171- هذه الصفات الجسدية كلها صفات كمال وجمال، وقد يشاركه بعض الناس فى بعضها، ولكن لا يشاركونه فى كلها، فلديه صلى الله تعالى عليه وسلم صفة جسمية لا يشاركه فيها أحد، وهو جزء بارز بين كتفيه، وهو من نوع جسمه، وإن كان بارزا فيه، ويظهر من مجموع الروايات أنه كان صغيرا بحيث لا يظهر من وراء الثوب ناتئا نتوا واضحا، فقيل إنه كبيضة الحمام، وقيل إنه كالتفاحة، ولا بد أن يكون كالتفاحة الصغيرة، وقد قال سلمان الفارسي، أتيت النبى صلى الله تعالى عليه وسلم فرأيت الخاتم بين كتفيه مثل بيضة الحمامة، وقد تكاثرت الروايات فى ذلك، حتى بلغ الخبر فى ذلك حد
__________
(1) الشفاء ج 1 ص 40.
المشهور المستفيض، وكأنه وصف جسدى معلم للرسالة، لا يمارى فيه من راه، ولله تعالى ايات فى خلقه.
تقدمة صفات النبى صلّى الله عليه وسلّم.
172- المنهاج الذى يسلكه الكتاب فى السيرة العطرة، سيرة الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم أن يكتبوا صفاته صلى الله تعالى عليه وسلم فى اخر سيرته الطاهرة، فلا يكتبوها قبل البعثة المباركة، ولكن يكتبونها بعد أن بلغ الرسالة، ومضى إلى لقائه الكريم.
ونحن قد اخترنا أن نكتب تلك الصفات قبل تكليفه أداء الرسالة، لأنا رأينا- ونرجو من الله التوفيق أن نكتبها قبل البعثة، ليعلم القارىء من الذى كلفه الله أداء الرسالة، ومن الذى اختاره ليكون بشيرا ونذيرا للناس كافة عربهم وعجمهم، وليعلم الناس أنه لم يكن فى مجموع صفاته وكمالاته كسائر الناس، وإن كان من الناس، وأنه ليس ككل واحد من البشر بجموع أخلاقه وتكوينه؛ وإن كان منهم، فهو من الناس، ولكنه فى أعلى كمال الناس، وإذا كان ليس من الملائكة، فهو أعلى من الملائكة، أليق بالرسالة، وأجدر بها من الخلق أجمعين.
وإنه بعد معرفة هذه الصفات وتعرفها، وانفراده بها من بين جيله، بل من بين الأجيال كلها، لا يستطيع أحد أن يقول: لماذا اختاره ربه دون عمرو بن هشام (أبى جهل) أو دون عمر بن الخطاب وهو من الأبرار، أو دون الصديق، وهو من الأطهار، أو دون علي، وهو من الأشداء الأبذال، لا يستطيع أحد أن يسأل: لم اختير دون هؤلاء أو غيرهم، لأن هذه الصفات الخلقية والجسمية لم تكن لأحد من هؤلاء، ولا من غيرهم، ولم يكن ذلك الإشراق المتلأليء الوضاء فى واحد منهم ولا من غيرهم، ولم يعرف لأحد من الناس الكمال فى الأخلاق إلا محمد بن عبد الله صلى الله تعالى عليه وسلم.
وإذا كانت تلك الصفات، وما اتاه الله تعالى من فضل، وما اختصه من رحمة هى التى جعلته مستأهلا لأن يحمل أمانة الرسالة دون غيره، فإنها تكون مقدمة للرسالة، ولا تكون نتيجة لها، والمقدمة بمقتضى المنطق والعقل تسبق النتيجة، وتمهد لها، والتمهيد لا يكون بعد المقصد، بل إنه يرشح له، وينيره، ويهدى إليه.
وقد يقول قائل: إنك فى سبيل بيان صفاته الكريمة قد أتيت بأخبار عنها من بعد بعثه، واستشهدت له بعد إرساله رحمة للعالمين، وبذلك تقع فيما خالفته، وهو أنك ذكرت الصفات بعد البعثة، وموضعها قبلها على ما ذكرت من منطق!!
ونقول فى الإجابة عن ذلك: «إننا استعنا بالأخبار التى وردت عن النبى صلى الله تعالى عليه وسلم بعد الرسالة لأنها وضحت صفاته قبل الرسالة، ولأنها ذكرها من شاهد وعاين من بعد الرسالة، وهذه الصفات التى عاينها الذين آمنوا بمحمد صلوات الله وسلامه عليه، صفات ذاتية، لم تجيء بالرسالة، ولكنها كانت قائمة بذاته الطاهرة من قبلها، فما وصفه الجسدى حادثا بعد الرسالة، ولكنه كان من قبلها، واستمر بعدها، وما كان ما اتصف به من الأمانة والصدق، والعفة، والحلم، والعفو، بأخلاق عرضت له، ولكنها كانت ككل الملكات الذاتية لا تكون عارضة، ولكن تكون مستكنة تامة، وإن أخبار النبى عليه الصلاة والسلام ما كانت لتقوم عليها البينات النيرة الواضحة قبل الرسالة، وهو لم يكن له أصحاب يتبعون سيرته، ويدونون خليقته، ويهتمون بما كان عليه، وما كان من الممكن أن يتكشف للناس أمر هذه السجايا إلا بعد أن يختلط بهم، ويتقدم للدعوة لربه، ويلتقى بالقبائل، ويقرب المرافقين ويدنيهم، ويوجههم ويهداهم، ويصبر للمخالفين، ولا يلاحيهم، ويجادلهم بالتى هى أحسن، ويوطيء أكنافه لهم، وهو ليس فظا ولا غليظ القلب، فالأخبار التى استشهدنا بها لإثبات صفاته، وما كان عليه من خلق ذاتي، ما كانت الرسالة منشئة لها، ولكنها كاشفة الغطاء عنها، معرفة لها، وهى ذاتية قد هيأته لأن يكون المبعوث رحمة للعالمين، يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ، وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ «1» .