم بورا لا هادى يهداهم، ولا مرشد يرشدهم. وقد رأيت من خرجوا على أقوامهم، واطمأن بعضهم إلى النصرانية فدخلوها، وبعضهم أخذ يطوف فى الأرض حيث يبحث عن عقائد سليمة لا تدخلها الوثنية، ومات شهيدا فى طلب الحقيقة، وذكر محمد صلى الله عليه وسلم من بعد بعثته أن الله تعالى سيبعثه أمة واحده، فرضى الله تعالى عنه.
ثانيهما- الكتب السابقة، وأقوال الأحبار والرهبان، وعلماء الأخبار من اليهود والنصارى، فبحيرى الراهب كان قد لقى محمدا صلى الله تعالى عليه وسلم غلاما، وطبق الأوصاف التى لديه، ونسطورا الراهب قد لقيه وهو شاب، كانت أخبار اللقاءين تذيع وتشيع عند العرب، وفوق ذلك كان نصارى نجران وغيرهم يذكرون للناس ترقبهم لنبى منتظر، كانت أوصافه لديهم وكان محمد أكثر ذكرا، لا أنهم يريدون إعلان حقيقة، أو ابتغاء هداية، بل شفاء غيظهم، وإطفاء نار حقدهم أو التمادى فيه، فقد كانوا يعلنون ذلك عندما تحز فى أجسامهم سيوف الوثنيين، فيذكرون خبره، ويقولون: سنقتلكم معه، كما قتل عاد وإرم.
بهذا انتشر خبر مجيء النبى عليه الصلاة والسلام، وتوقع المفكرون مجيئه وأن زمانه قد حان، فجاء مصدقا لما بين يديه من الكتب التى لم تحرف، رحمة للعالمين، وهاديا للحق، ونصيرا له، وقد أيده الله تعالى بالحجة الباهرة.
,
186- تذكر كتب السيرة أن الكهان قد بشروا بالنبى صلى الله تعالى عليه وسلم، وقد كان فى نيتنا أن نعرض عن ذلك الكلام، لأنه فتح لباب الأوهام فى سيرة سيد الأنام، نبى الحق والعقل وبعث المدارك نحو الحقيقة، من غير أن يسيطر عليها وهم، أو يتغلغل فيها خرافة ليست قائمة على حكم العقل، أو الخبر الصادق المنقول باسناد صحيحة.
ولأن هذه الأخبار عن الكهان ليست ثابتة بسند صحيح يطمأن إليه، ولأنه لم يثبت أن النبى عليه الصلاة والسلام قبل البعثة كان يلجأ إلى الكهان، أو يطمئن إلى أقوالهم، ولأنه إذا كان الكهان قد قالوا شيئا فى البشارة بالنبى صلى الله تعالى عليه وسلم وكانت صادقة، فإن ذلك قد يكونون علموه من الكتب السابقة أو أصحابها، وقد كانوا قبل البعثة علماء العرب، وربما يكونون قد أخذوا يبثون ما عندهم فى شكل الكهانة، وفى سجع الكهان الذى نهى عنه النبى صلى الله تعالى عليه وسلم بعد بعثته.
كنا نوينا ترك الكلام فى الكهانة، لأن الضرر فى ذكرها أكبر من نفعها.
ولكنا حملنا على الكتابة فيها.. أولا- لأن بعض كتاب السيرة من المحدثين تعرضوا لها مصادقين، وأن المستشرقين قد اتخذوها ذريعة لربط الدعوة المحمدية بالكهان، وللربط بين القران المنزل رحمة للعالمين وسجعهم، ولأن بعض الكاتبين توهم تبعا لهم أن النبى صلى الله تعالى عليه وسلم كان يديم السماع للكهان قبل البعثة. فوجب التصدى.
187- ونبتديء من الكلام في أخبار الكهان بخبر نسب إلي سيف بن ذي يزن الحميري، وقيل إنه من هواتف الجان فقد جاء في كتاب هواتف الجان، وإليها تنسب كهانة الكهان، جاء في هذا الكتاب ما نصه بعد أن التقي بعبد المطلب: «أيهم المتكلم؟ قال: أنا عبد المطلب بن هاشم «1» قال: نعم. ادن مني، فأدناه ثم أقبل عليه وعلى القوم: قال «مرحبا وأهلا، وناقة ورحلا، ومستناما سهلا، وملكا ربجلا، يعطى عطاء أهل الليل والنهار، ولكم الكرامة ما أقمتم، والحباء اذا ظعنتم» .
__________
(1) لأن أم عبد المطلب من بنى النجار وأصلهم من اليمن- الرحل كثير العطاء.
بعد هذا مكثوا شهرا لا يصلون إليه، ولا يأذن لهم بالانصراف، ثم انتبه انتباهة، فأرسل إلى عبد المطلب فأدنى مجلسه وأخلاه ثم قال: «يا عبد الله إنى مفض إليك من سر علمى ما لو يكون غيرك لم أبح به، ولكنى رأيتك معدنه، فأطلعتك طليعة، فليكن عندك مطويا، حتى يأذن الله تعالى فيه، فإن الله تعالى بالغ أمره. إنى أجد فى الكتاب المكنون، والعلم المخزون الذى اخترناه لأنفسنا، واحتجّناه دون غيرنا، خبرا عظيما، وخطرا جسيما، فيه شرف الحياة، وفضيلة الوفاء للناس عامة، ورهطك كافة ولك خاصة» .
فقال عبد المطلب: مثلك سر وبر، فما هو فداؤك أهل الوبر زمرا بعد زمر.
قال سيف بن ذى يزن ساجعا سجع الكهان: «إذا ولد بتهامة، غلام به علامة، بين كتفيه شامة، كانت له الإمامة وله به الزعامة إلى يوم القيامة» .
قال عبد المطلب: - أبيت اللعن- لقد أتيت بخبر ما اب به وافده، ولولا هيبة الملك وإجلاله وإعظامه لسألته من بشارته إياى ما أزداد به سرورا.
قال ابن ذى يزن.: «هذا حينه الذى يولد فيه، أوقد ولد. اسمه محمد صلّى الله عليه وسلّم يموت أبوه وأمه، ويكفله جده وعمه، وقد تاه مرارا؛ والله باعثه جهارا، وجاعل منا أنصارا يعزيهم أولياءه، ويذل بهم أعداءه، ويضرب بهم الناس من عرض، ويستبيح بهم كرائم الأرض، يكسر الأوثان، ويخمد النيران، يعبد الرحمن، ويدحر الشيطان، قوله فصل، وحكمه عدل، يأمر بالمعروف ويفعله، وينهى عن المنكر ويبطله.
قال عبد المطلب: عز جدك وعلا كعبك، ودام ملكك، وطال عمرك، فهذا نجارى، فهل الملك سار لى بإفصاح، فقد أوضح لى بعض الإيضاح.
قال ابن ذى يزن «والبيت ذى الحجب، والعلامات على النقب، إنك يا عبد المطلب لجده غير كذب» .
فخر عبد المطلب ساجدا، فقال: ارفع رأسك، ثلج صدرك، وعلا أمرك، فهل أحسست شيئا مما ذكرت لك.
قال عبد المطلب: كان لى ابن، وكنت به معجبا، وعليه رفيقا، فزوجته كريمة من كرائم قومه، امنة بنت وهب. فجاءت بغلام سميته محمدا، فمات أبوه وأمه، وكفلته أنا وعمه» .
قال ابن ذى يزن: «إن الذى قلت لك كما قلت، فاحتفظ بابنك، واحذر عليه اليهود، فانهم له
أعداء، ولن يجعل الله لهم عليه سبيلا، واطو ما ذكرت لك دون هؤلاء الرهط الذين معك، فإنى لست امن أن تدخل عليهم النفاسة من أن تكون لكم الرياسة، فيطلبون الغوائل، وينصبون له الحبائل، فهم فاعلون أو أبناؤهم، ولولا أنى أعلم أن الموت مجتاحى قبل مبعثه، لسرت بخيلى ورجلى حتى أصير بيثرب دار مملكته، فإنى أجد فى الكتاب الناطق، والعلم السابق، أن بيثرب استحكام أمره، وأهل نصرته، وموضع قبره، ولولا أنى أقيه الافات وأحذر عليه العاهات لأعلنت على حداثة سنه أمره، ولأوطأت أسنان العرب عقبه، ولكنى صارف ذلك إليك عن غير تقصير لمن معك» «1» .
188- هذا كتاب ما فيه بلا ريب حق من حيث البشارة بالنبى صلى الله تعالى عليه وسلم ولعله إن صدقت النسبة إلى سيف بن ذى يزن يكون مصدره ما وصل إليه من علم، فقد كان نصرانيا متعرفا، ولم يكن وثنيا أميا. ولا يمكننا أن نقول أن ابن ذى يزن من الكهان، وإن وجد الموضوع فى كتاب هواتف الجان، ويقال إن الكهان كانوا يخاطبون بهواتف الجان، ونقول إن فيه سجع الكهان، وإن لم يستغرقه، بل كان فيه بعضه، ولعل هذا من صنيع الكهان، وقد أرادو أن يجعلوه من الكهان بعبارات السجع فيه أولا، وجعله فى كتاب هواتف الجان ثانيا.
وفى الواقع أن الحديث كما ذكر ممن له علم بالكتاب وكان مستفيضا مشهورا.
ومن ذلك ما روى بالأسانيد الصحيحة عن بعض المضريين قال:
شارفنا الشام، ونزلنا على غدير به شجرات، فسمع كلامنا راهب، فأشرف علينا فقال: «إن هذه لغة ما هى بلغة هذه البلاد، فقلنا: نعم. نحن قوم من مضر، قال: من أى مضر؟ قلنا: من خندف.
قال: أما إنه سيبعث وشيكا نبى خاتم النبيين، فسارعوا إليه، وخذوا بحظكم منه ترشدوا، فقلنا ما اسمه، قال اسمه محمد صلّى الله عليه وسلّم «2»
وإنه بلا ريب نرى هذا الخبر الذى سقناه يتلاقى مع خبر ابن ذى يزن، بيد أنه لا سجع فيه، ولا ينسب إلى هواتف الجان بل ينسب لراهب من الرهبان نسبه إلى ما عندهم من كتب، لا إلى هواتف من الجان.
189- فنحن إذا وجدنا فى عبارات الكهان ما يوميء إلى ذكر النبى صلى الله تعالى عليه وسلم، فليس من هواتف الجان، أو من علم الكهان وليس مصدره الكهانة، ولكنهم علموه مما يجرى على ألسنة الرهبان، وما تنطق به كتبهم. وما عرف من علم.
__________
(1) البداية والنهاية لابن كثير ج 2 ص 330.
(2) الكتاب المذكور ص 331.
ومن ذلك مثلا قول سطيح الكاهن: إذا كثرت التلاوة، وغاضت بحيرة ساوة، وجاء صاحب الهراوة.... مع غيره.
وقال ابن كثير إنه يعنى النبى عليه الصلاة والسلام، ونرى أولا- أن النبى ما جاء بالهراوة بل جاء برد اعتداء الباطل على الحق بالسيف لا بالهراوة، وثانيا- أنه على فرض أن المراد النبى عليه الصلاة والسلام فذلك مما شاع بين العرب من أنه سيكون نبى منتظر، وأن أهل الكتاب يذكرونه بينهم خاصة، ويعلنونه عند الاقتضاء للعامة، سواء فى ذلك اليهود والنصارى وإن كان إعلان النصر أوضح وأبين، واليهود يعلنونه عند الشديدة تنزل بهم فى حروبهم مع الوثنيين، يعلنون مجيء النبى عليه الصلاة والسلام كما جاء فى كتبهم تثبيتا لأنفسهم وتخذيلا لخصومهم وتعلقا بالرجاء، وتشفيا من الأعداء بالمستقبل، فكان السبق لأعدائهم، والتخلف لهم، فكان به المال لغيرهم والحال عليهم، وهم الأخسرون دائما إن شاء الله.
,
189- إن محمدا عليه الصلاة والسلام كان يعيش فى مكة المكرمة وهى مدينة أمية لا تقرأ كتابا، ولا تتدارس علما، وكان كأهلها، لا يجلس إلى درس ولا إلى معلم، وإذا كان بعض أهله يعلم القراءة والكتابة، فما كان محمد صلي الله عليه وسلم يعلمها، وما يمتاز به على أهل مكة المكرمة هو خلقه وقوة إدراكه وابتعاده عن عبادة الأوثان واستنكارها، وكراهية الأوثان والحلف بها، من غير أن يكاره قومه، ويعلن بغضهم، بل ما كان يبغض غير قومه، بل كان الودود الألوف، وإن كان لا يسايرهم فيما يفعلون، بل كان ينكر ويستنكر، ولا يلاحى ولا يغاضب، ولا ينافر.
وإن أقصى ما كان يريد معرفته من الديانات هو ديانة إبراهيم، لأن اثاره قائمة بينة؛ وبعض الديانة كان يتبع مع انحراف فى بعضها، وهو الحج، وكانوا يتفاخرون بانتسابهم إلى إبراهيم، وهو يعلم أنه جدهم ونبى مرسل، ويريد محمد صلى الله عليه وسلم مع تركه الأوثان أن يعرف ما كان يأمر به إبراهيم عن ربه، وقد علم هو أنه الواحد الأحد الفرد الصمد الذى ليس بوالد، ولا ولد.
أما غيره من الأنبياء كموسى وعيسى وداود وسليمان، وخصوصا ما كان من دقائق علمهم كالنص على رسول يجيء من بعد موسى وعيسى، وكونه من جبال فاران، أى جبال مكة المكرمة، كما تعبر كتبهم، أو تشير إليه من غير إيضاح واضح، وخصوصا عندما عراها التحريف ونسوا حظا مما ذكروا به.
وإن النبى عليه الصلاة والسلام كان يتحدث عنه، ولا يتحدث هو معهم، وإنه عندما التقى ببحيرا الراهب صغيرا كان قومه يتحدثون عنه، ولم يعرف التاريخ أنهم ذكروا له ما حدث به الراهب.
وكذلك الأمر فى رحلته الثانية بعد أن صار شابا سويا، كان الحديث عنه، ولم يثبت أن الحديث كان معه.
وهكذا إذا كان يتلقى الكلام فى نبى منتظر، فإنه يتلقاه كما يتلقى قومه، ولم يعرف أنه كانت له عناية خاصة بتاريخ النصارى؛ ولا بأخبار اليهود ولا بشيء من ذلك، بل عنايته فى مطلع حياته بكسب الرزق؛ وفى شبابه الأول بالتجارة، ثم بعد أن توافر له الرزق انصرف إلى العبادة والتحنف الليالى والشهور، وفى كل أحواله كان كثير التأمل، يدرس الخالق من خلقته، والمنشيء مما أنشأه.
ولكن كتاب الفرنجة يدعون أن محمدا عليه الصلاة والسلام كان قبل البعثة يتتبع أخبار اليهود، ويستمع إلى ما يحدث به أحبار اليهود، ورهبان النصارى، وأنهم يرمون بهذا إلى أمرين:
أحدهما: إثبات أن محمدا عليه الصلاة والسلام ما وصل إلى ترك الأوثان إلا بتعاليم اليهود والنصارى، وأنه ما وصل إليها بمنطقه وفطرته وبقايا ديانة إبراهيم عليه السلام، وكأنهم يريدون أن يصوروا ما كان دون زيد بن نفيل وورقة بن نوفل، وقد ثبت أنه كان يكره اللات والعزى وهو فى الثانية عشرة من عمره، وقد ثبت ذلك فى أخبار بحيرا الراهب.
وثانيهما: ادعاء أن القران الكريم أخذ أخبار النبيين وقصصهم من التوراة والإنجيل، وأن العلم بهذا علم تلق، وليس بوحى من الله تعالي، مع أنه من الثابت أن قصص الأنبياء فى القران هو الصادق الذى لا يمترى فيه، وغيره فيه الفساد والضلال كخبر سكر لوط، ومواقعته ابنتيه، وكزنى داود بامرأة قائد جيشه فهى أكاذيب ليست فى القران الكريم.
وقد تبعهم بعض المغترين بهم من الكتاب عن نية حسنة، ولم يدركوا خبيئة نفوسهم، وخبث تفكيرهم.
ألا فليتركوهم واستنباطهم، وليتتبعوا أخبار النبى عليه الصلاة والسلام من كتب السيرة الدقيقة البعيدة عن الأوهام، وليتركوا اتباع الاستنباط الفاسد، من غير خبر تاريخى يؤيده، ولا سند صادق يزكيه.
وليعلموا أن النبى عليه الصلاة والسلام كان بعيدا عن الأحبار والرهبان، وما كان يصدق كهانة الكهان، ونهى بعد البعثة عن الاستماع إلى الكهان، وكان يستنكر سجع الكهان، ويستنكر تصرف من يحاكيهم.
خاتم النبيين