قبل أن نترك الكلام فى الربا الذى اقترن تحريمه بغزوة خيبر، فنزل فى إبانها، وهو ربا البيوع، لا بد أن نذكر أمورا ثلاثة هى توجيه الأنظار إلى الوقائع، وما يقترن بها، وما يجرى حولها.
أول هذه التنبيهات: هو الاجابة عما يجول فى النفس لماذا كان تحريم ربا البيوع فى خيبر؟
وتلك الإجابة.. أن فتح خيبر كان فتحا جديدا بالنسبة للعلاقات المالية التى يجرى فى ظلها التبادل المالى، فكانت فيها شرعية المزارعة والمساقاة ولم تكن تجرى كثيرا فى يثرب.
وثانيها: تحريم البيوع التى تؤدى إلى الاحتكار فى الأطعمة، وقد حرمه النبى صلى الله تعالى عليه وسلم تحريما قاطعا، فجعل أموالا معينة غير خاضعة للاتجار المطلق، لأن باب التجارة انفتح بغزوة خيبر، فكان لا بد من جعله فى إطار لا يؤدى إلى الاحتكار.
الأمر الثانى: أن الربا القوى وهو ربا الديون أو ربا الجاهلية حرام لا شك فيه لا يسع مسلما أن ينكره، أما ربا البيوع فلم يثبت إلا بالأحاديث الواردة فيه، وهى أحاديث لا تثبت قطعيا ويقينا، ولكن تثبت العمل.
ولقد كان ابن عباس رضى الله تعالى عنه ينكر ربا البيوع، ويقول أنه لم يثبت، وكان يقول مسندا لقول النبى صلى الله تعالى عليه وسلم! «إنما الربا ربا النسيئة، وهو ربا الجاهلية» ولقد سئل الإمام أحمد ابن حنبل: ما الربا الذى لا يسع مسلما أن يجهله، فقال: أن يعطى الرجل دينا ويزيده فى الأجل فى نظير الزيادة فى الدين، وأن من ينكر أمرا علم من الدين بالضرورة يكون خارجا عن الإسلام.
الأمر الثالث: أنه مع الأسف أن كثيرين ممن كتبوا فى الربا، وحللوا وحرموا بغير ما أنزل الله، ومنهم من بلغوا مناصب تجعلهم مسئولين عن أقوالهم أمام الله وأمام الناس، من خلطوا بين ربا البيوع، وربا الجاهلية الذى ثبت بالقرآن الكريم، فضل عنهم فهم الربا، وضلوا فى أنفسهم، وأضلوا الناس ضلالا بعيدا، ولم يكن جهلهم لضرورة يعذرون فيها، بل كانت بين أيديهم أسباب العلم، فتركوها ليتعلقوا بما يرضى الناس ولا يرضى الله.
,
589- هذا هو السبب الجوهرى، لقد نقضوا فقرة من فقراته، فنقضوه كله، على النحو الذى بيناه من أن كل عهد كل لا يتجزأ، نقض بعضه نقض لكله.
ذلك أنه كان فى العقد أن من أراد أن يدخل فى عقد قريش وعهدهم دخل، ومن أحب أن يدخل فى عقد محمد صلى الله تعالى عليه وسلم دخل، فيكون من يدخل فى عقد أحد الفريقين له حقوق العقد، وعليه التزاماته، فدخلت خزاعة فى عهد محمد صلى الله تعالى عليه وسلم، ودخل بنو بكر فى عقد قريش.
وكان بهذا حقا على قريش ألا تعتدى على خزاعة، وكذلك على الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم وكان ثمة إحن جاهلية بين بنى بكر وخزاعة، عدت فيها خزاعة على بنى بكر فقتلت، وعدت مثلها على خزاعة فقتلت، ثم كانت من بعد ذلك معركة، كان الغلب فيها لخزاعة.
وكانت العداوة قائمة، فلما جاء الإسلام وحاربت قريش النبى صلى الله تعالى عليه وسلم والذين آمنوا، شغلوا بحربه، وكانوا على ضغن.
فلما كانت الهدنة، كانت خزاعة تحس من قريش نفرة ومعاونة لعدوها، فدخلت فى عقد النبى صلى الله تعالى عليه وسلم، وكان بهذا العهد عليه حمايتها فى دائرة العقد، وكان بنو بكر على وداد مع قريش فدخلوا فى عقدها.
وكان صلح الحديبية مغريا بالانتقام اتخذه بنو بكر فرصة انتهزوها ولم يعلموه عهدا عليهم يلتزمون بمبادئه.
اعتدى بنو بكر على خزاعة، ورفدتهم قريش بالسلاح، ثم قاتلوا معهم مستخفين ليلا، منهم صفوان بن أمية، وحويطب بن عبد العزى، ومكرز بن حفص.
وما زالوا يقاتلون حتى انحازوا إلى البيت، وكان حقا عليهم أن يمنعوا القتال فى البيت الحرام الذى جعله الله حرما آمنا ويتخطف الناس من حولهم، ولكن قائدهم نوفل بن معاوية قاتل مع اعتراض بنى بكر، إذ قالوا له: يا نوفل إنا دخلنا الحرم إلهك.
فقال كلمة كبيرة، بل فاجرة، قال: لا إله اليوم، يا بنى بكر أصيبوا ثأركم فلعمرى إنكم لتشرقون فى الحرم، فلا تصيبون ثأركم فيه.
ولجأ بنو خزاعة إلى داخل دار بديل بن ورقاء الخزاعى ودار مولى لهم وكانت هذه مقتلة فاجرة.
وخرج رجل من بنى خزاعة اسمه عمرو بن سالم الخزاعى حتى قدم على رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم.
وبذلك حدثت أمور استوجبت أن يقف النبى صلى الله تعالى عليه وسلم مع الذين فى عهده ضد بنى بكر ابتداء، ومن أعانوهم.
لقد ارتكب بنو بكر خيانة العهد. والقتال فى البيت الحرام. وعاونتهم قريش فيما ارتكبوا من خيانة عهد وإصابة للحرمات.
فما كان للنبى صلى الله تعالى عليه وسلم أن يسكت على هذا الضيم الذى ينزل بأهل عهده من أعدائهم، وبمعاونة قريش.
خرج بديل بن ورقاء الخزاعى إلى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم الذى لجأوا إلى داره فى نفر من خزاعة بعد عمرو بن سالم، فأخبروه كما أخبره من قبل عمرو بن سالم بما أصيبوا به من بكر، ومظاهرة قريش لهم.
وعاد بديل، فالتقى بأبى سفيان وقد جاء يجس النبض، ويطلب شد العقد، ومد المدة. وظن أبو سفيان أنه جاء للنبى صلى الله تعالى عليه وسلم.
جاء أبو سفيان، وقد أدرك كبر ما فعلت قريش، وما كان قد تحرك لمنع هذا، ولكن قد وقعت الواقعة، ولعله لم يكن لما حدث كارها.
استمر أبو سفيان فى مسيره حتى التقى بابنته أم حبيب قادما للقاء رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم.
أراد أن يجلس على فراش رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فطوته فقال: يا بنية ما أدرى أرغبت بى عن هذا الفراش أم رغبت به عنى، فقالت: هو فراش رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، وأنت مشرك نجس، فلم أحب أن تجلس على فراشه، فقال: يا بنية، والله لقد أصابك بعدى شر.
ظن أن ابنته وهى زوج رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم قد تكون شفيعا عند رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، ولكنها بادرته بما ألقى فى نفسه اليأس، فالتمس الشفاعة عند غيرها ذهب إلى أبى بكر، فكلمه فى أن يكلم رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، فقال: ما أنا بفاعل، ذهب
إلى عمر بن الخطاب رضى الله تعالى عنه، فكلمه، فقال عمر رضى الله عنه: أنا أشفع إلى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، فوالله لو لم أجد لكم إلا الذر لجاهدتكم به، ترك عمر يائسا، كما يئس من أبى بكر.
فذهب إلى على بن أبى طالب، وله به رحم، فدخل على على وعنده الزهراء فاطمة بنت رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، وعنده حسن ابنها غلام يدب بينهما.
قال أبو سفيان يا على إنك أمس القوم بى رحما، وأقربهم منى قرابة، وقد جئت فى حاجة فلا أرجعن كما جئت خائبا فاشفع لى إلى رسول الله.
قال على: ويحك أبا سفيان، والله لقد عزم رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم على أمر ما نستطيع أن نكلمه فيه.
التفت أبو سفيان إلى الزهراء فاطمة فقال لها: يا بنت محمد هل لك أن تأمرى ابنك هذا فيجير بين الناس، فيكون سيد العرب إلى آخر الدهر.
قالت الزهراء فاطمة: والله ما بلغ بابنى ذلك أن يجير بين الناس، وما يجير أحد على النبى صلى الله تعالى عليه وسلم.
اتجه أبو سفيان مرة ثانية، وقال له: يا أبا الحسن إنى أرى الأمور قد اشتدت على، فانصحنى، فقال على: والله ما أعلم شيئا يغنى عنك، ولكنك سيد بنى كنانة، فقم فأجر بين الناس، ثم الحق بأرضك.
قال أبو سفيان: أو ترى ذلك مغنيا عنى شيئا، قال على: لا والله ما أظن، ولكن لا أجد عملا غير ذلك. قام أبو سفيان فى المسجد، فقال: أيها الناس إنى قد أجرت بين الناس. ثم ركب بعيره فانطلق حتى قدم على قريش، وقد أحسوا كبر ما فعلوا، وحمق ما صنعوا، سألوه، فأخبرهم بأن أحدا لم يردوا عليه شيئا، لا النبى صلى الله تعالى عليه وسلم، ولا أبو بكر ولا عمر، ثم ما أشار به على من أنه أجير بين يدى الناس، فسألوه هل أجاره النبى صلى الله تعالى عليه وسلم. قال: لا.
,
590- غدرت قريش فى عهدها، وما كان لها ذلك، وجاء أبو سفيان كبيرها يستغفر للخيانة التى لم يمنعها وأراد عجبا، أن يمنع رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم من أن يحمى من دخلوا فى عهده، وأن يتركهم من غير أن يحميهم عهدهم، وتشفع بابنته، فما شفعت وتشفع بأبى بكر فامتنع امتناعا قاطعا، وإن كان هادئا كطبعه رضى الله تبارك وتعالى عنه إلا فى الشديدة، وتشفع بعمر فرده ردا عنيفا، وتشفع متوسلا بالرحم لعلى فما شفع هو ولا الزهراء فاطمة، وقالت كلمة حاسمة:
لا يجار على رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم.
وكان عجبا أن يجير على قريش كلها، ليكون لها أمان من الغزو، لأنه شعر بالجريمة وقعت منها كلها، وإذا كانت حرب فعليها كلها.
ونقول إنه قد جاء لتوثيق العهد وزيادة المدة، وإن ذلك يتضمن بلا ريب إلغاء العهد السابق وما اشتمل عليه، وربما توهم أن ذلك ربما يسقط الغدر الأول، ولعله ظن أن النبى صلى الله تعالى عليه وسلم لم يعلم غدرة قريش التى تعد فسخا للعقد، فلما رأى أن الخزاعى سبقه وأخبر النبى صلى الله تعالى عليه وسلم لم يكن بد من أن يطلب الأمان لقريش. ولكن لم يجب.
وروى موسى بن عقبة أن أبا سفيان دخل على النبى صلى الله تعالى عليه وسلم قبل أن يدخل على أبى بكر وعمر وعلى. وقال له: «يا محمد شدد العقد وزدنا فى المدة، فقال له النبى صلى الله تعالى عليه وسلم: ولذلك قدمت، هل من حدث قبلكم؟ قال معاذ الله، نحن على عهدنا، لا نغير ولا نبدل» .
ثم ذهب على الصحابة أبى بكر، ثم عمر، ثم عثمان، إلى أن وصل إلى على، فلان معه المجاهد الأول بعض اللين.
وقد صرحت هذه الرواية بأنه ذهب إلى النبى صلى الله تعالى عليه وسلم ليأخذ منه إقرارا على ما قال فى المسجد، فقال له النبى صلى الله تعالى عليه وسلم بعد أن قال: أنت تقول ذلك يا أبا حنظلة- ردا على قوله ما أظن أن تخفرنى- أنت تقول ذلك يا أبا حنظلة.
وقد عاد إلى قومه فاستخفوه إذ قص عليهم خبر الرحلة، وقالوا له: رضيت بغير رضا، وجئتنا بما لا يغنى عنا ولا عنك شيئا، وإنما لعب بك على، لعمرو الله ما جوارك بجائر، وإن إخفارك عليهم لهين. وحدث امرأته بحديث الرحلة، فقالت له: «قبحك الله من وافد قوم فما جئت بخير» .
,
708- كانت الحديبية خطوة للدعاية إلى الإسلام من النبي صلى الله تعالى عليه وسلم، فقد ذهب إلي مكة المكرمة بجيش عدته نحو خمسمائة وألف أو يزيدون وما ذهب ليقتلع مكة المكرمة، كما كانوا يذهبون إلي المدينة المنورة، بل ذهب ليقيم شعائر الله تعالي، ولتعظيم البيت، وعلى ألا يسألوه خطة فيها تعظيم البيت إلا سلكها.
وقد تم عقد الاتفاق علي مدة عشر سنين، لا يقاتلهم، وعلي أن يعود من عامه هذا، وقد سمي الله تعالى ذلك فتحا مبينا.
وإنه حقا كان فتحا للإسلام، فقد لانت قلوب كانت مستعصية، وتفتحت آذان كان فيها وقر عن سماع الحق، فإذا كانت لم تفتح إلا آجلا، فقد فتحت القلوب نور هذه المدينة، وكان من قريش أنفسهم من يتجه إلي الإسلام ويتعرف غاياته، ومراميه، وأنه الحق والعقل، وملة إبراهيم عليه السلام والقبائل التى كانت ترى أمارات النبوة، ولكن تنتظر قريشا، ورأيها فى محمد صلى الله تعالى عليه وسلم- أخذت
قلوبهم تصغي، وأفئدتهم تتجه نحوه، فأسلم الكثيرون، وتهيأت للإسلام قلوب كثيرين، ولما اتجه عليه الصلاة والسلام إلى خيبر لاقتلاع اليهود من بلاد العرب، كان العرب جميعا مناصرين.
وعندما اتجه محمد صلى الله تعالى عليه وسلم إلي الرومان أحسوا بعزة العرب تغالب سلطان بني الأصفر، وقد كان أمرهم مرهوبا مخوفا، قد استكان بعضهم له رهبا لا رغبا، فلما رأوا محمدا صلي الله تعالى عليه وسلم الهاشمي القرشي العربي يغزو بنى الأصفر، أحسوا بعزة عربية لا بد أن يكونوا معها، وإذا كانوا مع الروم في بؤسهم فقد هداهم التفكير فى عزتهم إلي ألا يكونوا معهم في تبوك، وإن ذلك بلا ريب يفتح قلوبهم لأن يدركوا الإسلام، ويتدبروا في أمره وغايته، ورأوا أنه السبيل الوحيد لعزتهم، ورفع نير الرومان ونفوذهم.
ولقد ذكر كتاب السيرة أنه دخل فى الإسلام ما بين فتح مكة المكرمة وغزوة الحديبية ناس كثيرون بلغوا أضعاف ما دخلوا من وقت البعث المحمدي، إلي الحديبية، أي بلغ فى سنتين أضعاف أضعاف من دخل فيه في مدي تسع عشرة سنة.
ولما كان فتح مكة المكرمة، ودخلت قريش في الإسلام، دخل فيه الذين يترددون وقد لانت قلوبهم، لأنهم رأوا أهل مكة المكرمة، الذين كان لهم مكان المتبوع يدخلون فدخلوا.
ولذلك جاءت الوفود تتري في العام التاسع، بعد أن فتحت في رمضان من العام الثامن، ولقد جاءت تلك الوفود مسلمة معلنة إسلامها، تريد معرفة أحكام دينها وما يجب أن يقوم به المسلم، وما يجوز له وما لا يجوز.
وكان النبي صلي الله تعالي عليه وسلم يرسل البعوث لتعليمهم، ولتأديب الذين يحاولون إيذاء المؤمنين أو العبث بالمقومات الدينية، فكان أحيانا يرسل السرايا، وأحيانا يرسل فقهاء الصحابة، كما أرسل أبا موسي الأشعري ومعاذ بن جبل ولما أرسل خالد بن الوليد، وهو القائد المحارب كان مكلفا أن يدعو إلى الإسلام، لا أن يجرد سيف القتال، ثم أرسل علي بن أبي طالب عالم الصحابة، فتولي تعليمهم، وأخذهم بأحكام الإسلام، ثم ولاه القضاء، فانفتق ذهنه بدعوة النبي صلى الله تعالى عليه وسلم، ونطق لسانه بالحكمة وفك عقدا من مشكلات القضاء وأقره النبي صلى الله تعالى عليه وسلم.
وهكذا نري أن البلاد العربية- أهل الوبر وأهل المدر- قد دخلها الإسلام، وتقبله قلوب مؤمنة مذعنة، وعلم أمره بعض الناس، ولكن لم يدخل قلوبهم فأطاعوا وخضعوا، ولكن لم تؤمن قلوبهم، وإن علم الإسلام، كان الإسلام كالغيث يصيب أرضا نقية فيمدها بالزرع وتأتي بأطيب الثمرات، وكان
يصيب أرضا تحفظ الماء ولا تنتفع به، ولكنها تكون موردا لطالبه، وكان يصيب أرضا مجدبة لا تحفظه ليكون مصدر سقي ورعي، ولا تنتفع به.
ولقد كان الناس بعد أن علموا الإسلام علي هذه الأنواع الثلاثة، فكان منهم الذين آمنوا وأخلصوا دينهم لله تعالي، وأولئك الذين كانوا في المدينة المنورة، وبعض مدائن البلاد العربية، ورجال كانوا في البادية.
ومنهم من علموا الإسلام وحفظوه، ولكن لم يعملوا به، وأطاعوا، ولكن لم تذعن قلوبهم، ومنهم الذين مر عليهم الإسلام فعرفوا أن هناك دينا يحارب الوثنية، ويدعو إلي الوحدانية، وإحياء ديانة إبراهيم عليه الصلاة والسلام، ولكن التدين لم يكن موضع اهتمامهم، فمر عليهم علم الإسلام كما يمر الماء فى الميزاب يتحدر ولا يبقي منه شئ، وأكثر هؤلاء كان فى أعراب البادية، ولهذا قال الله تعالي: الْأَعْرابُ أَشَدُّ كُفْراً وَنِفاقاً وَأَجْدَرُ أَلَّا يَعْلَمُوا حُدُودَ ما أَنْزَلَ اللَّهُ (التوبة) ومهما تكن حال الذين علموا الإسلام، ووصلتهم الدعوة الإسلامية كاملة، فإن التبليغ قد تم وكمل العلم. وما علي النبي صلى الله تعالي عليه وسلم أن يدخل الهداية في القلوب، ولكن عليه أن يبلغ، وينذر ويبشر كما قال تعالي:
إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرٌ، وَلِكُلِّ قَوْمٍ هادٍ إن عليه أن يبين المورد العذب وعلي الناس أن يردوه، فمن ورده استقي، ومن لم يرده شقي، وإن النبى صلى الله تعالى عليه وسلم، أكمل رسالته في أمرين:
أولهما: أن الشريعة نزلت عليه كاملة، فأصولها كلها قد نزلت عليه، وعلمها أصحابه ليحملوا العبء كاملا من بعده، فبين أحكام العبادات، والزواجر الاجتماعية والعلاقات الإنسانية فى معاملات بين الناس وعلاقات بين الدولة الإسلامية وغيرها، وأحكام الحروب الفاضلة، وغير ذلك مما يسير بالإنسانية في طريق السلام والكمال.
وثانيهما: أبلغ الدعوة كاملة لقومه العرب، ليكونوا المبلغين للناس كافة، أو حماة هذا التبليغ، ويتولي علماؤهم الدعوة، ويتولي سائرهم حماية هذه الدعوة، والله بكل شئ عليم، وإنه لم يبق بعد الكمال إلا الوداع.
,
503- انتشر الإسلام في الصحراء العربية، تبعه من تبعه، وعلم بأمره الكثيرون، وكان من الأعراب مؤمنون كما كان منهم مسلمون، أعلنوا إسلامهم، وإن لم تؤمن قلوبهم، وكان منهم من استمر على شركه، ولكن صار في المسلمين قوة ولهم هيبة تجعل الذين بقوا على شركهم ينظرون إلى الدعوة للتوحيد، والإيمان بمحمد صلى الله تعالى عليه وسلم على أنها ذات مكانة جعلتهم يفكرون ويقدرون، ولا يكتفون بالرد بادى الرأى، والإنكار المطلق من غير تفكير ولا تدبر.
والقول الجملى أن الريب دخل قلوبهم من ناحية عبادة الأوثان، وهم يعلمون الله تعالى بذاته وصفاته، ولا شك أن ريبهم في أوثانهم هو الطريق لأن يدخلوا في دين الفطرة مؤمنين آمنين، صارت الدعوة الإسلامية تملأ الآفاق، ولم يعد أحد من الأعراب أو من لف لفهم يفكر في غزو المدينة فهى محروسة بحراسة الله تعالى، مصونة بكلاءة الله تعالى.
فإذا كان النبى صلى الله تعالى عليه وسلم قد أمن غزو الأعراب، أو أن يدخلوا في أحلاف مع أعدائه، فقد آن له أن يتجه إلى قريش الذين يناصبونه العداوة، لا ليقاتلهم، فهو لا يقاتل إلا دفاعا، كما رأينا في سراياه وغزواته السابقة.
ولكن قريشا تعاديه والحرم المكى الشريف تحت سلطانها، فلا بد أن يفرغ من عداوتها، تمكينا للدعوة، وتعبيدا للسبيل إلى الحج، الذى هو نسك من نسك الإسلام، ولأنه صلى الله تعالى عليه وسلم يريد التفرغ لليهود الذين تجمعوا في خيبر، وهم وحدهم الذين يريدون الانقضاض على المدينة، زاعمين أنها ديارهم أخرجهم منها، وقتل من قتل منهم.
فكان لابد أن يعرف أمر قريش، وأن يعرف أهم يسهلون له أداء فريضة الحج، بقية ديانة إبراهيم فى أرض العرب، أم أنهم يقفون في سبيله كما وقفوا دائما. لابد أن يقرن النية بالعمل، فذهب ليحج، وكانت موقعة الحديبية التى سماها الله تعالى فتحا مبينا، لأنها أزالت الحواجز النفسية التى كانت تحاجز بين النبى صلى الله تعالى عليه وسلم وبين قريش، والتقى بهم الأمين الحبيب الذى عرفوه في صباه، وشبابه، وزالت المحاجزات بسبب الخلاف والنفور، والحرب.
,
504- فى ذى القعدة سنة ست من الهجرة النبوية، كما تطابقت كل الروايات، وهى من أشهر الحج، اعتزم رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ومن معه من أصحابه الحج، وكان معه سبعمائة، ولكن قال جابر بن عبد الله: كان معه أربع عشرة مائة أى نحو 1400، وهذا معقول، فقد كان جيشه صلى الله تعالى عليه وسلم مرهبا لقريش، وما كان يرهبها ما دون الألف، ولقد ذكر ذلك العدد، وهو 1400 (أربعمائة وألف) البخارى وغيره، ورقم السبعمائة لابن إسحاق.
خرج رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وهم لا يريدون حربا، بل يريدون حجا جامعا، ولكنه ما أن وصل إلى عسفان حتى لقيه بشر بن سفيان الكعبى، ويظهر أن قريشا قد علمت أو ظنت خروج رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وهى الحذرة المتحفزة.
قال بشر بن سفيان: يا رسول الله، هذه قريش قد سمعت بمسيرك، فخرجوا معهم العوذ المطافيل قد لبسوا جلود النمور، وقد نزلوا بذى طوى، يعاهدون الله لا تدخلها عليهم أبدا، وهذا خالد بن الوليد في خيلهم قد قدموا إلى كراع الغميم.
قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم الرحيم بقومه راجيا الإسلام فيهم، وإن حاربوه: يا ويح قريش قد أكلتهم الحرب، ماذا عليهم لو خلوا بينى وبين سائر العرب، فإن أصابونى كان ذلك الذى أرادوا، وإن أظهرنى الله تعالى عليهم دخلوا في الإسلام وافرين، وإن لم يفعلوا قاتلوا وبهم قوة فما تظن قريش، فو الله لا أزال أجاهد على هذا الذى بعثنى الله به، حتى يظهره، أو تنفرد هذه السالفة.
بعد هذا لم يرد النبى صلى الله تعالى عليه وسلم أن يلقى مقاتليهم، حتى لا يسبق السيف الرأى، وهو يريد أن يحج، ولا يريد أن يرغمهم، بل يريدهم مختارين، لأن الاختيار يؤلف، والقتال ينفر، والإجبار بالسيف يرمض النفس، ويكلمها، ولا يريد عليه السلام كلما، بل يريد شفاء للقلوب من غيظها.
ندب رجلا يخرج بالمسلمين إلى طريق غير طريقهم فسار في طريق وعث، حتى وصل ثنية المراد مهبط الحديبية من أسفل مكة.
ولما رأت خيل قريش كروا راجعين ليكونوا بمكة المكرمة والنبى صلى الله تعالى عليه وسلم بالجيش إلى ثنية المراد. بركت ناقته، وكأن الله تعالى قد اختار له هذا المكان، فلما بركت الناقة قال الناس خلأت، فقال عليه السلام: (ما خلأت) وما هو لها بخلق، ولكن حبسها حابس الفيل عن مكة، لا تدعونى قريش اليوم إلى خطة يسألونى فيها صلة الرحم إلا أعطيتهم إياها، قال ذلك لأنه جاء وهو الهادى الداعى إلى الحق ليقرب نفوسهم بعد الحرب التى شنوها، ومكنه الله تعالى منهم.
قال لجيشه: انزلوا، فقالوا: ما بالوادى ماء، ولم يكن به ماء، ولكن قلب مطمورة، فأعطى النبى صلى الله تعالى عليه وسلم سهمه رجلا من رجاله، فنزل به في قليب من تلك القلب وغرز فيه السهم، فجلس النبى للرواء حتى شرب الناس.
,
505- كان مع النبى صلى الله تعالى عليه وسلم جيش قوى، ولم تكن مكة على استعداد للحرب، ولو أراد أن يدكها بجيشه دكا لفعل، ولكنه أتى للحج، وليطفئ حربا، ويبر رحما، ويزيل نفرة، وليذهب بوحشة الحروب التى خلفتها.
ولذلك أعلن المسالة وإرادة الحج من غير أن يقهرهم أو يذلهم.
جاء إليه بديل بن ورقاء مع رجال من خزاعة فكلموه صلى الله تعالى عليه وسلم، وسألوه ما الذى جاء به، فأخبرهم رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم أنه ما جاء يريد حربا، وإنما جاء زائرا للبيت ومعظما لحرمته، وقال ما قاله من قبل لغيره.
رجعوا إلى قريش، فقالوا لهم: يا معشر قريش، إنكم تعجلون على محمد وإن محمدا لم يأت لقتال، إنما جاء زائرا لهذا البيت، فاتهموهم وجابهوهم، وقالوا: وإن جاء لا يريد قتالا، فو الله لا يدخلها علينا عنوة ولا تحدث بذلك العرب، ولكنهم مع هذه العنجهية لم يزيلوا ما بينهم وبين النبى صلى الله
تعالى عليه وسلم، فأرسلوا له مكرز بن حفص بن الأخيف أخا بنى عامر بن لؤى، فقال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم لما رآه مقبلا: هذا رجل غادر، وقد كلمه رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم بأنه ما جاء للقتال، ولكن لزيارة البيت.
ومع أن قريشا لا تريد حتى زيارة البيت أرسلت حليس بن علقمة، وكان يومئذ سيد الأحباش الذين كانوا يعينونهم في القتال فلما رآه النبى صلى الله تعالى عليه وسلم قال عليه السلام: إنه من قوم يتألهون- أى يذعنون- لظاهر العبادة، فابعثوا الهدى في وجهه حتى يراه، فلما رأى ما يسيل عليه من عرض الوادى من قلائد أشعرت بأنه هدى للحج، قد أكل أوباره من طول الحبس عن محله.
اكتفى حليس بالنظر إلى الهدى عن المحادثة، فرجع إلى قريش ولم يصل إلى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، إعظاما لما رأى. حدثهم بما رأى فقالوا له: اجلس فإنما أنت أعرابى لا علم لك.
غضب الحليس عند ذلك، وقال:
يا معشر قريش، والله ما على هذا حالفناكم، ولا على هذا عاقدناكم، أفصد عن بيت الله تعالى من بعد ما جاء معظما له، والذى نفس الحليس بيده لتخلن بين محمد وبين ما جاء له، أو لأنفرن بالأحابيش نفرة رجل واحد.
فقالوا لحليس: مه، كف عنا يا حليس حتى نأخذ لأنفسنا ما نرضى به.
ما زالوا طامعين في أن يكون لهم من النبى صلى الله تعالى عليه وسلم ما يرضيهم من غير أن يقاتلوه، فأرسلوا إليه عروة بن مسعود الثقفى، وقد ذكر لقريش أنه بمنزلة الولد، لأن أمه كانت من بنات عبد شمس، وقد ذكر من جاء إليهم بعد لقائه النبى صلى الله تعالى عليه وسلم، وأنهم لقوه بالتعنيف وسوء الحظ كما قالوا لبديل الخزاعى، وكما قالوا للحليس سيد الأحباش، تبين أن صلتهم به وثيقة، وأنه سيكون أمينا في رسالته مع رغبته في نصرتهم، وقال في ذلك: قد سمعت بالذى نابكم، فجمعت من أطاعنى من قومى ثم جئتكم حتى آسيتكم بنفسى، قالوا: صدقت ما أنت عندنا بمتهم.
خرج عروة بن مسعود هذا، وقد اطمأن إلى ثقتهم به، حتى أتى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ثم قال: جمعت أوشاب الناس، ثم جئت بهم إلى بيضتك لنقضها (أى يكسرها لهم) .
إنها قريش قد خرجت معها العوذ المطافيل «1» قد لبسوا جلود النمور، يعاهدون الله لا تدخلها عليهم عنوة أبدا، والله الكافى بهؤلاء قد انكشفوا عنك غدا.
__________
(1) العوذ المطافيل، النوق التى معها أولادها، والعوذ جمع عائذ، وهى هنا الناقة أى الناقة ذات الأطفال.
وكان أبو بكر رضى الله عنه خلف النبى صلى الله تعالى عليه وسلم، فقال له: أنحن ننكشف عنه.
ثم جعل يتناول لحية رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، وهو يكلمه مما يدل على جرأته وصلفه وخشونته وعبثه.
وكان المغيرة بن شعبة واقفا على رأس النبى صلى الله تعالى عليه وسلم، وهو بالحديد، فكلما مد يده إلى لحية النبى صلى الله تعالى عليه وسلم يقرع يده، ويقول: اكفف يدك عن وجه رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم قبل ألا تصل إليك- أى تقطع فلا تصل إليك-.
قال عروة الغليظ الجافى للمغيرة بن شعبة: ما أفظك، وما أغلظك؟ فتبسم رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم.
رد رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم بنحو مما كلم به من سبقوه.
قام عروة بن مسعود الثقفى من عند رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، وقد رأى ما يصنع به أصحابه، وعاد إلى قريش يقول لهم.
«يا معشر قريش، إنى قد جئت كسرى في ملكه، وقيصر في ملكه، والنجاشى في ملكه، وإنى والله ما رأيت ملكا في قوم قط، مثل محمد في أصحابه، ولقد رأيت قوما لا يسلمونه لشيء أبدا فروا رأيكم» .
كان كل الرسل الذين يرسلونهم يؤكدون لهم أن محمدا صلى الله تعالى عليه وسلم ما جاء لقتال، بل جاء حاجا، ويريد أن يصل الرحم التى قطعوها.
,
506- غدر من جانب قريش، وعفو من جانب محمد صلى الله تعالى عليه وسلم، فإنه فى الوقت الذى تأكد لهم أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ما جاء مقاتلا، لأنه جاء محرما وساق الهدى، ولأنه في الشهر الحرام، ولأنه جاء يطلب المودة، ولا مودة في قتال، فى هذا الوقت فكرت قريش في الاعتداء، فإنه روى عن ابن عباس أنهم بعثوا أربعين أو خمسين رجلا منهم، وأمروهم أن يطيفوا بعسكر رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ليصيبوا من أصحابه أحدا.
فأخذ أولئك أخذا، وسيقوا إلى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، وكانوا قد رموا المعسكر بالحجارة والنبل، وكان للنبى صلى الله تعالى عليه وسلم أن يأخذهم رهائن أو نحو ذلك. ولكن الرسول الكريم صلى الله تعالى عليه وسلم قد عفا عنهم.
,
507- كانت الرسل يجيئون إلى النبى صلى الله تعالى عليه وسلم من قبلهم، ومنهم من ينقل الأمر كما هو، وربما كان منهم من يحرف في القول، والنبى صلى الله تعالى عليه وسلم يريد أن يوجه الخطاب إليهم برسول يرسله إليهم، يتعرف أحوالهم وما تطويه نفوسهم، وما يقدر عليه ويفعله من بعد ذلك يكون عن بينة.
اتجه النبى صلى الله تعالى عليه وسلم إلى الفاروق عمر بن الخطاب، وهو نعم الرسول، وقد كان في الجاهلية يقوم ببعض أعمال السفارة بين القبائل، وبين العرب وغيرهم، ولكن عمر ببطشه وقوته على الشرك، كان يعمل حساب لقائه معهم، وقد يحبسونه، فلا يؤدى حق السفارة التى اختاره لها النبى صلى الله تعالى عليه وسلم، ولذا قال غير راد لأمر رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، ولكن يعرض الأمر عليه، قال: يا رسول الله، إنى أخاف قريشا على نفسى، وليس بمكة من بنى عدى بن كعب أحد يمنعنى، وقد عرفت قريش عداوتى إياها، وغلظتى عليها، ولكن أدلك على رجل أعز بها منى، عثمان بن عفان، فدعا رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم عثمان بن عفان، فبعثه إلى أشراف قريش، وأبى سفيان، يخبرهم أنه لم يأت لحرب، وإنما جاء زائرا لهذا البيت معظما لحرمته.
ذهب عثمان إلى مكة المكرمة للقيام بهذه السفارة، وهو الرجل الذى لا عنف فيه، وهو أموى له عصبة من بنى أمية تمنعه وتجيره.
وقد التقى أوّل ما التقى بأبان بن سعيد بن العاص الأموى حين دخل مكة المكرمة أو قبل أن يدخلها، وهو في طريقه إليها، فلقيه لقاء المحبة بسبب الرحم، ولأن عثمان رضى الله عنه كان رفيقا ودودا، وحمله بين يديه، وأجاره، بأن جعله في جواره، وذلك يوجب عليه حمايته، واستمر في جواره حتى بلغ رسالة رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم.
انطلق عثمان، حتى أتى أبا سفيان وعظاماء قريش، فبلغهم رسالة النبى صلى الله تعالى عليه وسلم وسلمها إليهم، وأنه ما جاء للقتال، وإنما جاء زائرا للبيت معظما لحرمته.
وقد قبلوا كلامه من غير استنكار ولا رد، ورحبوا بعثمان رضى الله عنه، وعرضوا عليه أن يطوف بالبيت آمنا مطمئنا.
ولكن عثمان أبى أن يطوف، ورسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم غير ممكن من الطواف.
فقال ذو النورين التقى عثمان: ما كنت لأطوف حتى يطوف رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم.
وبذلك أدى عثمان رسالة النبى صلى الله تعالى عليه وسلم، ولكنهم استبقوه، لا ليؤذوه، ولعل ذلك لاستشارته أو الاستفسار منه، أو ودا ومحبة، أو حفاوة وتكريما.
وعندئذ راجت الأقوال بين المسلمين بأن عثمان قتل، وتبلبلت الأفكار واضطربت النفوس ووجدت عزمة القتال، ولم يكن مرادا ابتداء ولا مقصودا.
,
509- اقتنعت قريش بأن محمدا صلى الله تعالى عليه وسلم، ما جاء لقتال، وقد عادت القضب إلى أجفانها بعد أن عاد عثمان رضى الله عنه، واطمأنت القلوب، وعادت رغبة السلام وعزمته إلى محمد صلى الله تعالى عليه وسلم، وهو يريد خطة تمنع القتال، وتحفظ الحرمات.
بعثت قريش سهيل بن عمرو من بنى عامر بن لؤى، وقالوا: له ائت محمدا نصالحه ولا يكن فى صلحه، إلا أن يرجع عنا عامه هذا، فو الله لا تحدث العرب عنا أنه دخلها علينا عنوة أبدا.
ولا شك أن هذا شرط، - كما يقول علماء القانون- تعسفى وتحكمي، ولكن النبى صلى الله تعالى عليه وسلم الرؤف الرحيم، كما وصفه رب العزة، لم يمانع في قبول ذلك، وإن ضج أصحابه بالرفض، وهم لا يعلمون ما يعلم النبى صلى الله تعالى عليه وسلم، وما توجبه الرسالة، وتحتمه الدعوة إلى الإسلام، فما كانت دعوة الإسلام رهبا، بل كانت رغبا، وما كانت بالسيف بل كانت بالموعظة الحسنة.
اجتمع سهيل مع النبى صلى الله تعالى عليه وسلم، وتم الاتفاق المبدئى على ما اشتمل عليه من التزامات، خلاصتها:
أولا: لا يزور المسلمون البيت حاجين هذا العام.
ثانيا: وضع الحرب عشر سنين.
ثالثا: أن من خرج من مكة إلى المدينة المنورة يرده النبى صلى الله تعالى عليه وسلم، ومن عاد إلى مكة المكرمة مرتدا لا ترده مكة المكرمة إلى النبى صلى الله تعالى عليه وسلم.
رابعا: من أراد أن يدخل في عهد محمد صلى الله تعالى عليه وسلم دخل والتزم بالتزامه، ومن أراد أن يدخل مع قريش دخل، والتزم بالتزامهم.
لما تم الاتفاق الشفوى وقف عمر رضى الله عنه غضبان أسفا، وقال لأبى بكر: يا أبا بكر أليس حقا برسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم؟ قال أبو بكر: بلي، قال: أو لسنا بالمسلمين، قال: بلى.
قال: أو ليسوا بالمشركين، قال: بلى. قال: فعلام نعطى الدنية في ديننا، فقال أبو بكر رضى الله عنه:
يا عمر، الزم غرزه، أى أمره، فإنى أشهد أنه رسول الله، فقال عمر: وأنا أشهد أنه رسول الله.
ثم أتى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، فقال: يا رسول الله، ألست رسول الله!! قال:
بلي، قال: أو لسنا بالمسلمين!! قال: بلي، قال: أو ليسوا بالمشركين!! قال: بلى. قال الفاروق:
علام نعطى الدنية في ديننا، قال الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم الرفيق الأمين: أنا عبد الله ورسوله، لن أخالف أمره، ولن يضيعنى.
عندئذ سكن عمر رضى الله عنه، وعلم أنه أمر الله تعالى، فسكت عنه الغضب، وكان ذا نفس لوامة، فندم على ما كان منه من قول، وكان يقول: ما زلت أتصدق وأصوم وأصلي، وأعتق من الذى صنعت يومئذ مخافة كلامى.
,
510- تم الاتفاق على ما تشتمل عليه الوثيقة، ثم دعا النبى صلى الله تعالى عليه وسلم على بن أبى طالب رضى الله تعالى عنه، فقال: اكتب. بسم الله الرحمن الرحيم، فاعترض سهيل ابن عمرو ممثل المشركين عند كتابة العهد، وقال: لا أعرف هذا ولكن اكتب باسمك اللهم، فقال النبى صلى الله تعالى عليه وسلم: اكتب باسمك اللهم، فكتبها، ثم قال: اكتب هذا ما صالح عليه محمد رسول الله سهيل بن عمرو، فاعترض أيضا سهيل، وقال: لو شهدت أنك رسول الله لم أقاتلك، ولكن اكتب اسمك واسم أبيك. فقال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: اكتب، هذا ما صالح عليه محمد بن عبد الله سهيل بن عمرو:
(أ) اصطلحا على وضع الحرب عن الناس عشر سنين يأمن فيهن الناس، ويكف بعضهم عن القتال، على أنه من أتى محمدا من قريش بغير إذن وليه رده عليهم، ومن جاء قريشا ممن مع محمد لم يردوه عليه.
(ب) وأن بيننا عيبة مكفوفة أى (لا عداوة) ، وأنه لا إسلال ولا إغلال أى (لا سرقة ولا خيانة) .
(ج) وأنه من أحب أن يدخل في عقد محمد وعهده دخل فيه، ومن أحب أن يدخل فى عقد قريش وعهدهم دخل فيه.
وقد شهد على العقد بعض المشركين، ومن المسلمين أبو بكر وعمر، وعلى بن أبى طالب، وسعد بن أبى وقاص، وعبد الرحمن بن عوف.
وبعد تمام العهد تواثبت خزاعة، فقالوا: نحن في عقد محمد وعهده، وتواثبت، بنو بكر، فقالوا:
نحن في عقد قريش وعهدهم.
هذا ما كتب في العقد، وكان هناك أمر عملى توجب قريش تنفيذه، وقد رضيه النبى صلى الله تعالى عليه وسلم. فقد قالوا تتميما للعهد، وإنك ترجع عنا عامك هذا لا تدخل علينا مكة، وأنه إذا كان عام قابل خرجنا عنك، فدخلتها بأصحابك، فأقمت فيها ثلاثا، ومعك سلاح الراكب:
السيوف في القرب لا تدخلها بغيرها.
قبل رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، وآثرها، مع ما فيها من شطط المشركين، لأنه يريد سلاما، وأن معه جيشا لا قبل لقريش به، وكان يستطيع أن يقاتل، والحجة قائمة عليهم، ولكنه النبى عليه الصلاة والسلام المسالم الذى يعظ بالحكمة ويدعو بالرفق، وليس غليظ القلب.
,
511- وبينما هم في مجلس الصلح لم يفارقوه، بل لم يتموا كتابته إذ جاء أبو جندل بن سهيل بن عمرو الذى يمثل المشركين عند كتابة العقد، جاء وهو يرسف في الحديد، فلما رأى سهيل أبا جندل، قام إليه، فضرب وجهه وأخذ بتلبيبه، ثم قال: يا محمد قد لجت القضية بينى وبينك قبل أن يأتيك هذا، وهذا أوّل من أقاضيك عليه، فقال صلى الله تعالى عليه وسلم: إنا لم نقض الكتاب بعد، قال سهيل: فو الله إذن لم أصالحك على شىء. وقد جاء في البخارى مع هذا الكلام أن النبى صلى الله
تعالى عليه وسلم قال: فأجزه لي، قال: ما أنا بمجيزه لك، قال: بلى فافعل، قال: ما أنا بفاعل، وقال بعض الحاضرين من المشركين: قد أجزناه لك، ولكن سهيلا هو وليه.
قال أبو جندل: أى معشر المسلمين أرد إلى المشركين وقد جئت مسلما، ألا ترون إلى ما قد لقيت. وقد جاء في رواية ابن إسحاق أنه وثب عمر بن الخطاب مع أبى جندل يمشى إلى جانبه، ويقول: اصبر يا أبا جندل، فإنما هم المشركون، وإنما دم أحدهم دم كلب، ويدنى قائم السيف منه، ويقول عمر: رجوت أن يأخذ السيف، فيضرب به أباه، فضن الرجل بأبيه، وذهبت القضية.
والنبى يمضى في عقده، مع ما أثاره في نفسه ونفوس المؤمنين مجيء أبى جندل يوسف في قيوده، وقال لأبى جندل: اصبر واحتسب، فإن الله جاعل لك ولمن معك من المستضعفين فرجا ومخرجا، إنا قد عقدنا بيننا وبين القوم صلحا، وأعطيناهم على ذلك وأعطونا عهد الله، وإنا لا نغدر بهم.
مع تلك الكلمات التى تلقى بروح الصبر والاطمئنان في قلب أبى جندل كانت الثائرة تغلى في قلوب المسلمين، ولكن لا يتكلمون احتراما لمقام العهد، ولأن النبى صلى الله تعالى عليه وسلم قال إنه لا يخالف أمر ربه، ولكن الفاروق ثار بالقول مرة أخري، يقول: ألسنا على الحق وعدونا على الباطل، قال: بلى: قال: فلم نعطى الدنية في ديننا إذن، فقال النبى صلى الله تعالى عليه وسلم: أعطيها وهو ناصرى.
قال عمر: أولست كنت تحدثنا أننا سنأتى البيت فنطوف به، قال: بلي، أفأخبرتك أنا نأتيه هذا العام؟ فإنك آتيه ومطوف به. وهذه رواية البخاري، وقد جمعنا بينها وبين رواية ابن إسحاق، فقدرنا أن عمر قالها مرتين وهو مظهر غضب المؤمنين مع طاعتهم ورضاهم بما حكم صلى الله تعالى عليه وسلم استجابة لأمر ربه.
,
512- كان لا بد أن يتحلل المسلمون من إحرامهم، على أن يؤدوا عمرة في عام آخر، وذلك بأن يقصروا شعرهم أو يحلقوه، وقد دعاهم النبى صلى الله تعالى عليه وسلم أن يحلقوا رؤسهم وينحروا، وابتدأ هو فحلق، وحلقوا وقصروا من بعده، وهذه رواية ابن إسحاق بسنده.
ولكن روى في البخارى أنه قال لأصحابه رضى الله عنهم لأنهم جميعا أهل بيعة الرضوان، قال لهم: قوموا فانحروا ثم احلقوا، فو الله ما قام منهم رجل حتى قال ذلك ثلاث مرات.
فلما لم يقم منهم أحد دخل على أم سلمة، وكانت معه في هذه الغزوة فذكر ما لقى من الناس، فقالت أم سلمة بعاطفة المحبة لرسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، والعاطفة الشريفة تنطق بالحق أحيانا قالت أم سلمة: يا نبى الله، أتحب ذلك، اخرج، ثم لا تكلم أحدا منهم كلمة، حتى تنحر بدنك، وتدعو حالقك، فخرج، فلم يكلم أحدا منهم، حتى فعل ذلك، ثم نحر بدنه، ودعا حالقه فحلقه.
فلما رأوا ذلك قاموا فنحروا، وجعل بعضهم يحلق بعضا، حتى كاد بعضهم يقتل بعضا غما، لعصيانهم، وهذه رواية البخاري، وقد كان فيها خبر الحلق وخبر النحر معا، وقصة النبى عليه الصلاة والسلام مع أم سلمة رضى الله عنها، وإن هذا التفصيل زاد به البخارى عن ابن إسحاق، وزيادة الثقة مقبولة في ذاتها.
,
513- بعد صلح الحديبية جاء نسوة إلى النبى صلى الله تعالى عليه وسلم مؤمنات مهاجرات، ولم يردهن النبى صلى الله تعالى عليه وسلم، لأنهن لم يشملهن العهد، الذى يوجب رد من يجيء مسلما من غير ولى أمره، وفي هذا جاء النص الذى يحرم بقاء المسلمة في عصمة كافر سواء أكان كتابيا أم كان من المشركين، ولذا قال الله سبحانه وتعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا جاءَكُمُ الْمُؤْمِناتُ مُهاجِراتٍ، فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمانِهِنَّ، فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِناتٍ فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ، لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ، وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ، وَآتُوهُمْ ما أَنْفَقُوا وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ إِذا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ، وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوافِرِ، وَسْئَلُوا ما أَنْفَقْتُمْ وَلْيَسْئَلُوا ما أَنْفَقُوا، ذلِكُمْ حُكْمُ اللَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ، وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ. وَإِنْ فاتَكُمْ شَيْءٌ مِنْ أَزْواجِكُمْ إِلَى الْكُفَّارِ فَعاقَبْتُمْ فَآتُوا الَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْواجُهُمْ مِثْلَ ما أَنْفَقُوا، وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ (الممتحنة- 10، 11) .
وقد قال الحافظ ابن كثير: جاءت نسوة مؤمنات. فأنزل الله سبحانه وتعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا جاءَكُمُ الْمُؤْمِناتُ مُهاجِراتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ- حتى بلغ- بِعِصَمِ الْكَوافِرِ ... (الممتحنة 10) فطلق عمر ابن الخطاب امرأتين كانتا في الشرك، فتزوج إحداهما معاوية بن أبى سفيان، والآخرى صفوان بن أمية، ثم رجع النبى صلى الله تعالى عليه وسلم إلى المدينة المنورة.
قال ذلك ابن كثير في سرد ما كان في الحديبية، ولذلك قلنا إن تحريم زواج المسلمة بغير المسلم، وزواج المسلم بالمشركة جاء في الحديبية بعد إمضاء الصلح.
وهذه الآية تدل على ثلاثة أمور:
أولها- أن المسلمة لا تجوز للكافر سواء أكان كتابيا أم كان مشركا، والكتابى كافر لا كما أوهمت كتابة المحدثين ممن لا يمحصون الحقائق، ويقولون ما يقولون مجاملة، أو موادة للنصارى الذين لا يوادون المسلمين، فالنصرانى كافر بمحمد صلى الله تعالى عليه وسلم وبما نزل على محمد صلى الله تعالى عليه وسلم، وبالوحدانية، واليهودى كافر بالقرآن الكريم وبمحمد صلى الله تعالى عليه وسلم، ووصف الله في القرآن الكريم اليهود والنصارى بأوصاف الكفر فقال الله سبحانه وتعالى: لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ ثالِثُ ثَلاثَةٍ (المائدة- 73) وقال الله سبحانه وتعالى: لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ (البينة- 1) .
والذين يجيزون زواج المسلمة بغير المسلم قد خرجوا عن إطار الإسلام، لأنهم أنكروا القرآن الكريم وأنكروا أمرا معروفا من الدين بالضرورة، وأجمع عليه المسلمون.
وتدل ثانيا على أن المسلم لا يجوز أن يتزوج مشركة، ومن كان عنده مشركة فليفارقها، وقد فهم ذلك الإمام عمر رضى الله تبارك وتعالى عنه، ففارق امرأتين كانتا تحته، وهما مشركتان، وأخذ ذلك من النهى في قوله تعالى: وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوافِرِ أى لا تتمسكوا بزواج الكافرين إن كان بينكم وبينهن زواج، لأن الكوافر جمع كافرة، لا جمع كافر، إذ لا يجمع وصف العاقل الذى يكون على وزن فاعل على فواعل، ولكن تجمع فاعلة على فواعل، كفاطمة وفواطم، وقافلة وقوافل، وأريد المشركات، لأنه الذى يتفق مع إباحة الكتابيات بقوله تعالى: وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الْمُؤْمِناتِ، وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ (المائدة- 5) .
وتدل ثالثا- على أن العدالة توجب عند فسخ الزواج بهذا الحكم الشرعي، أن يرد إلى الأزواج المشركين ما أنفقوا على أزواجهم اللائى انفسخ زواجهن بالإسلام، فيرد إليهم الصداق، لأن الفسخ كان بحكم الإسلام يعد من قبل الزوجة.
وفي مقابل ذلك من ينفسخ زواجها من المشركات بحكم إسلام أزواجهن عليهن أن يردوا إلى المؤمنين ما أنفقوا من أموال، فى هذه الزيجة، وذلك لأن امتناعهن عن الدخول في الإسلام، وقد دخل الزوج في الإسلام يعد تفويتا لحقه فوجب التعويض عما أنفق، لأن سبب الفرقة من جانبها.
وإن المسلمين يستجيبون لحكم الإسلام، فيردون ما وجب من إعطاء ما أنفق هؤلاء، لأنه مما يؤدى إليه عقد المسالمة وما تؤدى إليه العدالة التى هى خاصة الإسلام مع العدو والولى على سواء، لقوله تعالى: وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوى (المائدة- 8) .
ولكن لا يضمن أهل الإيمان أن يؤدى المشركون ما يجب عليهم إذا انفسخ الزواج بين المشركة والمسلم؛ ولذلك فرض القرآن الكريم أنهم لا يدفعون، والحكم في هذه الحال أن يؤخذ مما يجب إعطاؤه للمشركين مما أنفقوا، ويسدد للمؤمنين الذين استحقوا ما أنفقوا، ولم يؤد إليهم حقهم.
ويفهم منه أن بيت مال المؤمنين هو الذى يؤدى ما أنفق المشركون في الزيجة التى فسخت بحكم إسلام الزوج، لأن ذلك تنفيذ لحكم شرعى عام، ولأنه ما يوجبه روح العهد الذى عقد في الحديبية.
وأن المشركين يجب عليهم مجتمعين أن يؤدوا للمؤمنين ما أنفقوا في الزواج الذى فسخ للإصرار على الشرك، فإذا لم يؤد أخذ حق المؤمن من مجموع ما كان يجب على المؤمنين، هذا تفسير قوله تعالى: وَإِنْ فاتَكُمْ شَيْءٌ مِنْ أَزْواجِكُمْ إِلَى الْكُفَّارِ فَعاقَبْتُمْ، فَآتُوا الَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْواجُهُمْ مِثْلَ ما أَنْفَقُوا (الممتحنة- 11) وقد أخذنا المعنى في تفسير هذه الآية من تفسير الحافظ ابن كثير لهذه الآيات.
وإن هذا الحكم يفيد بطريق الإشارة إلى أن سبب التفريق إن كان من جانب الزوجة يجب عليها أن ترد ما أنفق الزوج بالمعروف، وتقدير المعروف للقاضي، كما كان تقدير ذلك في عصر النبى صلى الله تعالى عليه وسلم لأمر المؤمنين. وبمقتضى تلك الإشارة: إذا أسلم زوج من لا دين لها، ولم ترض الدخول في دين كتابى أو الإسلام، فإنه يجب عليها أن ترد ما أنفق زوجها، أو ما خسر بسبب امتناعها عن الدخول في دين سماوى.
,
514- الأوّل:
أن هذه الأحكام الفقهية أخذت من نص الآية، وتفسيرها الذى يعد من التفسير بالآثار وهو تفسير الحافظ ابن كثير، ولم نرجع إلى كتب الفقه التى اختلفت فيها، ولا نقول إن هذه الأحكام منسوخة فإنا لا نعلم لها ناسخا، ولأنا نقول إن القرآن الكريم ليس فيه منسوخ وخصوصا في الأحكام الفقهية.
,
أن أكثر المحدثين ذكر أن هذه الآيات نزلت والنبى صلى الله تعالى عليه وسلم لم يغادر الحديبية، فقد قال أبو ثور: أنزلت هذه الآية على رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وهو بأسفل الحديبية حين صالحهم على أنه من أتاه منهم رده إليهم، فلما جاءه النساء نزلت هذه الآية، وأمره سبحانه وتعالى أن يرد الصداق إلى أزواجهن، وحكم على المشركين إذا جاءتهم امرأة من المسلمين (أى كانت تحت مسلم) وبقيت على شركها أن يردوا الصداق إلى أزواجهن.
,
أنه لم يكن ذلك الحكم هو الوحيد الذى كان في غزوة الحديبية، وإن كان ثبوت هذا الحكم بالنفي، بل هناك أحكام أخرى ثبتت بعمل رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، قد عقد لها ابن القيم في كتابه (زاد المعاد في هدى خير العباد) فصلا قائما بذاته فلنتبعه في ذلك.
,
515- نشير هنا إلى بعض ما ذكره ابن القيم:
(أ) منها إن الإحرام بالعمرة في أشهر الحج يجوز ويصح ويلزم الاستمرار فيه، وأن الإحرام بالعمرة وإن كان يجوز من غير مواقيت الإحرام، وهى الأماكن التى خصها النبى صلى الله تعالى عليه وسلم بأن المسافر عليه أن يحرم بالحج قبل اجتيازها، غير أن الإحرام من الميقات للعمرة أفضل، فإنه صلى الله تعالى عليه وسلم أحرم بها من ذى الحليفة، كما أحرم بالحج.
(ب) ومنها أن إشعار الهدى سنة وأنه لا مثلة فيه، وذلك بأن يحدث في جسمه عند سوقه ما يدل على أنه مخصص للذبح في مكة المكرمة، وبالتالى فإن سوق الهدى للعمرة سنة في ذاته عند الإحرام، وأن النبى صلى الله تعالى عليه وسلم ساق الهدى وأشعره، وكان في جملة ما ساق من هدى جمل لأبى جهل كان من أنفال بدر، وإن كان مغايظة للمشركين، وهذا يدل على أن غيظ المشركين ليفل من حدة سلطانهم، ولإثبات أن كلمة الله هى العليا، وأن العاقبة للمتقين، وأنه سبحانه وتعالى قال: ذلِكَ بِأَنَّهُمْ لا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلا نَصَبٌ وَلا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَلا يَطَؤُنَ مَوْطِئاً يَغِيظُ الْكُفَّارَ، وَلا يَنالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلًا إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صالِحٌ، إِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (التوبة- 120) ومنها جواز الاستعانة بالمخلص من غير المسلمين إذا كان في الاستعانة به فائدة ولا ريب فيه، ولا مظنة لأن يترتب على الاستعانة إيذاء، من أى نوع كان، وإلا يمنع سدا للذريعة وذلك لأن النبى صلى الله تعالى عليه وسلم استعان بعيينة الخزاعى، وكان كافرا، وجعله عينا على المشركين وكان أقرب إلى أن يعرف أحوالهم، لاختلاطه بهم، والمصلحة في ذلك، ولا ضرر. والحق في هذه القضية أن النبى صلى الله تعالى عليه وسلم لم يستعن به ابتداء، بل إنه هو الذى قدم معلوماته، وإن خزاعة مسلمهم وكافرهم كانوا على مودة بالنبى صلى الله تعالى عليه وسلم.
ولذلك عند ما تم العهد بين النبى صلى الله تعالى عليه وسلم وبين قريش دخلوا في عهده ولم يدخلوا في عهد قريش كبنى بكر، ورد النبى صلى الله تعالى عليه وسلم للمشركين عهدهم عند ما عاونوا بنى بكر على خزاعة واستعد لفتح مكة المكرمة.
وذكر ابن القيم أن من الأحكام الفقهية التى ظهرت في الحديبية استحباب مشورة الإمام رعيته وجيشه استخراجا لوجه الرأى وأمنا لطاعتهم، وتعرفا لمصلحة يختص بها بعضهم دون بعض، واستجابة لأمر الله في قوله تعالى: وَشاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ (آل عمران- 159) . وقد مدح سبحانه وتعالى عباده المؤمنين، بقوله تعالى: وَأَمْرُهُمْ شُورى بَيْنَهُمْ (الشورى- 38) .
ونحن نرى أن النصوص توجب أن يستشير الإمام الرعية في إدارة شئونهم، وقد نرى استحباب ذلك في القتال، لا في شئون الكافة.
ومنها أن المشركين والفجار والفسقة وأهل البدع إذا طلبوا أمرا يعظمون به حرمة من حرمات الله تعالى، أو أمرا هو حق في ذاته أجيبوا إليه، فكل من يطلب أمرا هو حق في ذاته، أو محبوب لا إثم فيه، أجيب الطلب، ولو كان فاسقا مبتدعا، أو باغيا على الحق، أو مشركا، إلا أن يكون في ذلك ما يؤدى إلى التجرؤ على أهل الحق أو معاونة آثم لذات الإثم وإن ذلك موقف دقيق، إذ التعرف على حق لا يجر إلى باطل أمر دقيق لا يدركه إلا أهل الإيمان وأهل الإدراك السليم.
ومنها أن الحرم ليس مقصورا على المسجد الذى هو مكان الطواف؛ بل الحرم يشمل ذلك، وما حول مكة المكرمة، وأن كلمة الحرم تشمل كل ما حول مكة المكرمة.
ومنها أن المحصر بالحج أو العمرة وهو الذى يمنع من الوصول إلى البيت الحرام، وقد أحرم لزيارته معتمرا أو حاجا ينحر الهدى حيث أحصر، ومنها أن المصالحة مع الكفار جائزة، ولو كان فيها ضيم ظاهر إذا ترتب على ذلك مصلحة للمسلمين، والضيم ظاهر، والعبرة بالنتيجة، وإن كان الضيم في ذاته ضرر، فإنه يقدم بدفع أقل الضررين، وإن الصلح بين النبى صلى الله تعالى عليه وسلم وكفار قريش في هذا الوقت كان خيرا في عواقبه، وإن لم يكن ظاهرا لكل المؤمنين أو لكثرتهم.
وهكذا كانت أعمال النبى صلى الله تعالى عليه وسلم تفيد أحكاما شرعية، سواء أكانت تتعلق بتدبير مصلحى، أو عبادة مقررة ثابتة.
وإنه إذا كان الأمر مصلحة، وجب على كل مؤمن ومؤمنة أن يبدى ما يراه مصلحة، أو يعين على الواجب، لأن ذلك من قبيل النصيحة في الدين التى تجب المبادرة بها، فقد قال صلى الله تعالى عليه وسلم، «الدين النصيحة لله ولرسوله، ولكتاب الله، ولخاصة المسلمين وعامتهم» .
ولذلك تقدمت السيدة أم المؤمنين أم سلمة تطلب إلى النبى صلى الله تعالى عليه وسلم أن يبادر هو بالعمل، فإذا حلق ونحر تبعوه، لأن العمل يؤثر في الاتباع أكثر من القول، ولم يجد النبى صلى الله تعالى عليه وسلم غضاضة في أن يتبع ما أشارت به غير متردد، لأن الحق أحق أن يتبع، ولأن الحق
واجب الاتباع في ذاته، من غير نظر إلى مكانة الداعى بالنسبة للمشير، ولا إلى مقامه بالنسبة لمقامه، ولنتعلم أن هدى النبى صلى الله تعالى عليه وسلم أن نتبع حيثما كان وممن يكون، ولنجعل للمرأة الكريمة الطاهرة العاقلة مكانتها وحق التقدير والاعتبار.
,
516- عند قفول النبى صلى الله تعالى عليه وسلم من مكة المكرمة إلى المدينة المنورة بعد صلح الحديبية نزلت سورة الفتح، فقد قال تعالى في ذلك:
إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً. لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ، وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِراطاً مُسْتَقِيماً (الفتح- 1، 2) .
فسمى الله تعالى ذلك الصلح، وما وفق الله تعالى النبى عليه الصلاة والسلام للقيام، فتحا وليس دنية في الدين كما خطر على عقول بعض المتقين من كبار المؤمنين، وكان فتحا لأنه أنهى القتال بين النبى صلى الله تعالى عليه وسلم وبين قريش، وذلك في ذاته فتح، ولأنه فتح قلوبا كانت مغلقة وعقولا كانت عليها غشاوة حتى إنه أحصى عدد المؤمنين قبل الحديبية في مدى تسع عشرة سنة، ومن أسلم فى سنتين بعد الحديبية، فكان مثل الأوّل أو يزيد، لذلك كله كانت الحديبية فتحا، ولم تكن دنية، وفوق ذلك كانت تمهيدا لدخول مكة المكرمة بالفتح الأعظم الذى لم يجر فيه دم، ولم يكن قتال إلا فى بعض المتمردين، وكانوا قليلين، وكان فتحا، لأن المؤمنين استطاعوا تنفيذا لأحكام الصلح أن يدخلوا معتمرين، ثم متحللين محلقين ومقصرين.
وغفران ذنب الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم ليس على حقيقة معنى الغفران، إنما هو متضمن الرضا والقبول لكل ما يفعله الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم، سواء أكان في الماضى أم الحاضر أو القابل، فكل ما يفعله الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم مغفور، وتسميته ذنبا من قبل المجاز، فهو ليس إلا خطأ لأن ما يعتب به عليه، خطأ كما أخطأ في الأسري، وكما كان يقع منه، ليكون أسوة للناس، فيقروا بأن الإنسان إذا خضع لفكره وعقله ربما يخطيء ولو كان نبيا مرسلا، ولو كان خاتم النبيين محمدا صلى الله تعالى عليه وسلم، والصراط المستقيم الذى هداه الله تعالى هو طريق الدعوة فقد صار معبدا لا عوج فيه بعد هذا الفتح المبين، وإنه كان من الفتح المبين تضافر أهل الإيمان بالبيعة، فقد قال الله سبحانه وتعالى: إِنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ إِنَّما يُبايِعُونَ اللَّهَ، يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ، فَمَنْ
نَكَثَ، فَإِنَّما يَنْكُثُ عَلى نَفْسِهِ، وَمَنْ أَوْفى بِما عاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً (الفتح- 10) .
ولقد كان من الفتح المبين أن نقيت جماعة الإسلام ممن لم تستقم قلوبهم وتكون خالصة للحق لا تبتغى سواه، ولذلك لم يخرج مع النبى صلى الله تعالى عليه وسلم في الحديبية إلا من أراد الله سبحانه وتعالى، وأراد الحج، لا المغانم وما وراءها. ولذلك قال الله سبحانه وتعالى فيهم في سورة الفتح: سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ إِذَا انْطَلَقْتُمْ إِلى مَغانِمَ لِتَأْخُذُوها ذَرُونا نَتَّبِعْكُمْ، يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلامَ اللَّهِ، قُلْ لَنْ تَتَّبِعُونا كَذلِكُمْ قالَ اللَّهُ مِنْ قَبْلُ، فَسَيَقُولُونَ بَلْ تَحْسُدُونَنا بَلْ كانُوا لا يَفْقَهُونَ إِلَّا قَلِيلًا (الفتح- 15) .
ولقد أشار سبحانه وتعالى إلى الذين يستقبلهم المسلمون من أولى البأس والشدة، ولقد كان الذين خرجوا للاعتمار تعرضوا لاحتمال الحرب فتضافروا وبايعوا رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم على أن يبيعوا أنفسهم لله تعالى، ولا يفروا، وقال سبحانه وتعالى ما تلونا من قبل: لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ، فَعَلِمَ ما فِي قُلُوبِهِمْ، فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ، وَأَثابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً. وَمَغانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَها وَكانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً. وَعَدَكُمُ اللَّهُ مَغانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَها، فَعَجَّلَ لَكُمْ هذِهِ، وَكَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنْكُمْ، وَلِتَكُونَ آيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ وَيَهْدِيَكُمْ صِراطاً مُسْتَقِيماً
(الفتح- 18، 20) .
وإنه كانت الحديبية التى سماها الله تعالى الفتح المبين سبيلا لأن يتجه النبى صلى الله تعالى عليه وسلم إلى اليهود وينفرد لهم، ثم بعد ذلك يكون الاتجاه إلى الرومان، كما قال الله سبحانه وتعالى:
سَتُدْعَوْنَ إِلى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ، تُقاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ (الفتح- 16) .
وأولئك هم الرومان، والدخول إلى أرض الشام.
وإن الغاية توجب تحمل الوسائل، ولو كانت قاسية على النفس، وما كان للنبى صلى الله تعالى عليه وسلم أن يتجه إلى اليهود، وخضد شوكتهم في البلاد وقد اتخذوها للأذى والإيقاع ولم ينفع عهد ولا ذمة. ما كان أن يتجه إلى أولئك، وشوكة قريش تجرح من وراءه، فلابد أن يؤمن ظهره بعهد، ولو كان فيه ما توهمه بعض المؤمنين غبنا فاحشا، ولكنه الطريق المستقيم لتوجيه الدعوة الإسلامية إلى مواطنها.
وإن ذلك تصديق رؤيا النبى عليه الصلاة والسلام التى رآها، بأنه سيدخل المسجد الحرام، ولكنها لا تتحقق واقعة إلا في عام قابل، وكان ذلك الصلح، فقد قال الله سبحانه وتعالى:
لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرامَ إِنْ شاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُؤُسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ، لا تَخافُونَ، فَعَلِمَ ما لَمْ تَعْلَمُوا، فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذلِكَ فَتْحاً قَرِيباً. هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ، لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ، وَكَفى بِاللَّهِ شَهِيداً (الفتح- 27، 28) .
وهكذا كان ذلك الصلح فتحا وطريقا للفتح، ودخل به الناس في دين الله أفواجا، أفواجا.
يقول ابن شهاب الزهرى التابعى بحر العلم كما قال الإمام مالك، قال في الحديبية «فما فتح فى الإسلام فتح قبله كان أعظم منه، إنما كان القتال حيث التقى الناس، فلما كانت الهدنة، ووضعت الحرب أوزارها، وأمن الناس بعضهم بعضا، والتقوا فتفاوضوا في الحديث والمنازعة، فلم يتكلم أحد في الإسلام ليقول شيئا، إلا دخل فيه، ولقد دخل في تلك السنين (أى التى كانت قبل فتح مكة المكرمة) قدر ما كان في الإسلام قبل ذلك أو أكثر» .
ونضيف: وقضى النبى صلى الله تعالى عليه وسلم على نفوذ اليهود قضاء كاملا، واتجه إلى خارج الجزيرة العربية ينشر الإسلام فيها.
,
517- كان النبى صلى الله تعالى عليه وسلم حريصا كل الحرص على الوفاء بالعهد، لأن الوفاء بالعهد في ذاته قوة، ولأن الله تعالى يقول: وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذا عاهَدْتُمْ، وَلا تَنْقُضُوا الْأَيْمانَ بَعْدَ تَوْكِيدِها وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا.
ولقد شك بعض المؤمنين في وفاء المشركين في عهدهم هذا، فقال النبى صلى الله تعالى عليه وسلم: وفوا لهم، واستعينوا بالله تعالى عليهم.
ولذلك اتجه النبى صلى الله تعالى عليه وسلم إلى الوفاء.
ولقد كان بعض المؤمنين ينظر إلى الأمر في هذا الاتفاق غير مطمئنين، إلا طاعة الله سبحانه وتعالى ورسوله صلى الله تعالى عليه وسلم فقد شق عليهم أمران:
أحدهما: ألا يتمكنوا من دخول البيت الحرام وقد أحرموا، ومعهم القوة التى يستطيعون أن يدخلوا بها، وليس عند قريش القوة الكافية لردهم، ولذلك تباطئوا في الاستجابة للتحلل من الإحرام بالحلق أو التقصير، على ما قصصنا من قبل.
الأمر الثانى: الشطط في شروط قريش، وفي إملاء العقد، وأشد شطط وغبن أن من خرج مسلما لا يقبله النبى صلى الله تعالى عليه وسلم، بل يرده إلى وليه، ومن عاد إلى مكة المكرمة مرتدا لا يردونه، فقد كان ظاهر الشرط أن فيه غبنا على النبى صلى الله تعالى عليه وسلم، إذ فيه عدم مساواة، ولكن إن نظرنا إلى الشطر الثانى وهو عدم رد من يخرج من الإسلام إلى الشرك، فإنه عند التأمل لا نجد فيه ضررا على المسلمين فما حاجة الإسلام إلى مرتد حائر، فليذهب إلى حيث شاء، بدلا من أن يكون شوكة في المسلمين، وقد يرضى أن يبقى منافقا، وينضم إلى صفوف أهل النفاق، فيكون عينا على المسلمين وعلى النبى صلى الله تعالى عليه وسلم.
وأما بالنسبة للجزء الأوّل من الشرط، وهو أن من خرج من مكة المكرمة مسلما يرد إلى وليه، فقد كان بلا شك شاقا في ذاته، وخصوصا عند ما دخل عليهم أبو جندل يرسف في قيوده.
وإن هذا الجزء من الشرط وإن كان شاقا في مظهره صعب التحمل إلا لمن كان قوى الإيمان، فإن تطبيقه أدى في نتائجه إلى الضرر على المشركين، ولم يضار به النبى صلى الله تعالى عليه وسلم والمؤمنون، حتى إن المشركين الذين كان الشرط من جانبهم ولمصلحتهم هم الذين طلبوا إلغاءه.
ولنذكر تطبيقه كما أوضحت كتب السيرة وصحاح السنة:
كان أوّل من طبق عليه الشرط أبو بصير عتبة بن شيد بن جارية، وكان ممن أسلم وحبس بمكة المكرمة، وقد استطاع أن يخرج من محبسه، وأراد الذهاب إلى النبى صلى الله تعالى عليه وسلم، فكتب إليه بعض المشركين يطلبون تسليمه بمقتضى الشرط وبعثوا رسولين يتسلمانه، وهما رجل من بنى عامر ابن لؤي، ومولى له، فقدما على رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، وعنده أبو بصير فقال له النبى صلى الله تعالى عليه وسلم «يا أبا بصير، إنا قد أعطينا هؤلاء القوم ما قد علمت، ولا يصلح لنا في ديننا الغدر، وإن الله جاعل لك ولمن معك من المستضعفين فرجا ومخرجا» قال: يا رسول الله أتردنى إلى المشركين يفتنوننى في دينى. قال الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم: «يا أبا بصير انطلق، فإن الله تعالى سيجعل لك ولمن معك من المستضعفين فرجا ومخرجا» .
انطلق معهما، واندمج معهما في الحديث، وأظهر الاستسلام، حتى اطمأن إليه العامري، فقال: يا أخا بنى عامر أصارم سيفك هذا؟ قال نعم، قال أنظر إن شئت، فاستله أبو بصير، وأراد أن يختبر صرامته ثم علاه به حتى قتله، فولى المولى مسرعا إلى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، وهو جالس فى المسجد، فقال: إن هذا الرجل قد رأى فزعا، ثم قال له: ويحك مالك؟ قال إن صاحبكم قد قتل صاحبي، وبينا هو يشرح حاله، وكيف قتل العامري، طلع أبو بصير متوشحا بالسيف حتى وقف على
رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، وقال: يا رسول الله قد وفيت ذمتك، وأدى الله عنك عند ما أسلمتنى ليد القوم، وقد امتنعت بدينى أن أفتن أو يعبث بي، قال النبى صلى الله تعالى عليه وسلم: ويل أمه إنه محش حرب إن كان معه رجال، وفي رواية البخارى أنه قال: ويل أمه مسعر حرب لو كان له أحد.
وقع في نفسه أنه سيرد إليهم بعد أن قال النبى صلى الله تعالى عليه وسلم وإنها تفيد بلحنها أن له أن يعتمد على نفسه، وهو قادر على أن يعتمد.
خرج من حضرة النبى صلى الله تعالى عليه وسلم، وسار حتى وصل إلى سيف البحر. وقد علم المستضعفون بخبر أبى بصير، وقول النبى صلى الله تعالى عليه وسلم بأنه محش حرب إن كان معه رجال، فكل مستضعف يعمل على تخليص نفسه ويكون من رجال أبى بصير، فانفلت أبو جندل الذى جاء إلى النبى صلى الله تعالى عليه وسلم يرسف في قيوده، ورده صلى الله تعالى عليه وسلم والتحق بأبى بصير.
وصار كل مستضعف لا يذهب إلى النبى صلى الله تعالى عليه وسلم لأنه سيرده، بل يذهب إلى رجال أبى بصير على سيف البحر.
وكونوا منهم عصابة تقطع طريق تجارة قريش؛ فما كانوا يسمعون بعير خرجت لقريش إلا تعرضوا لها، يقتلون رجالها، ويأخذون مالها، فلم يكن من مصلحتهم التمسك بشرطهم. بل إنهم تركوا الأخذ بالشرط، وأنهم إذ كانوا لا مأوى لهم، لهم الحق بأن يفعلوا بهم جزاء ما آذوهم، ولا حلف معهم إلا الأذى الذى قدموه لهم، وخوف الفتنة دفعهم لأن يقفوا ذلك الموقف منجاة لأنفسهم.
أرسلت قريش إلى النبى صلى الله تعالى عليه وسلم تناشده الرحمة إلا آواهم، وضمهم إليه، ولا يردهم. كان هذا الشرط الذى أزعج النفس المؤمنة ماله أن يكون خيرا للمؤمنين، وهو شرط عليهم، إنها النبوة التى أدركت ما لا يدركه عمر، ولا غيره، وإنه إلهام الله الذى جرى على لسان النبى صلى الله تعالى عليه وسلم «سيجعل للمستضعفين فرجا ومخرجا» .
وإنه لما توسلت قريش إلى النبى صلى الله تعالى عليه وسلم في إلغاء العمل بهذا الشرط، أرسل إلى أبى بصير أن يجيء إلى المدينة المنورة هو ومن معه، ليكونوا قوة للمؤمنين، فكتب إليه بالمجيء إلى المدينة المنورة، ولكن الكتاب لم يصله إلا وهو على فراش الموت، فتوفي، ولكن رجع أصحابه إلى النبى صلى الله تعالى عليه وسلم.
,
478- أولها:
أن أبا رافع سلام بن أبى الحقيق اليهودى كان من أشد اليهود تحريضا على النبى صلى الله تعالى عليه وسلم فهو ممن جمع جموع قريش وغطفان، وكان يحرضهم، حتى
كانت غزوة الأحزاب، وكان ما كان من بنى قريظة، ويظهر أنه لم يفعل ما فعل حيى بن أخطب من إقحام نفسه مع بنى قريظة لعهد له مع كعب بن أسد من أن يكون معه في حصنه إن انتصروا أو هزموا.
ولكن عين الحق لا تغافل عن ذلك الذى حرض العناصر المعادية للنبى صلى الله تعالى عليه وسلم في كل أرض العرب، وأنه على استعداد لمثلها، فكان الحذر الذى أمر الله به في قوله تعالى:
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ يوجب على النبى صلى الله تعالى عليه وسلم أن يتولاه قبل أن يعيد إفساده وتحريضه لما بدأه، فأرسل إليه من المؤمنين من قتله في حصنه الذى يقيم فيه بخيبر.
,
أن النبى صلى الله تعالى عليه وسلم كان يميز بين الرجال والصبيان في بنى قريظة، ليتبين من يستحق القتل، ومن أعفى منه من الذرارى تنفيذا لحكم سعد بن معاذ رضى الله تبارك وتعالى عنه، كان يميز بخروج شعر الفرج، فمن نبت له ذلك الشعر قتل، ومن لا ينبت له لا يقتل، روى عن ابن عطية القرظى قال: كان رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم قد أمر أن يقتل من بنى قريظة كل من أنبت منهم وكنت غلاما فوجدنى لم أنبت فخلوا سبيلى.
وروى مثله أهل السنن الأربعة عن طريق آخر.