605- عقب تحطيم خالد بن الوليد العزى أرسله النبى صلى الله تعالى عليه وسلم إلى جذيمة من كتامة داعيا إلى الإسلام، ولم يبعثه مقاتلا، لأنه لا قتال فى مكة المكرمة وما حولها من القرى والبوادى بعد أن دخلت مكة المكرمة فى طاعة النبى صلى الله تعالى عليه وسلم، ولم يكن ثمة حاجة إلى القتال ولم يكن منهم غدر أو خيانة، حتى يعاقبوا على غدرهم وخيانتهم.
أرسله صلى الله تعالى عليه وسلم ومعه قبائل من العرب من سليم بن منصور، ومدلج بن مرة، ومعهم بعض المهاجرين والأنصار كعبد الله بن عمر وسالم مولى أبى حذيفة.
وكانت عدة من خرج فيهم خمسين وثلاثمائة من بنى سليم والمهاجرين والأنصار.
قال لهم خالد: ما أنتم. قالوا: مسلمون قد صلينا وصدقنا بمحمد وبنينا المساجد فى ساحتنا، وأذنا فيها.
وكان حقا على خالد بن الوليد أن يكف عند هذا، لأن النبى صلى الله تعالى عليه وسلم ما أرسله مقاتلا، بل أرسله داعيا وهاديا، ولكنه تخلى عن هذه الصفة العالية، وأبى إلا أن يكون مقاتلا، وبرر ذلك بأنهم يحملون السلاح.
قال لهم: فما بال السلاح عليكم.
قالوا: إن بيننا وبين قوم من العرب عداوة، فخفنا أن تكونوا هم. وكان عليه بعد أن يكتفى بذلك، أو أن يتحرى عن صدق كلامهم، أو أن ينزع السلاح من أيديهم.
ولكنه لم يفعل، بل استأسرهم، بعد أن وضعوا السلاح كما أمر، وما كان له ذلك، فأوثقهم وفرقهم فى أصحابه.
وكان حقا عليه أن يأخذهم أسارى إلى النبى صلى الله تعالى عليه وسلم ليفعل فيهم ما يحكم الله تعالي، ولكنه فى السحر، نادى خالد بن الوليد، من كان معه أسير، فليضرب عنقه، فأما من كان معه من بنى سليم فقتلوا من فى أيديهم من الأسرى المنكوبين بخالد.
وأما المهاجرون والأنصار أصحاب رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم حقا وصدقا، فإنهم أرسلوا أسراهم، ولم يقتلوهم، لأن الأسرى لا يجوز قتلهم لأنهم مسلمون.
ويلاحظ أنه كان فيهم رجل أدرك نية خالد يقال له جحدم، ولم يعتقد أنها نية إسلامية، قال لقومه، لما أمرهم خالد بأن يضعوا أسلحتهم: يا بنى جذيمة إنه خالد، إنه خالد، والله ما بعد وضع السلاح إلا إسار، وما بعد الإسار إلا ضرب الأعناق. انتقل رجل من القوم، وذهب إلى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فقال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: هل أنكر عليه أحد؟ قال نعم: قد أنكر عليه رجل أبيض ربعة، وأنكر عليه رجل آخر طويل مضطرب، فاشتدت مراجعتهما فقال عمر بن الخطاب، أما الأول فابنى عبد الله يا رسول الله، وأما الآخر. فسالم مولى أبى حذيفة.
عندما بلغ النبى صلى الله تعالى عليه وسلم فعل خالد هذا رفع يده إلى السماء ضارعا: اللهم إنى أبرأ إليك مما صنع خالد بن الوليد.
ولقد رأى النبى صلى الله تعالى عليه وسلم أن فعل خالد لم يكن من الإسلام، ولعله رأى أنه بقية من بقايا الجاهلية.
أول ما فكر صلى الله تعالى عليه وسلم أن يرأب الصدع، ويداوى القلوب بالديات يرسلها، فدعا على بن أبى طالب، فقال صلى الله تعالى عليه وسلم: «يا على اخرج إلى هؤلاء القوم فانظر فى أمرهم، واجعل أمر الجاهلية تحت قدميك» . هذا أمر فى موضعه وفى وقته، فإن الجاهلية فى هذا الأمر قد بدت نائبة ظاهرة.
فخرج علي، ومعه مال كثير قد بعث به رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، فودى لهم الدماء، وما أصيب لهم من الأموال، حتى إذا لم يبق شيء من دم أو مال إلا وداه بقيت معه بقية من المال، فقال لهم على حين فرغ منهم: هل بقى لكم دم أو مال لم يود لكم؟ قالوا: لا، قال: أعطيتكم هذه البقية احتياطا لرسول الله مما لا يعلم ولا تعلمون.
جاء على إلى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فقص عليه ما صنع فقال أحسنت وأصبت، ولكن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم لا يزال على ألم وأسي، ولذا استقبل القبلة قائما شاهرا يديه، حتى إنه ليرى ما تحت منكبيه. «اللهم إنى أبرأ مما صنع خالد بن الوليد ثلاث مرات» ، لقد أصاب فعل خالد قلب النبى صلى الله تعالى عليه وسلم، لأنه قتل وهو مبعوثه أبرياء.
وقد ورد ما يدل على الاعتذار عن فعل خالد الذى لا يقبل الاعتذار، ولو كان عذر لأبداه للنبى صلى الله تعالى عليه وسلم: قالوا إنهم قالوا صبأنا صبأنا، يريدون أسلمنا، فظنهم قد كفروا فقتلهم، وهذا كلام غير مقبول فى ذاته لأن سنده ضعيف، وما كان له أن يقاتلهم على ذلك، وقد تبين أنهم
لا قدرة لهم على القتال، فكيف يقتلهم إنه إن صح ذلك لا يكون قتالا محمديا، فقد أسرهم، فلماذا يقتلهم فى السحر.
إن الأمر مهما يؤت من جوانبه لا يبرر فيه إلا العمل الجاهلي، وقد صرح بذلك خالد بن الوليد فى مجادلة مع عبد الرحمن بن عوف الذى كان يلومه.
قال ابن إسحاق: قد كان بين خالد بن الوليد، وعبد الرحمن بن عوف (الصحابى المهاجر أحد العشرة المبشرين بالجنة) كلام فى ذلك، قال له عبد الرحمن بن عوف عملت بأمر الجاهلية فى الإسلام، فقال خالد: «إنما ثأرت بأبيك، فقال عبد الرحمن، كذبت، قد قتلت قاتل أبي، ولكنك ثأرت لعمك الفاكه بن المغيرة، حتى كان بينهما شر» .
عبد الرحمن بن عوف يقول قولة الإسلام، وخالد يقول الثارات، وقد بلغ النبى صلى الله تعالى عليه وسلم ما قال خالد لعبد الرحمن بن عوف فقال لائما لخالد، مبينا له مكانه من أصحابه.
«مهلا يا خالد، دع عنك أصحابي، فوالله لو كان لك أحد ذهبا، ثم أنفقته فى سبيل الله ما أدركت غدوة رجل من أصحابى ولا روحته» .
نعم هم الأصحاب الذين رضى الله عنهم ورضوا عنه فى بيعة الرضوان تحت الشجرة.
ومهما يكن حكم التاريخ فى عمل خالد جاهلية وإسلاما، فإنه سيحكم لا محالة فى هذه الواقعة، بأن فيها جاهليته إن لم يكن كلها جاهليا، ورحم الله عمر بن الخطاب عندما عزله فقد قال: «إن فى سيف خالد لرهقا» ولعل كان أشده مما كان واضحا فى أمر جذيمة.
وإننا إذ ننقد فعل خالد فى هذا نتابع النبى صلى الله تعالى عليه وسلم، ونراه ينطق بالحق، وإذا كان من الناس من كان ينقد عليا وعثمان ومن يماثلهما، فإن لنا أن ننقد عمل خالد فى هذا، وما كنا مبتدعين فى نقده، لأن النبى صلى الله تعالى عليه وسلم برئ من صنيعه، ووضح له فعله مع المؤمن المهاجر أحد العشرة المبشرين بالجنة واستنكره.