562- كان لا يزال فى الجزيرة العربية من بقايا خيثم وغيرها من يحاول محاربة رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم بعد أن ظهر نور الإسلام فى البلاد العربية، وبدأ قويا يحملهم على التفكير السليم فى العقيدة، وإن لم يكن لتطهير العقول من رجس الوثنية، فاتقاء لسوء المغبة.
بلغه عليه الصلاة والسلام أن رجلا له مكانة فى قومه من خيثم يريد أن يجمع قيسا على محاربة رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، فبعث أبا الحدود، ورجلين من المسلمين، وقال لهم عليه الصلاة والسلام: «اخرجوا إلى هذا الرجل، حتى تأتوا منه بخبر وعلم» .
وأركبهم على ناقة عجفاء، وقال: تبلغوا على هذه.
خرج الرجال الثلاثة ومعهم سلاحهم، وتحسسوا أمر ذلك الرجل، فوجدوه يجمع من يجمع من الناس، أو على استعداد لأن يجمع، فقتلوه بسهم أصاب فؤاده، وانتهى أمره.
واستمر أبو الحدود فى سريته حتى بعثه رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم إلى أضم، ونزلوا بطنه وقد مر رجل اسمه عامر بن الأضبط النخعى، فألقى السلام، فقتله رجل من المؤمنين اسمه مجشم ابن جثامة لعداوة كانت بينهما مع أنه ألقى السلام، إذ جاء غير مقاتل، ولا مريد للقتال.
وقد حدثت أمور فى هذه السرية الصغيرة دلت على مباديء سامية فى الإسلام.
أولها: أن أبا الحدود الذى بعثه النبى صلى الله تعالى عليه وسلم فى هذه السرية كان قد ذهب لرسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم يطلب مهر زواجه، وأن ذلك يدل على مدى قوة التعاون بين المؤمنين فى تلك الفترة من تاريخ الإسلام التى تعد نورا لكل الأزمان إن اتبع المسلمون مباديء الإسلام.
فقد روى أن أبا الحدود هذا الذى بعث بهذه السرية ذهب إلى النبى صلى الله تعالى عليه وسلم وقد تزوج امرأة من قومه فأصدقها مائتى درهم، ذهب إليه عليه الصلاة والسلام يستعين به على زواجه منها، فقال له النبى صلى الله تعالى عليه وسلم: كم أصدقتها؟ قال: مائتى درهم، فقال النبى صلى الله تعالى عليه وسلم: سبحان الله، والله لو كنتم تأخذونها من واد مازدتم، والله ما عندى ما أعينك به.
وقد أرسله على رأس هذه السرية لعله يصيب ما يصدق به امرأته.
وثانيها: أنه لا يصح قتل من ألقى السلام؟ لأن السلام يدافع، ولا يقتل من يسالم فقد نزل قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا وَلا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقى إِلَيْكُمُ السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِناً، تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَياةِ الدُّنْيا، فَعِنْدَ اللَّهِ مَغانِمُ كَثِيرَةٌ، كَذلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ، فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُوا إِنَّ اللَّهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً، وذلك عند قتل مجشم بن جثامة عامر بن الأضبط، وقد أسف ذلك النبى صلى الله تعالى عليه وسلم، وقال عليه الصلاة والسلام: «اللهم لا يغفر لمجشم» وكان دعاء النبى صلى الله تعالى عليه وسلم ذلك لأنه قتل نفسا بغير حق، وأن الله لا يغفر ذنوب من يعتدى على حقوق العباد، إلا بعفو ممن اعتدى عليه.
وقد طالب عيينة بن بدر بدم عامر بن الأضبط، وهو سيد قومه بنى عامر.
وقد كان الطلب تأخر إلى غزوة حنين فيما يظهر من السياق، فطلب إليه النبى صلى الله تعالى عليه وسلم أن يقبل خمسين بعيرا، حتى يرجع إلى المدينة المنورة فيعطيه خمسين، فرد، ثم قبل من بعد.
وأن النبى صلى الله تعالى عليه وسلم قد دفع الدية من بيت مال المسلمين وأن ذلك أكمل تعاون، وأكمل حرص على الدماء، مع أنه ثبت أن المقتول لم يكن قد أسلم.
وقد قال علماء السنة والسيرة أن السرايا والبعوث التى جاءت بعد خيبر ووادى القرى- لم تكن سرايا ذات خطر فى توجيه الحروب، ولكنها كانت لحوادث صغيرة، أو لبث روح الإجلال للإسلام، وفل شوكة من يريدون للإسلام نكاية، أو للتعرف بأحوال العرب، أو هى أشبه بالدوريات التى تمر بالبلاد احتياطيا، وتأديبا لكل من تحدثه نفسه بالاعتداء على المسلمين بأى نوع من الاعتداء.