440- الرجيع مكان على ثمانية أميال من عسفان، وقد قال ابن كثير تابعا للواقدى (غزوة الرجيع) وما ارتضينا ذلك العنوان، إلا لأنه كان الأمر فيه أمر خيانة وغدر من بعض المشركين بتحريض من قريش، لينالوا بعض ما بقى من ثأرهم، وإنه لا يزال كثيرا كما ذكرنا، فأكثر الذين وتروهم من شجعان المسلمين لا يزالون يحملون السيوف، ليخوضوا بها في صفوف المشركين مرة أخرى أو مرات.
وقصة الرجيع كما روتها السيرة وصحاح السنة، هى قصة غدر ولؤم بتحريض من المشركين.
قدم على رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم بعد غزوة أحد رهط من عضل والقارة، وهما بطنان من الهون بن خزيمة بن مدركة.
قالوا: يا رسول الله إن فينا إسلاما، فابعث معنا نفرا من أصحابك يفهموننا الدين، ويقرئوننا القرآن، ويعلموننا شرائع الإسلام. فبعث رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم نفرا من أصحابه. قال ابن إسحاق بسنده أن عدتهم ستة، وقال البخارى بسنده في صحيحه أن عدتهم عشرة، وقال ابن إسحاق إن الذى أمره رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم على وفد الإيمان والدعوة هو مرثد بن أبى مرثد الغنوى الذى كان أخا لحمزة بن عبد المطلب سيد الشهداء في المؤاخاة التى آخى بها النبى صلى الله تعالى عليه وسلم بين المهاجرين والأنصار.
وفي رواية البخارى أن الذى أمره عليهم رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم هو عاصم بن ثابت ابن الأفلح «1» ، وأن رواة الحديث والأخبار يرجحون رواية البخارى.
ويؤيد رواية البخارى الواقدى.
انطلق ذلك الوفد المؤمن مغادر المدينة متجها إلى عضل والقارة دعاة هداية، وليسوا محاربين، وما كانوا يعلمون أن القوم يأتمرون في غدر وخيانة وكذب لم يعرف في أشراف العرب.
حتى إذا كان الرجيع بين عسفان ومكة المكرمة، وهو بالهذيل غدروا بهم ونادوا مستصرخين وفوجيء وفد الهداية إلى الإسلام برجال بأيديهم السيوف قد غشوهم.
وأرادوا أن يأخذوهم بالغش والخديعة كما استنفروهم بها. فقالوا لهم: إنا والله ما نريد قتلكم ولكن نريد أن نصيب شيئا من أهل مكة المكرمة. وربما كانوا صادقين، وإن ذلك من انخداع العرب بما زعمه المشركون من نصر نالوه، وقد قالوا في خديعتهم: «لكم علينا عهد وميثاق ألا نقتلكم» .
فترت بذلك عزيمة بعض المؤمنين بعد أن أخذوا سيوفهم ليقاتلوا ويموتوا مجاهدين، ولا يموتوا مستسلمين.
قال عاصم بن ثابت، ومرثد بن أبى مرثد، وخالد بن بكير من العشرة الكرام أو الستة على اختلاف العدد، لا نقبل من مشرك عهدا ولا عقدا أبدا.
__________
(1) فى ابن هشام: ابن الأقلع.
وقد كانوا على حق، لأنهم ابتدؤا بالغدر والخيانة أو تسليط الغادرين الخائنين، وعلى فرض أنهم صادقون فيما يعاهدون عليه من أنهم لا يقاتلونهم فإنهم سيسلمونهم لأهل مكة المكرمة ليصيبوا منهم شيئا، ولا شك أن أهل مكة المكرمة سينزلون بهم أذى، القتل أقله.
ولذلك قاتل أولئك الثلاثة، وقتلوا، فاختاروا أن يقتلوا مجاهدين من أن يقتلوا مستسلمين، أما إخوانهم فلم يرتضوا ذلك الموقف الشجاع الذى كانت نهايته شهادة في غير استسلام واستخذاء، بل في قوة وإيمان وجهاد.
استسلم الباقون ظانين أن لهم عهودا، وقد ذكر منهم ابن إسحاق ثلاثة وهم: زيد بن الدثنة، وخبيب بن عدى، وعبد الله بن طارق.
ولنذكر بعض ما فعلوه بعاصم بن ثابت الذى أصاب من قريش في ميدان القتال، فقد أصاب فى أحد ابنى امرأة من قريش فنذرت إن تمكنت منه أن تشرب الخمر في قحفة عاصم، فلما قتل طلبت رأسه، وقد قيل، عند ما أرادت ذلك، نبه رجل أبا سفيان بن حرب كيف يصنع برأس ابن عمه فلم يستخف ولم يلم، وماذا ينتظر من أبى سفيان زوج هند التى فعلت ما فعلت، فلم ينكر، ولكن الله تعالى حمى رأس المؤمن التقى من أن يمسها الأنجاس فحامت حولها الزنابير لتحميها.
ولنتجه من بعد إلى الذين رضوا بمواثيق المشركين، ولم يتنبهوا إلى قول الله تعالى: لا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلًّا وَلا ذِمَّةً.
لقد أسروهم، ثم خرجوا بهم إلى مكة المكرمة ليبيعوهم بها، حتى إذا كانوا بالظهران، وهو واد قرب مكة المكرمة، استطاع أن يفك أحد الثلاثة عبد الله بن طارق يده من رباطها، وأخذ سيفه، فاستأخر عنه القوم، وباعدوه حينا من لقاء سيفه، ولكن رموه بالحجارة حتى قتلوه، فمات غير مستسلم، وإن كان قد وثق بعهدهم الذى عاهدوا عليه.
وأما الآخران خبيب بن عدى، وزيد بن الدثنة فقد باعوهما من قريش بأسيرين من هذيل كانا بمكة المكرمة.
فابتاع خبيبا بنو الحارث بن عمار بن نوفل، وكان خبيب هو الذي قتل أباهم الحارث يوم بدر فمكث عندهم أسيرا، يسومونه الخسف والهوان، ولكنه كان في سعة نفس من إيمانه، ومهما يروموه من إهانة، فنفس المؤمن لا تهون، وكأنه وثق بعهدهم ليرى الله تعالى الناس المؤمن إذا خدع، وصبره إذا أوذى ليرتفع إلى درجات المجاهدين بالصبر، كما هو مجاهد في ميدان القتال،
قدموه ليقتلوه صلبا، فاستأذنهم حتي يصلي ركعتين فصلاهما، ثم أقبل عليهم مستبشرا يقول للجلادين:
أما والله لولا أن تظنوا أنى إنما طولت جزعا من الموت، لاستكثرت من الصلاة.
ولقد علم النبى صلى الله تعالى عليه وسلم بصلاته عند القتل مستشهدا فأقره، فكانت سنة نبوية بإقراره عليه الصلاة والسلام.
رفعوه من بعد صلاته إلى خشبة الصلب، فلما أوثقوه قال: اللهم إنا قد بلغنا رسالة رسولك فبلغه الغداة ما يصنع بنا، اللهم أحصهم عددا، واقتلهم بددا، ولا تغادر منهم أحدا.
وهكذا مات خبيب بطلا في ميدان الجهاد النفسى، كما مات أصحابه عاصم ومن معه في جهاد مستشهدين، ولم يلقوا سيوفهم.
وهكذا قتلوا خبيبا صلبا وهو يقول صابرا:
ولست أبالى حين أقتل مسلما ... على أى شق كان في الله مصرعى
وذلك في ذات الإله وإن يشأ ... يبارك على أوصال شلو ممزع
وفي اليوم الذى صلب فيه خبيب صلب فيه أيضا زيد بن الدثنة. وكان صابرا راضيا مطمئنا، فى سعة من الإيمان، قال له عند صلبه زعيم الشرك أبو سفيان بن حرب: أنشدك الله يا زيد أتحب أن محمدا صلى الله تعالى عليه وسلم عندنا الآن في مكانك نضرب عنقه، وإنك في أهلك، قال: والله ما أحب أن محمدا صلى الله تعالى عليه وسلم في مكانه الذى هو فيه تصيبه شوكة تؤذيه، وإنى جالس في أهلى.
وعندئذ قال زعيم الطاغوت: ما رأيت من الناس أحدا يحب أحدا كحب أصحاب محمد (صلى الله تعالى عليه وسلم) محمدا، ثم قتل الشهيد الصابر.
وإن يوم الرجيع يدل على أمور ثلاثة:
أولها: ما كان من تحريض قريش من غدر وخيانة واستخدام أخس أنواع الخيانة.
وثانيها: أن قريشا لم يشتفوا لثاراتهم من بدر، وأنهم أنهوا الحرب في أحد غير مختارين، والا لبقوا حتى يأخذوا بكل ثاراتهم، وأنه قد جدت لهم في أحد ثارات أخرى.
وثالثها: أن العرب بسبب الدعاية التى قامت بها قريش من إشاعة أن محمدا صلى الله تعالى عليه وسلم قد هزم قد وجد فيهم من يعمل لحسابها، ويرجو رضاها، ولم يكن شىء من ذلك بين بدر وأحد، ولكنه كان بعد أحد لإشاعة الهزيمة الكاذبة. والله أعلم.