457- كانت غزوة دومة الجندل في ربيع الأوّل من السنة الخامسة، وبعدها بستة أشهر كانت غزوة الخندق، إذ كانت في شوال من السنة الخامسة، وفي هذه الأشهر الستة كان النبى صلى الله تعالى عليه وسلم يبلغ الدعوة، ويعلم المؤمنين مباديء الإسلام في المجتمع والفضيلة. والمعاملات المالية، وغير المالية، ويبث دعاته في البلاد العربية، وأخبارها تتجاوزها إلى ما وراء تلك البلاد، تسرى فيها كما يسرى النور، وهو آمن مطمئن، لم يزعجه غاز يغزو مدينته، ولا غادر يغدر به في دعوته الحق، يجيئه المؤمنون به فرادى من كل القبائل، ينضمون إلى صفوفه، أو يعودون دعاة إلى أقوامهم إن وجدوا فيهم.
وكان اليهود من بنى خزاعة بجواره، قد يكيدون له، وإن كانوا لا يظهرون، يمالئون الأعداء، ويتضافرون مع المشركين ممن يرسلونهم من بنى النضير الذين أجلوا، فهم جميعا ملة واحدة في الكيد للمسلمين وإرادة اقتلاعهم، والنبى صلى الله تعالى عليه وسلم يسالمهم، ويحذرهم، يخادعونه، والله خادعهم.
ونوجه الأنظار إلى أن الغزوات المحمدية ما كانت تتجاوز شهرا في سيرها، وذلك قليل في عمر الدعوة الإسلامية. وهى كأمر يعرض فيدفع، ثم ينصرف النبى صلى الله تعالى عليه وسلم إلى تبليغ رسالة ربه. وبيان شرعه والدفاع بالحجة والبرهان عن العقيدة والرسالة أمام اليهود، وأمام المشركين لا يألو جاهدا، فهو يجادل ويبلغ ويعلم، ويحفظهم القرآن ويعلمهم الحكمة، فيرددون أحاديثه، وينقلون أعماله، والرسالة يتكامل تبليغها.
,
458- إن السياق التاريخى للوقائع يشير إلى أن القرشيين تضعضعت نفوسهم ويظهر أنهم ما كانوا ليقدموا على حرب وحدهم، خشية من محمد صلى الله تعالى عليه وسلم ومن معه من جند أشداء فقد مكثوا لا يقاتلونه ولا يذهبون سنتين كاملتين. وإن كانوا يشجعون عليه غيرهم من غطفان وغيرهم، ممن غدروا وخانوا، وهم كانوا يهابون لقاء المؤمنين الأشداء الذين يطلبون الحياة من وراء الموت، ولا يضنون بنفوسهم على الاستشهاد.
كل قبيلة من الأعداء كانت تخاف المؤمنين وحدها، وإذا كانوا قد اجتمعوا على الشرك والكفر فإنهم أرادوا أن يجتمعوا على القتال، ينتفضون على المؤمنين مجتمعين، ويقتلعونهم من المدينة لتعود كما كانت دار شرك ويهود كما كانت أولا.
وإذا كانت الحاجة إلى نصر الشرك تدعوهم إلى الاجتماع، فقد أخذ كبار اليهود الذين طردوا من المدينة يدبرون لهم، ويدخلون في صفهم، فاجتمع ناس من بنى قينقاع، وبنى النضير، بالمشركين يحرضونهم على الاجتماع، وأن يكونوا معهم، والمنافقون يرونهم، وبنو قريظة من ورائهم، فكان اليهود مدبرين، أو مشتركين في التدبير.
قال ابن إسحاق بسنده «إنه كان من حديث الخندق أن نفرا من اليهود منهم سلام بن أبى الحقيق النضري، وحيى بن أخطب النضري، وكنانة بن الربيع بن أبى الحقيق، وهوذة بن قيس الوائلي، وأبو عمار الوائلى في نفر من بنى النضير، وبنى وائل.... وهم الذين حزبوا الأحزاب على رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، خرجوا حتى قدموا على قريش بمكة، فدعوهم إلى حرب رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، وقالوا إنا سنكون معكم عليه، حتى نستأصله.
قالت لهم قريش: يا معشر يهود، إنكم أهل الكتاب الأوّل، والعلم بما أصبحنا نختلف فيه نحن ومحمد، أفديننا خير أم دينه، قال اليهود أهل الكتاب الذين يدعون أنهم يتبعون التوراة: بل دينكم خير من دينه، وأنتم أولى بالحق. وهكذا نرى حقدهم وعنادهم دفعهم إلى الكفر في دينهم، ولقد نزل فيهم قوله تعالى: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ، وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هؤُلاءِ أَهْدى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلًا. أُولئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ، وَمَنْ يَلْعَنِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيراً (النساء- 51، 52) .
ولم يكتف هؤلاء اليهود بتحريض قريش الذين لم يكونوا محتاجين إلى تحريض، ولكن يحتاجون إلى من يؤازرهم، بل إن أولئك النفر من اليهود خرجوا إلى غطفان من قيس بن غيلان فدعوهم إلى حرب النبى صلى الله تعالى عليه وسلم، وأخبروهم أنهم يكونون معهم، وأن قريشا قد تابعوهم. اجتمعت الأرض كلها، واجتمعت قريش، وغطفان، اجتمع هؤلاء ومعهم اليهود وغيرهم فخرجت قريش بقيادة أبى سفيان بن حرب.
وخرجت غطفان وقائدها عيينة بن حصن، وكان في بنى فزارة.
وبنو مرة وقائدهم الحارث بن عوف المرى.
وغير هؤلاء من القواد الذين كانوا يقودون جماعات.
اجتمع هؤلاء ومعهم قبائل من العرب، ليغزوا المدينة، وقد أمر الله تعالى نبيه بأن يقاتلهم كافة، وإنه لناصره كما قال تعالى: وَقاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَما يُقاتِلُونَكُمْ كَافَّةً، وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (التوبة- 36) .
سمع النبى صلى الله تعالى عليه وسلم بمسيرهم، وجاءه الخبر بكثرة الجموع، وما دبروا، وما استحصدوا له.
وروى أن أبا سفيان أرسل مرعدا مهددا بهذه الجموع التى جمعها، وكتب إلى النبى صلى الله تعالى عليه وسلم كتابا هذا نصه:
أما بعد ... فإنك قد قتلت أبطالنا، وأيتمت الأطفال، وأرملت النساء والآن قد اجتمعت القبائل والعشائر يطلبون قتالك، وقلع آثارك، وقد جئنا إليك نريد نصف نخل المدينة، فإن أجبتنا إلى ذلك، وإلا أبشر بخراب الديار وقلع الآثار.
تجاوبت القبائل من فزار ... لنصر اللات في بيت الحرام
وأقبلت الضراغم من قريش ... على خيل مسومة ضرام
وقد نقل هذا الكتاب في كتاب السيرة لابن جرير الطبرى.
وقد أكد هذا الكتاب ما وصل إلى النبى صلى الله تعالى عليه وسلم من أخبار ولم يجد تهديده لاعتماد النبى والمؤمنين على الله.
ورد عليه الصلاة والسلام كتابه قائلا فيه:
بسم الله الرحمن الرحيم
وصل كتاب أهل الشرك والنفاق، والكفر والشقاق، وفهمت مقالتكم، فو الله ما لكم عندى جواب إلا أطراف الرماح وأشفار الصفاح، فارجعوا ويلكم عن عبادة الأصنام، وأبشروا بضرب الحسام وبغلق الهام وخراب الديار، وقلع الآثار، والسلام على من اتبع الهدى.
ونشك في نسبة هذا الكتاب إلى النبى صلى الله تعالى عليه وسلم لما فيه من السجع.
ومهما تكن قيمة الرواية، فإن النبى صلى الله تعالى عليه وسلم مضى في الاستعداد.
فجمع النبى صلى الله تعالى عليه وسلم صحابته، واستشارهم فيما يصنع مع هذه الجموع، لقد كانوا أكثر من أن يخرجوا إليهم، ولا أن يتركوهم يدخلون المدينة، وخصوصا أن بنى قريظة على مقربة من المؤمنين يدلونهم على عورات المسلمين، لا هذا ولا ذاك يصلحان للعمل، ولا بد من عمل يكون وقاية حتى يجىء نصر الله تعالى، وقد وعد به، فقال تعالى: كانَ حَقًّا عَلَيْنا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ
(الروم: 47)
استشار أصحابه، فتقدم سلمان الفارسي، وأشار بالخندق، لأن ذلك كان يصنعه الفرس في حروبهم ليحولوا بينهم وبين القوى المهاجمة، وكان في زمن موسى عليه السلام.
اختار الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم ذلك الرأي، وهو جديد في العرب، قد تروعهم فكرته، ويفزعهم أمره، فأخذ في تنفيذه.
فجمع المسلمين ليحفروه، حتى إذا جاءت الأحزاب وجدوه حائلا بينهم وبين مأربهم.
,
459- كان على أهل المدينة أجمعين أن يشتركوا في حفر الخندق، والنكبة في ذلك الهجوم العام تعم أهل المدينة أجمعين ولا تخص، فإن الشر إذا طم لا يفرق.
ولكن المنافقين يستأذنون في التخلف، ويعتذرون بالضعف، وما كان ضعف الأجسام، فالعذر فيه، إنما كان عذرهم في ضعف الإيمان.
ومنهم من استجابوا للدعوة، ولكنهم عند ما اشتدت الشديدة، أخذوا يتسللون لواذا، لأنهم لا يريدون أن يشتركوا في نصرة محمد صلى الله تعالى عليه وسلم، ولو كان في ذلك إنقاذ للمدينة التى تؤويهم من أن تخرب بيد المشركين، ولقد قال سبحانه وتعالى فيهم:
إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ، وَإِذا كانُوا مَعَهُ عَلى أَمْرٍ جامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ، إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ أُولئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ، فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ، وَاسْتَغْفِرْ لَهُمُ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ. لا تَجْعَلُوا دُعاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً، قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِواذاً، فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (النور- 62، 63)
ومع ذلك تخلفت طائفة من المنافقين ابتداء. وذهبت أخري، ولكنها كانت أشد نكاية من الأولى لأنها كانت تخذل وتوهن قوة العاملين، إذ كانت تتسلل لواذا غير عاملة تثير الإحساس بالشدة.
وليشجعوا من يمكن أن تخور عزائمهم، والأمر صعب شديد.
تقدم المؤمنون الصادقون لحفر الخندق، والنبى صلى الله تعالى عليه وسلم معهم، يحفر ويشتد في الحفر، حتى يستر التراب جلد جسمه صلى الله تعالى عليه وسلم، وهو لا ينى عن العمل بجد لاغب، ولا يقبل أن يعفيه المؤمنون، ولسان حاله يقول أنه ليس أقل منهم في طلب الجزاء، ولا أضعفهم.
كان حفر الخندق في ذاته عملا شاقا مجهدا، وقد أقبل عليه المؤمنون ببشر وترحاب، وكانوا ينشدون الرجز: والنبى يشاركهم بأن يقول معهم آخر كلمات الرجز الذى ينشدونه وكان النبى صلى الله تعالى عليه وسلم يقول ما يناسبه مما يثير همة المؤمنين بالدعاء لهم. فيروى أنه كان يقول: اللهم إن العيش عيش الآخرة فاغفر للأنصار والمهاجرة وذلك تشجيع للعمل، وترنم بما يرجو المؤمنون.
وهم ينشدون:
نحن الذين بايعوا محمدا ... على الإسلام ما بقينا أبدا
وينشدون أيضا:
والله لولا أنت ما اهتدينا ... ولا تصدقنا ولا صلينا
فأنزلن سكينة علينا ... وثبت الأقدام إن لاقينا
إن الأولى قد بغوا علينا ... إذا أرادوا فتنة أبينا
كانوا ينشدون هذه الأشعار، والنبى صلى الله تعالى عليه وسلم لا ينشد الأشعار، ولا ينبغى الشعر له. فما كان يتابعهم في البيت من الأبيات، ولكنه كان يجهر بالقافية معهم مشاركة في الوجدان والإحساس من غير أن يقول ما لا ينبغى له أن يقوله.
وهكذا كان شأنه صلى الله تعالى عليه وسلم في كل ما كانوا ينشدونه يشاركهم في النشيد باخر القوافى.
460- ولقد اقترن حفر الخندق بمشقة شديدة إذ ابتدأ في غداة يوم شديد البرودة.
وقد قسم رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ما يحفر من الخندق بين صحابته من الأنصار والمهاجرين فكان يجعل لكل عشرة من الصحابة رضوان الله تعالى عليهم أربعين ذراعا.
وقد اختلف الصحابة فيمن يكون سلمان الفارسى منهم. لأنه صاحب الفكرة التى هداه الله تعالى إليها. ولقد قال النبى صلى الله تعالى عليه وسلم: سلمان منا آل البيت.
ولقد كان العمل شاقا، ولم يكن القوت كافيا، لأن كثيرين من الصحابة قد انقطعوا عن موارد أرزاقهم، فاجتمع لديهم شدة العمل وقسوته والجوع. ولكن الإيمان كان يخفف كل شدة، والصبر يوجد قوة احتمال، ورعاية الله تعالى فوق كل شدة.
وقد ذكر ابن إسحاق وغيره من الرواة أنه قد حدثت خوارق كثيرة على يدى النبى صلى الله تعالى عليه وسلم في تلك الشدة التى اشترك فيها كل أصحاب رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم. وهو على رأسهم.
قال ابن إسحاق: وكان في حفر الخندق أحاديث بلغتنى فيها من الله عبرة في تصديق رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، وتحقيق نبوته، عاين ذلك المسلمون.
منها- معجزة الكدية (وهى صخرة شديدة صلبة) فكان مما بلغنى أن جابر بن عبد الله كان يحدث أنه اشتدت عليهم في بعض الخندق كدية، فشكوها إلى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فأتى بإناء من ماء فتفل فيه ثم دعا بما شاء الله تعالى أن يدعو به، ثم نضح ذلك الماء على تلك الكدية فو الذى بعثه بالحق نبيا لا نهالت حتى عادت كالكثيب» .
هذا كلام ابن إسحاق: وقد رويت مسألة الكدية بروايات أخرى، ذكر الثانية ابن إسحاق كما ذكر الأولي، وقد ذكرت الثانية في كتب السنة الصحاح الآخرى.
قال ابن إسحاق في الرواية الآخرى، وحدث عن سلمان الفارسى أنه قال ضربت في ناحية من الخندق، فغلظت على صخرة، ورسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم قريب مني، فلما رآني أضرب، ورأى شدة المكان عليّ فأخذ المعول من يدي، فضرب ضربة لمعت تحت المعول برقة ثم ضرب به أخرى فلمعت تحته برقة أخرى، ثم ضرب به الثالثة، فلمعت تحته برقة أخرى. قلت (أى سلمان) بأبى أنت وأمى ما هذا الذى رأيت لمع تحت المعول وأنت تضرب؟ قال: أوقد رأيت ذلك يا سلمان، قلت نعم، قال: أما الأولى فإنه قد فتح علينا اليمن، وأما الثانية فإنه قد فتح علينا الشام والمغرب، وأما الثالثة فإن الله تعالى قد فتح علينا بها المشرق.
هذه رواية تخالف الآخري، ولا مانع من أن يكون الأمران قد وقعا، وخصوصا أن الأولى رواها جابر والثانية رواها سلمان الفارسي، ولكل رواية واقعة، وفي كل واحدة منهما خارق للعادة، ففى الأولى كانت نضحة الماء الذى فيه تفل رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم قد أذابت الصخر فجعلته ككثيب الرمال.
والخارق في الثانية أن النبى صلى الله تعالى عليه وسلم قد أجرى الله تعالى على يديه ما كشف له به أنه سيفتح الله تعالى أمة اليمن وما وراءها والشام وما وراءها إلى المغرب، والمشرق، وهو يمتد إلى الهند والصين.
ونحن لا ننكر خوارق العادات، ولا يمكن أن ننكرها قط على نبينا محمد صلى الله تعالى عليه وسلم، ولكن يجب أن نؤكد هنا، ما أكدناه من قبل، وهو أن هذه الخوارق التى أجراها الله تعالى على يد رسوله محمد صلى الله تعالى عليه وسلم ليست هى معجزته التى تحدى فيها الناس أن يأتوا بمثلها، إنما المعجزة الكبرى هى القرآن الذى تحدى العالمين أن يأتوا بمثله، ولا يمكن أن يأتوا بمثله، ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا.
,
461- قلنا إن حفر الخندق اقترن بمشقة شديدة في الحفر ذاته، وبمشقة أشد في الجوع للبعد عن قلب المدينة، ولانقطاع المؤمنين عن العمل للرزق، بالانصراف للحفر، غير مدخرين أى جهد لغيره، وحتى ما يقوم به الأود، وإن الجهاد في سبيل الله غذاء النفوس يقبلون عليه ولو تعبت في سبيله الأبدان، وأرهقت الأجساد؛ لأنهم يريدون ما عند الله، وعنده الفوز العظيم.
وإن النبى صلى الله تعالى عليه وسلم هو الأسوة الحسنة في الصبر وضبط النفس، والجلادة وتحمل الجوع، حتى إنه صلى الله تعالى عليه وسلم ليشد الحجر على بطنه حيث لا يجد ما يذوقه.
لقد عرض البخارى حديث جابر عن الكدية، وجاء فيه «إنا يوم الخندق نحفر حفرة، فعرضت كدية شديدة، فجاؤا النبى صلى الله تعالى عليه وسلم فقالوا: هذه كدية عرضت في الخندق. فقال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: أنا نازل، ثم قام وبطنه معصوب بحجر، ولبثنا ثلاثة أيام، لا نذوق ذواقا» .
تلك صورة للجوع الذى كانوا فيه، وهم يجالدون، ويبذلون ما لا يبذله إلا أقوياء الرجال في دينهم ونفوسهم، وهنا نجد الخوارق تكون في بركة الطعام القليل الذى يتغذى منه العدد الكثير.
ويذكر ابن إسحاق في ذلك روايتين في بركة الطعام.
أولاهما: البركة في تمر ابنة بشير: ذكر ابن إسحاق بسنده «أن ابنة لبشير بن سعد أخت النعمان بن بشير حدثت فقالت: دعتنى أمى عمرة بنت رواحة أخت عبد الله بن رواحة الشاعر الأنصارى فأعطتنى حفنة من تمر في ثوبي، ثم قالت: أى بنية اذهبى إلى أبيك وخالك عبد الله بن رواحة بغذائهما فأخذتها، فانطلقت بها، فمررت برسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وأنا ألتمس أبى وخالي، فقال عليه الصلاة والسلام: «تعالى يابنية ما هذا الذى معك» فقلت: يا رسول الله هذا تمر بعثتنى به أمى إلى أبى بشير بن سعد وخالى عبد الله بن رواحة يتغذيانه.
قال صلى الله تعالى عليه وسلم: هاته. فصببت في كفى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، فما ملأهما ثم أمر بثوب فبسط له، ثم دعا بالتمر عليه، فتبدد فوق الثوب، ثم قال لإنسان عنده اصرخ في أهل الخندق أن هلمّ إلى الغداء فاجتمع أهل الخندق، فجعلوا يأكلون منه، وجعل يزيد، حتى صدر أهل الخندق عنه، وإنه ليسقط من أطراف الثوب.
الثانية: وهى تشبه هذه. وإن كان قد اختلف موضوعها، ذكر ابن إسحاق عن جابر بن عبد الله أنه قال: عملنا مع رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم في الخندق، وكانت عندى شويهة ليست جد سمينة، فقلت: لو صنعناها لرسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، فأمرت امرأتى فطحنت لنا شيئا من الشعير، صنعت لنا منه خبزا، وذبحت تلك الشاة، فشويناها لرسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم. فلما أمسينا وأراد رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم الانصراف من الخندق، قلت: يا رسول الله إنى قد صنعت لك شويهة كانت عندنا، فأحب أن تنصرف معى إلى منزلي، وإنما أريد أن ينصرف معى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وحده، فلما قلت له ذلك قال نعم، ثم أمر فصرخ صارخ أن انصرفوا مع رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم إلى بيت جابر بن عبد الله. قلت: إنا لله وإنا إليه راجعون.
أقبل رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وأقبل الناس معه، فجلس وأخرجناها إليه فبرك وسمي، ثم أكل، وتواردها الناس، وكلما فرغ قوم قاموا وجاء ناس، حتى صدر أهل الخندق عنها، أى أن الشاة غير السمينة كفتهم جميعا.
ولا شك أن هذين الخبرين بهاتين المسألتين يدلان على خارق للعادة جرى على يدى النبى صلى الله تعالى عليه وسلم، وكم للنبى صلى الله تعالى عليه وسلم في ذلك من خوارق، منه ما ذكرنا، فى لقائه عليه الصلاة والسلام، وغذائه في بيت أم معبد وهو في طريقه إلى الهجرة.
وإن الخبر يدل فوق ذلك على الجهد الشديد الذى أصاب الصحابة ومعهم النبى صلى الله تعالى عليه وسلم من قلة الطعام.
ويدل على أمر سام، وهو فضل التعاون، وهو أنه كان لا ينفرد أحدهم بطعام عن الباقين بإرادة النبى صلى الله تعالى عليه وسلم وهديه وحكمته.
,
462- أقبلت قريش ومن معها من كنانة وتهامة والأحباش وكانوا في عدد كبير بلغ آلافا منهم وممن معهم ونزلوا في أسيال رومة بين مكانين أحدهما اسمه الجرف، والآخر اسمه زغابة، وأقبلت غطفان ومن تبعهم من أهل نجد، ونزلوا عند أحد. وكان عدد قريش أربعة آلاف، وعدد من معهم ستة آلاف، وكانت لهم قيادات مختلفة، فكان يقود قريشا أبو سفيان بن حرب، وكانت غطفان بقيادة عيينة بن حصن وكان ثمة قواد يقودون أعدادا ليست بالكبيرة نسبيا، فكانت أشجع بقيادة مسعود ابن رخيلة وعددهم أربعمائة، وكانت سليم يقودهم سفيان بن عبد شمس، وعددهم سبعمائة.
لم تكن لهؤلاء قيادة موحدة ترسم الخطة، ويتبعها الجميع، وإن جعل كل قيادة علي قومها يتولي القوم رجل منهم، وقد يكون ذلك مفيدا في ذاته، ولكن يجب أن تكون ثمة قيادة عامة ترسم للجميع.
ومهما يكن فهم لم يختلفوا لأنهم جاؤا إلي المدينة، فلم يجدوا ما يمكنهم من الهجوم جميعا أو متفرقين، وما كان سبب الهزيمة التى منوا بها بنصر الله للمؤمنين بالريح والرعب.
ولقد جاؤا إلي المدينة يحسبون أنهم يغيرون عليها، وليفرقوا أو يقضوا عليهم ويسبوا نساءها، لقد جاؤا بعد ما تم حفر الخندق.
فوجئوا بأنهم لا قبل لهم بأن يدخلوا المدينة، فوجئوا بالخندق يحول بينهم وبين أن يقتحموا جند المؤمنين، ولم يكن لهم عهد بمثله، ورأوا كيدا لم يكن بتدبير عربي، بل بعقل آخر، وبذلك لم يروا أن مهمة القضاء علي محمد وأصحابه سهلة، إنها تحتاج إلي تدبير آخر غير ما دبروا، وأن يدخلوا إلي المدينة من غير هذا المكان. فإنه لا يمكن أن يدخل منه جند كثيف كعددهم.
عندئذ تحرك حيي بن أخطب الذي جمع متفرقهم، وإن لم يكونوا مندمجين موحدين في قيادتهم، وإنه إذا نجح في تحريضهم، لا يمكن أن يتخاذل عن أن يضم إليهم بنى قريظة، وقد كانوا يتمنون الغوائل للمؤمنين. ويريدون الوبال لهم، وربما كان لهم سعي في الحركة، وإن لم يكن ظاهرا، تسلل إليهم حيي ليكونوا وراء المؤمنين، وقد يحيط الجميع بهم، وليجدوا منفذا إلي المدينة عن طريقهم، ويعملوا معهم، ويكون المشركون من فوقهم، وبنو قريظة من أسفلهم.
لم يكن بنو قريظة ممن يغامرون وكانوا حريصين علي الحياة كشأن اليهود كما قال تعالى فيهم «وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلى حَياةٍ» (البقرة- 96) .
دخل حيي بن أخطب علي كبيرهم كعب بن أسد القرظي، الذي وادع رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم علي قومه وعاهده، وقد رده ابتداء ردا عنيفا، وقال له: إنك امرؤ مشئوم، وإني قد عاهدت محمدا، فلست بناقض ما بيني وبينه، ولم أر منه إلا وفاء وصدقا، وبعد أن عرض بشجاعته، فتح له الباب.
ولننقل لك الحديث لتعرف ما كانت تجري به الأمور، وما كان يسري في النفوس.
قال حيي: ويحك يا كعب، جئتك بعز الدهر، وببحر طام، جئتك بقريش علي قادتها وسادتها حتي أنزلتهم بمجتمع الأسيال من رومة، وبغطفان علي قادتها وسادتها حتي أنزلتهم علي جانب أحد، قد عاهدونى وعاقدوني علي ألا يبرحوا حتى يستأصلوا محمدا ومن معه.
قال له كعب: جئتني والله بذل الدهر، وبجهام قد هراق ماؤه (أي بسحاب قد نزل ماؤها) فإني لم أر من محمد إلا وفاء وصدقا.
فلم يزل حيي يتحايل بالقول، ويفتل بالذروة والغارب حتي سمع له واستجاب لما يطلب، وبذلك كشف طبع اليهودي، فهو لا يفي بعهد شرفا وكرامة ولكن يفي مضطرا خوف الذل والمهانة، ولذلك وافق عند ما أقنعه بأن القوة مع قريش، وأمنه علي مستقبله، فأعطاه عهدا وأعطاه ميثاقا قائلا له: لئن رجعت قريش وغطفان ولم يصيبوا محمدا أن أدخل معك في حصنك، حتي يصيا بني ما أصابك.
اطمأن كعب، فنقض العهد. وهو من شيمته، وما كان التمسك إلا حرصا منه علي نفسه، وخوفا عليها، فأتاه الشيطان من ناحية نفسه، فاقتنع، والعداوة فيه أصيلة.
ولذلك سرعان ما انضمت قريظة إلي الأحزاب التي جاءت من المدينة وكان ذلك فيما بينهم وبين حيي، وعمل علي أن يبلغه لقريش ومن معهم.
ولكن وصل الخبر إلي النبي صلي الله تعالى عليه وسلم، وهو الحذر الحريص الذي لا يؤتي من غفلة صلى الله تعالى عليه وسلم.
أراد النبي صلي الله تعالى عليه وسلم أن يستوثق ليكون الخبر كالعيان فأرسل إلي بني قريظة سيد الأوس سعد بن معاذ، وسيد الخزرج سعد بن عبادة ومعهما عبد الله بن رواحة. وقال لهم: انطلقوا حتي تنظروا أحق ما بلغنا عن هؤلاء القوم أم لا، فإن كان حقا فالحنوا إليّ لحنا أعرفه ولا تفتوا في أعضاد الناس، وإن كانوا علي الوفاء فيما بيننا فاجهروا به أمام الناس.
ذهبوا إليهم فوجدوهم علي أخبث حال، نالوا من رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، وأنكروا العهد وقالوا: لا عهد بيننا وبين محمد ولا عقد، وقالوا منكرين من رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، فلم يطق سعد بن معاذ صبرا فشاتمهم وشاتموه، وقال له سعد بن عبادة: دع عنك مشاتمتهم، فما بيننا وبينهم أدني من المشاتمة.
عاد السعدان إلي رسول الله صلي الله تعالى عليه وسلم، وذكرا لرسول الله صلي الله تعالى عليه وسلم غدرهم، ولكن بلحن القول، لا بصريحه حتى لا يفت ذلك في أعضاد المسلمين.
463- جاء المشركون من أعلي واليهود من أسفل، والمنافقون في داخل المسلمين يقولون ويوهنون العزائم، ويضعون في النفوس روح التردد والهزيمة والنفاق، وزلزلت قلوب ضعفاء المؤمنين، وظنوا بالله الظنون، حتي قال بعض ضعفاء الإيمان قول غير المؤمنين: كان محمد يعدنا أن نأكل كنوز كسرى وقيصر، وأحدنا اليوم لا يأمن علي نفسه أن يذهب إلي الغائط، ووجد من يستأذن في التخلف من أولئك الضعاف في إيمانهم، حتى قال بعضهم: يا رسول الله، إن بيوتنا عورة من العدو، وذلك علي ملأ من رجال قومه، فأذن لنا أن نرجع إلي دارنا.
وإن أبلغ التصوير للنفوس في هذا الهول هو كلام الله تعالى عن الأحزاب وآثارهم، فيصف ما في الأنفس العليم بذات الصدور، يقول سبحانه:
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً وَجُنُوداً لَمْ تَرَوْها وَكانَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيراً. إِذْ جاؤُكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ، وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ، وَإِذْ زاغَتِ الْأَبْصارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَناجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا.
هُنالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزالًا شَدِيداً. وَإِذْ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ ما وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُوراً. وَإِذْ قالَتْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ، يا أَهْلَ يَثْرِبَ، لا مُقامَ لَكُمْ، فَارْجِعُوا، وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ، يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنا عَوْرَةٌ، وَما هِيَ بِعَوْرَةٍ، إِنْ يُرِيدُونَ إِلَّا فِراراً. وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ مِنْ أَقْطارِها ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ لَآتَوْها، وَما تَلَبَّثُوا بِها إِلَّا يَسِيراً. وَلَقَدْ كانُوا عاهَدُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ لا يُوَلُّونَ الْأَدْبارَ وَكانَ عَهْدُ اللَّهِ مَسْؤُلًا. قُلْ لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْفِرارُ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ، وَإِذاً لا تُمَتَّعُونَ إِلَّا قَلِيلًا. قُلْ مَنْ ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُمْ مِنَ اللَّهِ إِنْ أَرادَ بِكُمْ سُوءاً أَوْ أَرادَ بِكُمْ رَحْمَةً، وَلا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً. قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ، وَالْقائِلِينَ لِإِخْوانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنا وَلا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلَّا قَلِيلًا. أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ فَإِذا جاءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ، فَإِذا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدادٍ، أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ، أُولئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا فَأَحْبَطَ اللَّهُ أَعْمالَهُمْ وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً. يَحْسَبُونَ الْأَحْزابَ لَمْ يَذْهَبُوا وَإِنْ يَأْتِ الْأَحْزابُ يَوَدُّوا لَوْ أَنَّهُمْ بادُونَ فِي الْأَعْرابِ يَسْئَلُونَ عَنْ أَنْبائِكُمْ، وَلَوْ كانُوا فِيكُمْ ما قاتَلُوا إِلَّا قَلِيلًا. لَقَدْ
كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً. وَلَمَّا رَأَ الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزابَ قالُوا هذا ما وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ، وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَما زادَهُمْ إِلَّا إِيماناً وَتَسْلِيماً. مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجالٌ صَدَقُوا ما عاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضى نَحْبَهُ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَما بَدَّلُوا تَبْدِيلًا. لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ الْمُنافِقِينَ إِنْ شاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ، إِنَّ اللَّهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً. وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنالُوا خَيْراً، وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتالَ وَكانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزاً.
وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مِنْ صَياصِيهِمْ، وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ فَرِيقاً تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقاً. وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيارَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ وَأَرْضاً لَمْ تَطَؤُها، وَكانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيراً (الأحزاب- 9: 27) .
هذا أدق وصف لحال النفوس في ذلك الهول، فهل وهنت إرادة النبي صلي الله تعالى عليه وسلم أوضعفت عزيمته، بل كان يؤمن بنصر الله تعالى ويدبر الأمور، ويأخذ الأهبة بعزم الرسول، وهو من أولي العزم من الرسل، فضرب المثل لمن معه من المؤمنين.
464- تقدم للميدان بثلاثة آلاف من المقاتلين، وأمر بالذراري والنساء أن تكون في أطم، أي مبان متينة تكون كالحصون لكيلا يكونوا تحت عين بني قريظة، ولكيلا يكون المجاهدون في فزع علي نسائهم وذريتهم ولكيلا يصيبوا منهم غرة.
وإن النبي صلي الله تعالى عليه وسلم وضع حراسة علي المدينة خشية أن ينقضوا عليها، فأقام سلمة بن أسلم علي مائة من الرجال، وأقام زيد بن حارثة علي ثلاثمائة أخري لحراسة المؤمنين من اليهود.
وذلك كله حذرا من المشركين، وكان لا بد من اتخاذ المكيدة، والحرب مكيدة وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ (الأنفال- 30) . فأراد عليه الصلاة والسلام أن يخذل المشركين بعضهم عن بعض بإثارة الطمع في بعضهم، فيتخلون عن باقيهم، فأراد أن يطمع غطفان ومن معها من نجد، فأرسل إلي عيينة بن حصن وإلي الحارث بن عوف بن أبي حارثة من قوادهم، فطلب إليهما المصالحة علي أن يأخذوا ثلث ثمار المدينة، فقبلوا ذلك طمعا منهم، وأن يعودوا، وكتبوا الكتاب من جانبهم ولم يكن من النبي صلى الله تعالى عليه وسلم شهادة ولا عزيمة صلح، لأنه لا يمكنه أن يعزم ذلك من غير مشورة أهل الثمار، فلما عرض عليهم من بعد أن جاء الكتاب، وكان ذلك العرض أن بعث إلى سعد بن معاذ سيد الأوس وسعد بن عبادة سيد الخزرج، فذكر لهما ذلك، واستشارهما.
قالا له: يا رسول الله، أمر تحبه فتصنعه أم شيء أمرك الله به لا بد لنا من العمل به؟ قال صلي الله تعالي عليه وسلم: بل شيء أصنعه لكم، والله ما أصنع ذلك، إلا لأنني رأيت العرب قد رمتكم عن قوس واحدة، وكالبوكم من كل جانب، فأردت أن أكسر عنكم شوكتهم إلي أمر ما.
قال سعد بن معاذ: يا رسول الله قد كنا نحن وهؤلاء علي الشرك بالله، وعبادة الأوثان لا نعبد الله ولا نعرفه، وهم لا يطمعون أن يأكلوا منها ثمرة إلا شراء أو بيعا، أفحين أكرمنا الله تعالى بالإسلام، وهدانا إليه، وأعزنا به وبك تعطيهم أموالنا، والله ما لنا بهذا من حاجة، والله لا نعطيهم إلا السيف حتى يحكم الله بيننا وبينهم.
قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: فأنت وذاك. فتناول سعد الصحيفة فمحا ما فيها من الكتاب، وبذلك انتهت إرادة الصلح، إن كانت.
وقد أفاد عرض الصلح أمرين عظيمين.
أولهما: أن النبي صلي الله تعالى عليه وسلم علم عزمة أصحابه، وأنهم يريدون لقاءهم.
ثانيهما: أن ذلك أطمع غطفان ومن معها من القبائل، والطمع إذا سكن حل العزيمة وقد ترتب علي ذلك الإطماع، أنهم تململوا بطول الحصار وجري بينهم وبين القرشيين خلاف، وهموا أن يعودوا من حيث جاؤا من غير أن ينالوا شيئا.
465- بهذا العرض خذل النبي صلي الله تعالى عليه وسلم بين قريش وبين من جاؤا بهم من الأعراب، وبقي أن يخذل بين اليهود وبين المشركين، وساق الله تعالى إليه من رضي بأن يكون لسان ذلك التخذيل.
فقد أتي رجل من غطفان هو نعيم بن مسعود وقال: يا رسول الله إني قد أسلمت، وإن قومي لم يعلموا بإسلامي فمرني بما شئت، فقال صلي الله تعالى عليه وسلم: إنما أنت فينا رجل واحد فخذل عنا إن استطعت، فإن الحرب خدعة.
خرج نعيم بن مسعود حتى أتي بني قريظة وكان لهم نديما في الجاهلية فقال: يا بني قريظة قد عرفتم ودي إياكم وخاصة ما بيني وبينكم، إن قريشا وغطفان ليسوا كأنتم، البلد بلدكم فيه أموالكم وأبناؤكم ونساؤكم، لا تقدرون علي أن تجلوا منه إلي غيره، وإن قريشا وغطفان قد جاؤا لحرب محمد وأصحابه وقد ظاهرتموهم عليه، وبلدهم وأموالهم ونساؤهم بغيره، فإن رأوا نهزة أصابوها وإن كان غير ذلك لحقوا ببلادهم، وخلوا بينكم وبين الرجل، ولا طاقة لكم به إن خلا بكم، فلا تقاتلوا مع القوم،
حتي تأخذوا منهم رهناء من أشرافهم يكونون بأيديكم ثقة لكم علي أن تقاتلوا معهم محمدا حتى تناجزوه.
قالوا: لقد أشرت بالرأى.
كان هذا تنبيه صدق لبني قريظة، وإن كان القصد تخذيلهم عن قريش، ولم يكن كاذبا.
ذهب من بعد إلي أبي سفيان بن حرب قائد قريش، وقال: عرفتم ودى لكم، وفراقي محمدا، وإنه قد بلغني أمر قد رأيت عليّ حقا أن أبلغكموه نصحا لكم، فاكتموا عني! فقالوا: نفعل، قال: تعلموا أن معشر يهود قد ندموا علي ما صنعوا فيما بينهم وبين محمد، وأرسلوا إليه، إنا قد ندمنا علي ما فعلنا، فهل يرضيك أن نأخذ لك من القبيلتين من قريش وغطفان رجالا من أشرافهم فنعطيكهم، فتضرب أعناقهم، ثم نكون معك علي ما يبقي فنستأصلهم، فأرسل إليهم أن نعم، فإن بعثت إليكم يهود يلتمسون منكم رهنا، فلا تدفعوا إليهم منكم رجلا واحدا.
ثم خرج إلي غطفان فقال لهم مثل ما قال لقريش.
بعد هذا التحذير من ذلك المسلم التقي المدرك، أرسل أبو سفيان عكرمة بن أبي جهل يستنهض قريظة للقتال وقال لهم: إنا لسنا بدار مقام، قد هلك منا الخف والحافر، فاغدوا للقتال حتي نناجز محمدا ونفرغ مما بيننا وبينه، وكان اليوم يوم سبت، فاعتذروا، وقالوا: لا نعمل فيه شيئا، وكان بعضنا قد أحدث فيه حدثا، فأصابه ما لم يخف عليكم ... ولسنا مع ذلك بالذين نقاتل معكم محمدا، حتي تعطونا رهنا من رجالكم يكونون بأيدينا ثقة لنا، حتي نناجز محمدا، فإنا نخشي إن ضرستكم الحرب واشتد عليكم القتال، أن تتشمروا إلي بلادكم وتتركونا، والرجل في بلدنا لا طاقة لنا به، ولا طاقة لنا بذلك منه.
هكذا أدركت قريش أن بني قريظة تريد أن تأخذ لنفسها أمانا من الرجعة فيما تقول، وهي تريد قتلهم، وأدركت قريظة أنهم لا يريدون تأمينها. وبذلك تم ما أريد من التخذيل بينهم، وأشد التخذيل ما يكون بفقد الثقة وأن يتظنن كل فريق.
ولكن الفريقين مع ذلك استمروا في غيهم، فكانوا يبثون العيون علي أطم المسلمين التي بها الذراري والنساء، لينقضوا عليهم، وينالوا من النبي صلّى الله تعالى عليه وسلم وأصحابه.
فإذا كان للتخذيل أثر، ففي فقد الثقة بين الفريقين، ولكن عداوة النبي صلي الله تعالى عليه وسلم ما زالت تجمع بينهما، فلم تنخلع قريظة عن الإيذاء وإرادة الانقضاض علي بيوت المؤمنين.
,
466- كانت صفية بنت عبد المطلب عمة النبي صلي الله تعالى عليه وسلم في أطم (حصن) لحسان بن ثابت رضي الله تعالى عنه، ولم يكن محاربا، فكان من الصبيان والنساء، ولم يكن الحجاب قد نزل، قالت صفية، فمر بنا رجل من يهود، فجعل يطيف بالحصن، وقد حاربت قريظة، وقطعت ما بينها وبين رسول الله صلي الله تعالى عليه وسلم، فعلمت ابنة عبد المطلب من أنه يطيف بمساكن الذراري والنساء، ومن أن قريظة قطعت ما بينها وبين النبي صلي الله تعالى عليه وسلم، أن هذا الرجل عين علي المسلمين، ويريد عورات النبي صلي الله تعالى عليه وسلم.
قالت السيدة صفية لحسان الشاعر، ليس بيننا وبينهم أحد يدفع عنا، ورسول الله صلي الله تعالى عليه وسلم والمسلمون في نحور عدوهم لا يستطيعون أن ينصرفوا عنهم إلينا، إن أتانا آت، وإن هذا اليهودي يطيف بالحصن، وإني والله ما آمنه أن يدل علي عورتنا من وراءنا من يهود، وقد شغل عنا رسول الله صلي الله تعالى عليه وسلم، وأصحابه، فانزل إليه فاقتله: قال حسان: يغفر الله لك يا بنة عبد المطلب، والله لقد عرفت ما أنا بصاحب هذا. ولما لم أر عنده شيئا احتجزت (أي شدت وسطها) ثم أخذت عمودا، ثم نزلت من الحصن إليه فضربته بالعمود، حتي قتلته، فلما فرغت منه ورجعت إلي الحصن، فقلت: يا حسان انزل إليه فاسلبه، فإنه لم يمنعني من سلبه إلا أنه رجل، فقال: مالى بسلبه من حاجة يا بنة عبد المطلب.
وقد ذكرنا هذه القصة لا لنثبت شجاعة أخت حمزة أسد الله، ولا لحال حسان رضي الله عنه، ولكن ذكرناها، لنعلم منها كيف كان اليهود حريصين علي أن يأتوا دور النبي والصحابة في غيبتهم.
,
467- تلاقي الجيشان: يعتز جيش الشرك بكثرة العدد وكثرة العدة، وأنه من جميع العرب، ويعتز بأنه استطاع بمحالفته لبني قريظة أن يحيط بالمدينة، وأنه يستطيع الانقضاض عليها من طريق حلفائه، ولكن لم يتنبه بأن فيه ضعفا، بتفرق كلمته، إذ أن تعدد القواد، لا يوجد كلمة قيادة موحدة تحسن الهجوم الموحد، وبذلك لا تغني عنهم كثرتهم شيئا، لأن الكثرة المتفرقة خير منها القلة المتحدة، المتالفة المتازرة، وهذا عيب ذاتي في أصل تكوين الجيش من أحزاب.
وفوق ذلك ما كان من إطماع النبى صلى الله تعالى عليه وسلم لغطفان وعدتهم ستة آلاف في صلح يأخذون فيه ثلث ثمار المدينة، وإن ذلك يثير طمعهم، ويفت في عضدهم، وإن كان أمر الصلح لم يبت فيه، ولكن بابه مفتوح لم يغلق.
ثم فوق هذا وذاك فقد الثقة بينهم وبين قريظة الذى لم يجعل ثمة فائدة في التحالف معهم، وإن كانوا قد عملوا في إيجاد الذعر بين المؤمنين، وربما كان منهم من حاول الهجوم على دور النبى صلى الله تعالى عليه وسلم وآل بيته الكرام، وقد رأينا عيونهم تنبث في المدينة.
هذا جيش المشركين ومن معهم، أما جيش أهل الإيمان، فقد خلصته الشدة من المنافقين فيه وضعفاء الإيمان من الذين زلزلوا، وكان خالصا صافيا، وليس فيه إلا من قال الله فيهم: مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجالٌ صَدَقُوا ما عاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ، فَمِنْهُمْ مَنْ قَضى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ، وَما بَدَّلُوا تَبْدِيلًا (الأحزاب- 23) .
,
468- فوجيء المتجمعون من المشركين بالخندق، إذ لم يكونوا يعرفونه فلم يكونوا أهل حروب جماعية، فعرفوا تدبيرها ومكايدها كما أشرنا من قبل، ورأوه سدا يحول بينهم وبين أن ينقضوا جمعا متكاتفا على المدينة، فيقتلعوا الإسلام منها اقتلاعا، وبذلك طاش أوّل هدف لهم.
ولكن بعضهم وجدوا ثغرة منه فقد استطاع بعض فرسانهم أن يقتحمها ومنهم عكرمة بن أبى جهل، وبعض بنى مخزوم، وعمرو بن عبد ود العامرى العربى المرهوب الذى حضر بدرا وأثخن بالجراح، ولم يحضر يوم أحد لجراحه، وقد خرج يوم الخندق معلما ليرى مكانه، ويعلم أنه جاء لشفاء غيظه.
وقد خرج مناديا للمبارزة، وأراد على أن يخرج له فرده النبى صلى الله تعالى عليه وسلم مرتين حتى عير المسلمين، فعندئذ خرج على إليه ولم يمنعه النبى صلى الله تعالى عليه وسلم.
فلما التقيا قال له على داعيا إلى الهدى: يا عمرو، إنك قد كنت عاهدت الله ألا يدعوك رجل من قريش إلى إحدى خلتين إلا أخذت منه خيرهما.
قال عمرو: أجل.
قال على: فإنى أدعوك إلى الله ورسوله وإلى الإسلام. قال: لا حاجة لى بذلك.
قال على: فإنى أدعوك إلى النزال. فقال له: لم يابن أخى، فو الله ما أحب أن أقتلك، قال له على: لكنى والله أحب أن أقتلك، فحمى عمرو عند ذلك واقتحم عن فرسه، وعقره. ونزل للقاء على، ويظهر أن عليا كان راجلا، فأبى أن يقاتل عليا إلا راجلا.
ثم أقبل على على، فتجاولا وضرب ضربة تلقاها على بدرقته، ولكنها اخترقتها وجرحت رأس على، فضربه على ضربة في ترقوته فقتلته، وكانت ضربات على أبكارا: عندئذ كبر المسلمون، فعلم النبى صلى الله تعالى عليه وسلم أن عليا رضى عنه قد قتله.
أقبل على نحو رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، ووجهه يتهلل، فقال له عمر بن الخطاب:
هل استلبته درعه، فإنه ليس للعرب درع خير منها، قال على: ضربته، فاتقانى بسوءته، فاستحييت ابن عمى أن أسلبه.
ويظهر أنه كان عظيما بين المشركين يعزونه فأرسلوا يطلبون جثمانه بمال يقدمونه، فأعطاهم النبى صلى الله تعالى عليه وسلم إياه، وقال: هو لكم لأننا لا نأكل ثمن الموتى.
كان أولئك الذين قد اجتازوا الخندق وفيهم عكرمة، وغيره، وفي بعض الروايات فيهم خالد بن الوليد، قد رأوا ما كان بين على وعمرو بن عبد ود الذى كان كما قيل لم يهزم في مبارزة قط، ولم يلبثوا من بعد مقتله إلا أن يجتازوا الخندق كما بدأوا، وما تقدم أحد منهم لعلى بعد أن قتل عمرو بن عبدود.
وقد ذكر ابن جرير في تاريخه أن نوفل بن عبد الله بن المغيرة تورط في الخندق، ورماه المؤمنون بالحجارة وجعل يقول: قتلة أحسن من هذه، فنزل إليه على وقتله، وروى أن الذى قتله الزبير بن العوام، وطلبت قريش جثته بعد قتله في نظير مال، فأعطاه النبى صلى الله تعالى عليه وسلم من غير مال، وقال لا نأكل ثمن الموتى.
,
469- استمر الحصار قائما بعد الهجمة التى هجمها الذين اجتازوا الخندق من مكان ضيق غير مرتفع، وقد قتل اثنان من المشركين فيه، وهما نوفل المخزومى، وعمرو بن عبد ود العامرى، ثم الرهبة بعد ذلك من اجتيازه، وكان النبل من الجيش منهمرا كالسيل، والمسلمون ينالونهم بالرمى أيضا، وقد قتل منهم واحد بالنبل، وقتل من المسلمين خمسة، أصيبوا فقتلوا والسادس كان هو سعد بن معاذ الصحابى الجليل الذى كان ثانى اثنين ذهبا إلى بنى قريظة، ورأوا خيانتهم للعهد في وقت الشديدة، وسعد رضى الله عنه كان قد خرج إلى الميدان بدرع غير سابغة، فذراعاه كانتا عاريتين، وأصابه سهم في
أكحله، أثبته، ولكنه دعا الله تعالى ألا يموت إلا بعد أن يرى في بنى قريظة جزاء غدرهم فعاش رضى الله تعالى عنه، حتى كان هو الحاكم فيهم ثم قبضه الله تعالى إليه راضيا مرضيا.
كانت المناوشة إذا بين النبى صلى الله تعالى عليه وسلم والمشركين، إذ عجزوا عن أن يصلوا إلى المؤمنين والخندق أمامهم، والمؤمنون الصادقون من على وإخوانه من ورائه، ومعهم سيوف تبرق.
فلم يكن لهم إلا الهجوم على بيت النبى صلى الله تعالى عليه وسلم من أسفل المدينة، وإن ذلك كما يظهر من جانب قريظة، فهو الجانب الذى يمكن أن يجيء الشرك إلى المدينة من جانبه، وإن الظن أن بنى قريظة هم الذين قاموا به تأييدا لحلفائهم الذين نقضوا الميثاق من أجلهم، وليشفوا غيظهم، ولينالوا ثأر بنى النضير وبنى قينقاع من إخوانهم، وإن كان ما أصابهم إنما هو بالاعتداء ونقض العهد، وغدرهم برسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم.
يقول ابن كثير في تاريخه نقلا عن عقبة بن موسى «وجهوا نحو منزل رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم كتيبة فقاوموهم يوما إلى الليل، فلما حانت صلاة العصر رجعت الكتيبة فلم يقدر النبى ولا أحد من أصحابه الذين كانوا معه، أن يصلوا الصلاة على نحو ما أرادوا، فانكفأت الكتيبة مع الليل، وروى أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم قال: شغلونا عن الصلاة ملأ الله بطونهم وقلوبهم وقبورهم نارا» .
وإن هذا الخبر يفيد أن الذين كانوا على حراسة المؤمنين من خيانة بنى قريظة هم الذين قاتلوهم، وأن النبى صلى الله تعالى عليه وسلم لحق بأولئك المجاهدين الأبرار، وردوهم فلم ينالوا شيئا من بيوت المؤمنين، وأن النبى صلى الله تعالى عليه وسلم إذ لحق بأولئك المجاهدين ترك حراسة الخندق للمجاهدين من المؤمنين الذين صدقوا ما عاهدوا الله تعالى عليه، وما بدلوا تبديلا.
وإن كانوا لم ينالوا منالهم، فقد أزعجوا البيوت في المدينة، وتلك هى الجريمة الكبرى التى ارتكبها القرظيون بنقضهم للميثاق كشأن أسلافهم وأعقابهم من بعدهم، وإن ذلك أمارة اشتداد البلاء، وأن الجمع بين صلاة العصر والمغرب في وقت المغرب قد ثبت في صحاح السنة في هذه الموقعة.
فقد رواه البخارى ومسلم والترمذى والنسائى، وصيغته كما في البخارى عن جابر بن عبد الله أن عمر بن الخطاب جاء يوم الخندق بعد ما غربت الشمس فجعل يسب كفار قريش، وقال: يا رسول الله ما كدت أصلى حتى كادت الشمس تغرب، قال النبى صلى الله تعالى عليه وسلم «والله ما صليتها» فنزلنا مع رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فتوضأ للصلاة، وتوضأنا، فصلى العصر بعد ما غربت الشمس. ثم صلى بعدها المغرب.
وإن هذا يدل على جواز الجمع بين الصلاتين جمع تأخير لعذر الحرب، وأجازه أحمد لعذر الحرب ولغيره.
,
470- أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ، وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْساءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا، حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ (البقرة- 214) .
اشتد البلاء على الرسول والذين معه، فقد كانوا محاصرين نحو عشرين ليلة، وكان من القرظيين تلك الخيانة، وإن هموا بكتيبة غليظة أن يغزوا بيت النبى صلى الله تعالى عليه وسلم.
نعم إنه لم تكن الشديدة على المؤمنين وحدهم، بل كان جيش الشرك في ليال برد شديدة البرودة، وقد قل الزاد، وجف الحافر- وأصابهم سوء الظن بعضهم ببعض حتى قال أبو سفيان متكلمهم إنكم والله ما أصبحتم بدار مقام، لقد هلك الكراع والخف، وأخلفتنا بنو قريظة. كانت حال المؤمنين قابلة للصبر بالإيمان، أما غيرهم فلا إيمان يعزيهم، ولا رجاء فيما عند الله يشجعهم، وأن النبى صلى الله تعالى عليه وسلم دائم الاتجاه إلى ربه، ورويت عنه في هذه الواقعة عدة أدعية نبوية مفوضة ضارعة، تكررت فكانت الاستجابة كما قال تعالى: ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ.
وكان من دعائه في هذه الشدة ما رواه الإمام أحمد أنه قال: «اللهم استر عوراتنا، وآمن روعاتنا» ، ومن دعائه ما رواه الإمامان مسلم والبخارى «اللهم منزل الكتاب، سريع الحساب اهزم الأعداء، اللهم اهزمهم وزلزلهم وانصرنا عليهم» .
ومن دعائه ما رواه البخارى عن أبى هريرة أنه كان يقول: «لا إله إلا الله وحده، أعز جنده، وأعز عبده، وغلب الأحزاب وحده، فلا شيء بعده» .
وقد استجاب الله تعالى لرسوله، ومن أحق بالاستجابة من الرسول، والدعاء عبادة، وأى عبادة أطهر وأنقى وأخلص من عبادة الرسول.
أرسل الله عليهم ريحا صرصرا عاتية في يوم برد شديد البرودة، وأرواح الله الطاهرة تبث الرعب في نفوسهم، وفسد ما بينهم وبين أنفسهم، فتخاذلت غطفان عن قريش، وتظننت قريظة فيها وتظننوا فيها بل روى أنهم أرسلوا إلى الرسول يطلبون إليه الصلح على أن يرد بنى النضير إلى أرضهم.
جاءهم الخوف وقد سكن قلوبهم، وجاءت الريح تزعجهم، حتى أن أبا سفيان يقول: لقينا من شدة الريح ما ترون! ما تطمئن لنا قدر، ولا تقوم لنا نار، ولا يستمسك لنا بناء، فارتحلوا، فإنى مرتحل.
ارتحلوا مذعورين مخذولين، وتركوا من ورائهم متاعهم.
وما نالوا من المؤمنين، فقد قتلوا بالنبال من المؤمنين ستة، وقتل المؤمنون منهم ثلاثة فيهم عمرو بن عبدود، الذى كان يعد بالعدد من الرجال، ولا يعد بالواحد، قتله فارس الإسلام على بن أبى طالب ولننقل ما ذكر الله تعالى في بيان ختام الواقعة، ونكرر التلاوة إذ تلوناه من قبل:
وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنالُوا خَيْراً، وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتالَ، وَكانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزاً (الأحزاب- 25) .
قال الله تعالى في أثناء وصف القصة، وبيان نتائجها: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ، إِذْ جاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً وَجُنُوداً لَمْ تَرَوْها، وَكانَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيراً.
وبذلك انتهت معركة الأحزاب، التى اهتزت لها الجزيرة العربية كلها، ونادت بالويل والثبور، وأنها مقتلعة الإسلام من موطنه، فباؤا بخسران مبين، منهزمين في الميدان، ومضطربين في نفوسهم، وقد رأوا من آيات ربهم الكبرى ما رأوا.
فقد جاء في كتاب مغازى الواقدي: لما ملت قريش كتب أبو سفيان كتابا وبعثه مع أبى سلمة الخشنى. جاء فيه:
باسمك اللهم، فإنى أحلف باللات والعزى وأساف ونائلة وهبل، لقد سرت إليك في جمعنا، وإنا لا نريد ألا نعود إليك أبدا، حتى نستأصلكم، فرأيناك قد كرهت لقاءنا، فجعلت مضايق وخنادق، ليت شعرى من علمك هذا، فإن نرجع عنكم، فلكم منا يوم كيوم أحد تنتصر فيه النساء.
فكتب النبى صلى الله تعالى عليه وسلم:
من محمد رسول الله إلى أبى سفيان بن حرب. أما بعد فقد أتانى كتابك، وقد غرك بالله الغرور.
أما ما ذكرت أنك سرت إلينا في جمعكم، وأنك لا تريد أن تعود حتى تستأصلنا، فذلك أمر الله يحول بينك وبينه، ويجعله لنا حتى لا تذكر اللات والعزى، وأما قولك من علمنا الذى صنعنا من ذلك، فإن الله ألهمنى ذلك، لما أراد من غيظك، وغيظ أصحابك، وليأتين عليك يوم أكسر فيه اللات والعزى، وأساف ونائلة وهبل حتى أذكرك ذلك.
,
471- كانت لهذه الغزوة نتائج طيبة:
(أ) إذ رد الله الذين كفروا بغيظهم لم ينالوا خيرا، وقد بذلوا أقصى ما يستطيعون فيها، جمعوا العرب ليغزوا المدينة فما رجعوا إلا بستة من القتلى يقابلهم ثلاثة فيهم فارسهم وقد قتله فارس المسلمين على كرم الله وجهه.
وإن أثر هذا أن ألقى اليأس في قلوبهم من أن ينالوا من النبى صلى الله تعالى عليه وسلم، وما كانوا ليستطيعوا أن يقوموا بمثل ما قاموا به، فكان لسان حالهم يقول، لا نستطيع لمحمد سبيلا، ولقد قال النبى صلى الله تعالى عليه وسلم «لا تغزوكم قريش بعد عامكم هذا. ولكنكم تغزونهم» ، ولقد أشار القرآن الكريم بذلك، فقال تعالى وهو أصدق القائلين وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتالَ.
(ب) وإن العرب الذين كانوا قد طمعوا في المؤمنين بعد غزوة أحد التى أشاع المشركون فيها أن محمدا صلى الله تعالى عليه وسلم وصحبه قد هزموا، قد استكانوا، ولم يعودوا طامعين في نصر، بل نأى بهم الخوف عن أن ينالوا منالا، أو يدبروا أمرا، فلا يفكروا في اعتداء أو غدر، أو ممالأة، وإن ذلك اليأس قد يدفعهم إلى التفكير فيما يدعو إليه محمد صلى الله تعالى عليه وسلم، ولذلك كثر الذين يجيئون إلى النبى صلى الله تعالى عليه وسلم داخلين في الإسلام أفواجا وفرادى، إذ أن الغواشى قد زالت، ومن ذلك كانت وفود القبائل العربية يجيئون يتعرفون الإسلام.
(ج) وأن الآيات المادية قد تؤثر في أولئك الماديين الحسيين، وخصوصا إذا كانت في موطن الفزع، فإنها إذا جاءت من غير سبب يألفونه ويعرفونه، فإنها قد تأخذ عقولهم إلى التفكير السليم وتخلعها من الوثنية، إذ يدخل إليها نور الحق شيئا فشيئا، والنور كلما دخل أشرق، وإذا أشرق اتجهوا إلى الحق وطلبوه وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ.
(د) وإن اليهود قد ظهرت نياتهم لمرأى العين، وانكشفت وصار ما تخفيه صدورهم أمرا معروفا.
فقد كانت هذه الشديدة، التى ادلهمت مبينة ما يبيته اليهود للمؤمنين، بل تكشفت الوجوه ولم تسترها همزة النفاق، وصاروا وجها لوجه أمام النبى صلى الله تعالى عليه وسلم.
(هـ) وقد بينت واقعة الخندق أن أهل الباطل جمعهم متفرق، فقد اجتمعوا، ولكن سرعان ما اختلفت نوازغهم بين المشركين أنفسهم، بما أبداه غطفان من الميل للصلح والعودة، وبما كان بين المغيرين والقرظيين.
,
481- وقد قطع النبى صلى الله تعالى عليه وسلم في غزوة الخندق، وبنى قريظة بقية شوال.
وذى القعدة وبعضا من ذى الحجة.
وبعد الخندق وما تبعه تزوج النبى صلى الله تعالى عليه وسلم أم حبيبة بنت أبى سفيان قائد الشرك، ثم تزوج بزينب بنت جحش.
ولقد كان من قبل تزوج سودة بنت زمعة، وعائشة بنت الصديق، وتزوج بعد بدر حفصة بنت صاحبه ووزيره عمر بن الخطاب، وتزوج بعد أحد أم سلمة، ثم تزوج بعد غزوة بنى المصطلق جويرية بنت الحارث، ثم من بعد خيبر صفية بنت حيى بن أخطب.
ونترك الكلام في أزواج النبى صلى الله تعالى عليه وسلم إلى الكلام في باب خاص بذلك وأسبابه وحكمته.
,
كان منزل النبى صلى الله تعالى عليه وسلم بيتا للمؤمنين أجمعين، وخصوصا أنه كان على مقربة من المسجد، بل إنه متصل به، وكان أقرب البيوت إليه، بيت عائشة رضى الله عنها.
485- ويظهر أن المسلمين ما كانوا يجدون حرجا في الدخول إلى منزله عليه الصلاة والسلام، والمؤمنون الذين أشربوا آداب الإسلام، وهذب الإسلام طبعهم يستأذنون، ولا يدخلون لغير موجب، ولا يتخذون فيه مجلسا، فلما كان ناس لم يتحلوا بهذا النوع من التهذيب الإسلامى، كان لا بد من بيان ينهى، وقد كان، وسمى علماء الحديث الآيات التى بينت ذلك النهى آيات نزول الحجاب، بأن لا يدخل أحد إلا بإذن، وألا يدخل بيت النبى صلى الله تعالى عليه وسلم مستأنسا لحديث.
ونزل ذلك الحجاب في ليلة زفاف زينب بنت جحش الصالحة المعتصمة بدينها للنبى صلى الله تعالى عليه وسلم، فقد روى عن أنس بن مالك أنه لما تزوج النبى صلى الله تعالى عليه وسلم زينب بنت جحش، دعا القوم فطعموا وجلسوا يتحدثون، فإذا هو يتهيأ للقيام فلم يتهيأوا، فلما رأى ذلك قام فقاموا، وقعد ثلاثة نفر، وجاء النبى صلى الله تعالى عليه وسلم ليدخل، فإذا القوم جلوس، ثم إنهم قاموا، فأخبرت النبى صلى الله تعالى عليه وسلم أنهم انطلقوا.
486- روى الخبر، البخارى ومسلم.
وخلاصته كما ترى أن النبى صلى الله تعالى عليه وسلم أولم لهم بوليمة، فلما طعموا لم ينتشروا، فتهيأ للقيام فلم يقوموا ثم قام فعلا، فقام من قام، وبقى ثلاثة لم يشعروا بما ينبغى فبقوا، فدخل صلى الله تعالى عليه وسلم إلى أهله وهم جلوس، ثم انطلقوا بعد.
وروى البخارى حديثا آخر في هذا المعنى عن أنس خادم رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، ولكنه يثبت أن الدعوة كانت عامة وواسعة، يقول أنس: بنى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم بزينب بنت جحش، فأرسلت على الطعام داعيا، فيجىء قوم، فيأكلون ويخرجون ويجىء القوم فيأكلون ويخرجون، فدعوت حتى ما أجد أحدا أدعوه، فقلت يا نبى الله ما أجد أحدا أدعوه، قال ارفعوا طعامكم، وبقى ثلاثة رهط يتحدثون في البيت، فخرج النبى صلى الله تعالى عليه وسلم فانطلق إلى حجرة عائشة فقال: السلام عليكم أهل البيت، ورحمة الله وبركاته، قالت: وعليك السلام ورحمة الله وبركاته، كيف وجدت أهلك، بارك الله لك، فتقرى حجر نسائه كلهن، ويقول لهن، كما يقول لعائشة، ويقلن له، كما قالت عائشة، ثم رجع فإذا رهط ثلاثة في البيت يتحدثون وكان النبى صلى الله تعالى عليه وسلم شديد الحياء، والروايات متلاقية، وإن كان في بعضها زيادة تفصيل.
487- كان هذا سببا مقاربا لنزول آية منع دخول بيت النبى صلى الله تعالى عليه وسلم، فنزل قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلى طَعامٍ غَيْرَ ناظِرِينَ إِناهُ، وَلكِنْ إِذا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا، فَإِذا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا وَلا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ، إِنَّ ذلِكُمْ كانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ، وَاللَّهُ لا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ، وَإِذا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتاعاً فَسْئَلُوهُنَّ مِنْ وَراءِ حِجابٍ، ذلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ، وَما كانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ، وَلا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْواجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَداً، إِنَّ ذلِكُمْ كانَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيماً. إِنْ تُبْدُوا شَيْئاً أَوْ تُخْفُوهُ فَإِنَّ اللَّهَ كانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً. لا جُناحَ عَلَيْهِنَّ فِي آبائِهِنَّ وَلا أَبْنائِهِنَّ وَلا إِخْوانِهِنَّ، وَلا أَبْناءِ إِخْوانِهِنَّ، وَلا أَبْناءِ أَخَواتِهِنَّ، وَلا نِسائِهِنَّ وَلا ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُنَّ، وَاتَّقِينَ اللَّهَ، إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيداً
(الأحزاب- 53، 55) .
هذا تعليم من الله تعالى لقوم يحتاجون إلى هذا التعليم وهو تهذيب وتأديب، ليكون المجتمع مبنيا على مودة ورحمة، وألا يكون إيذاء نفسى، يكبته الحياء عند أهل الحياء.
,
أوجب الإسلام بنص القرآن ألا يدخل أحد بيتا حتى يستأنس بأهله ويسلم عليهم ويستأذن منهم، لتربية النفوس، ولتكون الثقة كاملة بين الناس فلا يرتاب مرتاب، ولا يشك شاك، وقد قال الله في ذلك: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ، حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا، وَتُسَلِّمُوا عَلى أَهْلِها، ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ. فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فِيها أَحَداً فَلا تَدْخُلُوها حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ، وَإِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكى لَكُمْ، وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ. لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ مَسْكُونَةٍ فِيها مَتاعٌ لَكُمْ، وَاللَّهُ يَعْلَمُ ما تُبْدُونَ وَما تَكْتُمُونَ (النور- 27، 29) .
488- وبين سبحانه حكم من يكونون في داخل البيت من الخدم، ومن ملكت أيمانهم، فأوجب الاستئذان في العشية، وقبل صلاة الفجر، ومن بعد الظهيرة، فقال تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ، وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ ثَلاثَ مَرَّاتٍ مِنْ قَبْلِ صَلاةِ الْفَجْرِ، وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيابَكُمْ مِنَ الظَّهِيرَةِ، وَمِنْ بَعْدِ صَلاةِ الْعِشاءِ ثَلاثُ عَوْراتٍ لَكُمْ، لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلا عَلَيْهِمْ جُناحٌ بَعْدَهُنَّ، طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ بَعْضُكُمْ عَلى بَعْضٍ، كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ، وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ. وَإِذا بَلَغَ الْأَطْفالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ، فَلْيَسْتَأْذِنُوا كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ، كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آياتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ. وَالْقَواعِدُ مِنَ النِّساءِ اللَّاتِي لا يَرْجُونَ نِكاحاً، فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُناحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجاتٍ بِزِينَةٍ، وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ. وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (النور- 51، 60) .
,
595- لم نقل المعركة، ولكن قلنا اللقاء، لأنه لقاء التصفية وتنقية القلوب من ضغائنها، وتلاقى النفوس على المرحمة بعد الملاحم، ومن يقدر على ذلك إلا رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم الذى أرسله رب العالمين الذى ألف بين قلوبهم القائل تعالت كلماته: وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْداءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ، فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْواناً، وَكُنْتُمْ عَلى شَفا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ، فَأَنْقَذَكُمْ مِنْها (آل عمران: 103) .
دخل رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم لا دخول المقاتل، ولكن دخول المسالم الذى يريد أن يفتح القلوب للإيمان، فكان على أحد جانبى الجيش الزبير بن العوام، وعلى الجانب الآخر خالد بن الوليد، وعلى المهاجرين أبو عبيدة عامر بن الجراح، والجميع متجهون صوب مكة المكرمة، من شمالها الزبير بن العوام بمن يقودهم، ومن جنوبها خالد بن الوليد بمن يقودهم، ومن الشمال الغربى أبو عبيدة بالمهاجرين ومن الغرب سعد بن عبادة يقود الأنصار.
وكانت أوامر النبى صلى الله تعالى عليه وسلم ألا يقتلوا ولا يقاتلوا فما دخلوا لحرب ولكن لأجل إقرار السلم.
ولكن علم النبى صلى الله تعالى عليه وسلم وهو فى كتيبته أن أوشاب قريش أو بعضهم، ليسوا من كبرائهم، ورأى أن هؤلاء قد يشوهون وجه اللقاء، فنادى أبا هريرة: اهتف بالأنصار، ولا يأتين إلا أنصاري، فأمر الأنصار بأن يحصدوهم حصدا إذا وجدوا منهم أمرا يخرج المجاهدين السالمين عن سلمهم.
ركزت راية رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم عند الحجون.
لقد كان النبى صلى الله تعالى عليه وسلم حريصا على أن يبعد كل نزعة إلى الحرب، ويبعد صاحبها ولو كان عنده من المقربين الذين أيدوه بنصرهم، والناس عنه معرضون.
قال سعد بن عبادة حامل راية الأنصار عندما مر على أبى سفيان، أو جعل شعاره: «اليوم يوم الملحمة، اليوم تستحل الحرمات» فقال عمر بن الخطاب: أتسمع. وقال عثمان بن عفان وعبد الرحمن بن عوف: يا رسول الله ما نأمن أن يكون له فى قريش صولة، وقال صلى الله تعالى عليه وسلم:
بل اليوم يوم تعظم فيه وتعز فيه الكعبة الشريفة، اليوم يوم أعز الله فيه قريشا. ثم أرسل على بن أبى طالب
لينزع منه الراية، وفى رواية أنه أعطاها عليا، وفى رواية أعطاها الزبير بن العوام، والرواية المشهورة أنه أعطاها قيس بن سعد بن عبادة، لكيلا يكون فى نفس سعد بن عبادة شيء من نزعها، إذ أنها أعطيت لابنه فأخذت منه إليه، ولأن النبى صلى الله تعالى عليه وسلم يريد ألا يحمل راية الأنصار إلا أنصارى لتكون حمية الأنصار وليكون لهم مقام الفتح برجالهم وبقيادتهم، والرواية التى تقول أنه عليه الصلاة والسلام أعطاها عليا، قامت على أن عليا هو الذى نزعها منه، ولعل الزبير هو الذى أعطاها قيسا، بأمر النبى صلى الله تعالى عليه وسلم، وبذلك تتلاقى الروايات الثلاث؛ وتكون الراية انتهت إلى ابن سعد.