472- إن هذه الغزوة إحدى نتائج الفشل الذريع الذى منيت به غزوة قريش ومن معهم للمدينة. وحيلولة الخندق بينهم وبين أن يدخلوها.
فإن بنى قريظة قد ارتضوا نكث العهد، أو نقض الميثاق الذى كان بينهم وبين النبى صلى الله تعالى عليه وسلم، وقد حاولوا أن ينقضوا على عورات النبى صلى الله تعالى عليه وسلم.
لقد حسبوها فرصة للقضاء على النبى صلى الله تعالى عليه وسلم، وأن تكون المدينة لهم بدل أن يكونوا في عهد معه وسلم وأمان، ويكون لهم ما للمسلمين، وعليهم ما على المسلمين.
وقد مالئوا وعاونوا، وأقدموا على مهاجمة بيت النبى صلى الله تعالى عليه وسلم، ومن معه من المؤمنين، ولما رد الله الذين كفروا بغيظهم لم ينالوا خيرا وكفى الله المؤمنين القتال، أدركوا أن الفرصة قد أفلتت من أيديهم وكانت عاقبة أمرهم خسرا.
أولئك المشركون رجعوا إلى ديارهم، ورضوا أن يثوبوا، وعادوا إلى ديارهم لا يغير عليهم مغير، ولا يأخذ منهم أحد جزاء ما اقترفوا، أما بنو قريظة، فإنهم سيؤدون الحساب على ما ظاهروا عليه المشركين، وعلى نقضهم العهد الموثق.
لذلك كله امتلأت قلوبهم رعبا، وكانت النتيجة كما قال الله تعالى: وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مِنْ صَياصِيهِمْ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ فَرِيقاً تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقاً. وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ، وَدِيارَهُمْ، وَأَمْوالَهُمْ، وَأَرْضاً لَمْ تَطَؤُها وَكانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيراً.
كان بين يدى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم أحد أمور ثلاثة: إما أن يعفو عنهم، ويتركهم آمنين في ديارهم، وهم بجوار المؤمنين الذين خانوهم، وإن ذلك غير ممكن؛ لأن العفو لا يكون إلا لمن يرجى منه خير، وكيف وإن يظهروا عليكم لا يرقبوا فيكم إلّا ولا ذمة.
وإما أن يخرجهم من ديارهم كما أخرج بنى النضير من ديارهم، ولكن لا تكون ثمة عدالة، ولا مساواة بينهم وبين بنى النضير، لأن بنى النضير نقضوا الميثاق بما دون ذلك، ولأنهم لم يهاجموا بيوت النبى صلى الله تعالى عليه وسلم، وقد أوتيت من فوقها ومن أسفل منها، وأحيطت بكتائبهم، وكتائب الشرك، فكانوا إحدى الكوارث، أو أشدها فاعلية بعد أن حال الخندق بين النبى صلى الله تعالى عليه وسلم وبين أعدائه.
هذان أمران ليس من المعقول تطبيق أحدهما أو هما، وليس من العدل تطبيق الثاني. لم يبق إذن إلا القتال، وعندئذ تقول الحقيقة ويل للخائن المغلوب، وإنه إذا كان قتال، فإن نتيجته معروفة من قبل وقوعه، إذ أنهم سيبادون عن آخرهم، ويكون ذلك شفاء لقلوب المؤمنين الذين زاغت منهم الحناجر بسبب انضمامهم للمشركين.
أرادوا أن يخرجوا كما خرج بنو النضير، فلم يرض النبى صلى الله تعالى عليه وسلم، لعدم التساوى بين حالهم، وحال بين النضير، فاختار النبى صلى الله تعالى عليه وسلم القتال بأمر ربه ولكنهم استسلموا.
,
473- جاء أمر الله تعالى بأن يخرج النبى صلى الله تعالى عليه وسلم لقتال بنى قريظة، فروى أن جبريل أمين الوحى جاء يقول للنبى صلى الله تعالى عليه وسلم: وقد وضعت السلاح يا محمد؟
قال: نعم، فقال جبريل: فما وضعت الملائكة السلاح. إن الله عز وجل يأمرك يا محمد بالمسير إلى بنى قريظة.
سار النبى صلى الله تعالى عليه وسلم إلى بنى قريظة بأمر الله، وإن منطق الحرب يدعو إلى ذلك، والحذر الذى أمر الله به يوجب ذلك.
أمر النبى صلى الله تعالى عليه وسلم مستجيبا لأمر ربه فأذن في الناس من كان سامعا مطيعا، فلا يصلين العصر إلا في بنى قريظة.
استعمل النبى صلى الله تعالى عليه وسلم في المدينة ابن أم مكتوم.
أعطى الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم الراية لعلى بن أبى طالب.
سار على رضى الله تعالى عنه، حتى إذا دنا من حصونهم سمع منهم مقالة قبيحة في رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وكأنهم مستمرون على غيهم.
فرجع حتى لقى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، وظن الرسول أنهم قالوا فيه وعلى لا يريد أن يسمع منهم أذى لرسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم.
دنا رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم من حصونهم، وقال لهم: «يا إخوان القردة. هل أخزاكم الله وأنزل بكم نقمته؟ قالوا: يا أبا القاسم ما كنت جهولا» .
مضى إليهم رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم بعد أن اجتمع جيشه، والراية مع على حتى نزل على بئر من آبارهم؟
وكان من بين أصحابه من لم يصل العصر إلا في وقت العشاء، لأنهم انتظروه إلى العشاء، وقد قال: لا يصلين أحد العصر إلا في بنى قريظة، فينتظرونه حتى يصلى بهم العصر، فصلوا العصر بها في وقت العشاء فما عابهم صلى الله تعالى عليه وسلم.
حاصرهم رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم لقتالهم، وهو ما أمر الله به، وهو الأمر بالمعقول فى ذاته كما ذكرنا من قبل، ولكنهم لم يخرجوا لقتال.
حاصرهم رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم خمسا وعشرين ليلة حتى جهدهم الحصار، وكان معهم في حصن كعب بن أسد حيى بن أخطب الذى حرضهم على نقض العهد ووعد كعبا أن يكون في حصنه يصيبه ما يصيبه إذا لم يصب المشركون من محمد شيئا، فوفى بما وعد.
لما أيقنوا أن النبى صلى الله تعالى عليه وسلم غير تاركهم حتى يناجزهم القتال، تقدم إليهم كعب ابن أسد، وقد رأوا أنه لابد من الحرب، خيرهم بين ثلاثة: أحدها- الإيمان بمحمد صلى الله تعالى عليه وسلم، وقال في ذلك: نبايع الرجل ونصدقه فو الله لقد تبين لكم أنه لنبى مرسل، وأنه الذى تجدونه في كتابكم فتأمنون على أموالكم وأبنائكم ونسائكم، قالوا: لا نفارق حكم التوارة أبدا، ولا نستبدل به غيره.
والثانية أن يقاتلوا منفردين عن الأولاد والنساء بعد فشلهم، فرفضوا.
والثالثة أن يصيبوا غرة من محمد يوم السبت إذ ربما لا يكون مستعدا لقتالهم، لأنه يعلم أنهم لا يقاتلون يوم السبت.
رضوا أخيرا بالاستسلام، ولكنهم لا يعرفون النتيجة، فأرسلوا إلى النبى صلى الله تعالى عليه وسلم أن يرسل إليهم أبا لبابة، فلما رأوه قام إليه الرجال وجهش إليه النساء والصبيان يشكون في وجهه، فرق لذلك، ولما سألوه أترى أن ننزل عن حكم محمد، قال: نعم، وأشار بيده إلى حلقه بأنه الذبح، قال أبو لبابة، والله فما زالت قدماى عن مكانها، حتى عرفت أنى قد خنت الله ورسوله صلى الله تعالى عليه وسلم، ثم انطلق أبو لبابة على وجهه، ولم يأت رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم حتى ارتبط في المسجد إلى عمود من عمده، وقال: لا أبرح مكانى هذا، حتى يتوب الله على بما صنعت. وذلك هو الضمير المؤمن القوى، وقد استبطأه النبى صلى الله تعالى عليه وسلم، ثم علم أمره.
ولنؤجل قصة أبى لبابة وتوبة الله تعالى عليه إلى ما بعد ما آل إليه أمر بنى قريظة الذى استحقوه عدلا وصدقا- فقد غدروا، ونقضوا الميثاق، وحاولوا آثمين إزالة دولة الإسلام، ولكن قضى الله أمرا كان مفعولا.
,
474- نزلوا على حكم سعد بن معاذ، وقد كان من الأوس من يطمع في أن النبى صلى الله تعالى عليه وسلم سيجليهم عن المدينة، كما فعل مع بنى قينقاع، وبنى النضير، مع تفاوت الجرائم التى وقعت من هؤلاء، وأن الأولين لم يمالئوا على من جاؤا لاقتلاع الإسلام من المدينة كما فعل هؤلاء، والأولون لم يكونوا مقاتلين، بل كانوا غادرين ناقضين للميثاق فقط، فكان المنطق الاكتفاء بجلائهم، إذ لا يبقون من غير ميثاق محترم.
أما بنو قريظة فقد نقضوا وقاتلوا، وهاجموا بيت النبى صلى الله تعالى عليه وسلم، فوجب أن يعاملوا معاملة مقاتلين، وبمثل ما عاملوا به المؤمنين، وبمثل ما كان ينتظر أن يعاملوا به المؤمنين، لو كان الأمر قد تم للأحزاب كما يريدون.
نزلوا على حكم سعد بن معاذ الأوسى، وقد جيء به راكبا، إذ لم يكن يستطيع المسير للجرح الذى أصابه من السهم وأثبته، بل أثخنه، وبعض قومه من الأوس قالوا له مشفقين على بنى قريظة: يا أبا عمرو أحسن في مواليك، فإن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، إنما ولاك لتحسن فيهم. فلما أكثروا عليه قال: «لقد آن بسعد ألا تأخذه في الله لومة لائم» .
عند ما قابل النبى صلى الله تعالى عليه وسلم سعدا، التفت إلى أصحابه، وقال: قوموا إلى سيدكم، فقاموا إليه، وقال الأنصار: إن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ولاك أمر مواليك لتحكم فيهم، فقال سعد: عليكم بذلك عهد الله وميثاقه ... ثم بعد كلام أصدر الحكم، وهذا نصه:
إنى أحكم فيكم أن تقتل الرجال، وتقسم الأموال، وتسبى الذرارى والنساء.
هذا هو الحكم، وقد أيده رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم بقوله: «ولقد حكمت بحكم الله من فوق سبع سموات» ، نفذ فيهم رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم حكم معاذ وأثبت قبل التنفيذ أنه حكم الله تعالى فيهم، فقتل الرجال إلا بعضا قليلا أعطاهم بعض الصحابة أمانا ليد سابقة قدموها لهم.
وقسم أموالهم غنيمة بين المسلمين، وبها تبين تقسيم الغنائم، وسبى النساء.
,
475- لا شك أن الحكم شديد، ولكنه عادل، والنظر لا من ناحية أنه عادل، ولكن أما كان موضع للتخفيف، ونقول في ذلك:
إنهم مقاتلون، واستمرت لهم صفة المقاتلين إلى آخر لحظة، وعلى بن أبى طالب، عند ما تقدم لهم خاطبهم على أنهم مقاتلون، وقال رضى الله عنه، وهو يهاجمهم، لأذوقن ما ذاق حمزة، ولأفتحن حصنهم، فلما رأوا العزيمة في على ومعه الزبير، وأنهم مغلوبون لا محالة، وطلبوا أن ينزلوا على حكم سعد بن معاذ، فهم ارتضوا ما ينفذ فيهم قبل أن ينزل الحكم فيهم، فهم الذين نفذوا الحكم فيهم إذ ارتضوا المحكم فيهم، ومن المقررات القانونية أن من ارتضى محكمين ليحكموا فيه، فقد فوض لهم، ولهم بهذا التفويض أن يحكموا بما يرونه عدلا، ولقد حكم، وهو الذى ذهب إليهم ليحول بينهم وبين تنفيذ نقض الميثاق فردوه ردا نكرا، وعرف أنهم يريدون اقتلاع الإسلام، وقتل أهله.
ولقد خضع المدبرون منهم لحكمه، وأدركوا أنه بما قدمت أيديهم، حتى لقد روى أن حيى ابن أخطب عند ما قدم للقصاص قال لرسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: والله ما لمت نفسى في عداوتك، ولكن من يخذل الله يخذله، ثم أقبل على الناس، فقال: أيها الناس، إنه لا يأس بأمر الله كتاب وقدر، وملحمة كتبها، ثم تقدم لضرب عنقه.
وهكذا كانوا يحسون بأن ما نزل بهم قصاص، وما للناس يقولون كان على النبى صلى الله تعالى عليه وسلم، أن يشفق عليهم. ومع ذلك إذا لم يقتل رجالهم، فماذا يصنع معهم، أيعفو عنهم، ولو تمكنوا لقتلوه وقتلوا الإسلام، وشردوا أهل المدينة. إن العفو عن الجانى ظلم في ذاته، أم يخرجهم من أرضهم ويجردهم من أموالهم، وذلك لا يخلو من عفو، وقد قلنا إنه في هذا المقام ظلم، ثم ماذا يكون إذا خرجوا، وفيهم أكثر من سبعمائة مقاتل، ألا يكونون حربا عليه، ويتجمعوا يؤلبون يهود الجزيرة العربية، ويكون قد أشفق عليهم لينقضوا عليه إن وأتتهم الفرصة، كمن يشفق على اللصوص ليجمعوا أمرهم، ويستلبوه ما يعتز به، ويأخذوا ما عنده.
إنه لم يكن إلا القتل، كفاء ما صنعوا، وهم الذين قتلوا أنفسهم بما دبروا وبما فعلوا، قد يقال أنهم قد صاروا أسري، والأسرى لا يقتلون، ونقول في الجواب عن ذلك: إن المسلمين والنبى صلى الله تعالى عليه وسلم لم يشدوا الوثاق، لأنهم منهيون عن ذلك بحكم آية الأسرى إذ يقول سبحانه وتعالى:
ما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ، تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيا، وَاللَّهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (الأنفال- 67) .
فما كان للنبى صلى الله تعالى عليه وسلم أن يشد الوثاق وهو لم يثخن فيهم جراحا، ولم ينل منهم نيلا، بل إنهم هم الذين ارتضوا حكما معينا، والقتال من جانب المسلمين قائم، لم تعد السيوف إلى أجفانها ولا القلوب إلى جنوبها.
بل إن قتالهم امتداد لقتال الأحزاب الذين مالئوهم لم ينته، وإذا كان المشركون قد ألقى الله في قلوبهم الرعب، ففروا، فأولئك قد بقوا، وكان حقا عليهم أن يقاتلوا فما قاتلوا.
وقد يقول قائل: إن النبيين رحماء، ونقول لهم إن العدالة رحمة والقصاص حياة، ورحمة الإسلام دفع الظلم، واقتلاعه عن أساسه، والنبى صلى الله تعالى عليه وسلم قال: أنا نبى المرحمة، وأنا نبى الملحمة، والله سبحانه وتعالى عزيز حكيم.
,
476- قد كانت أحكام شرعية خاصة بالصلاة قد ثبتت عمليا في غزوة الأحزاب وبنى قريظة، كما كانت أحكام شرعية قد ثبتت في توزيع الغنائم بالنسبة لتقسيم أموال بنى قريظة، ولعلها أكبر أموال وزعت من الغنائم إلى هذا الوقت من الغزوات.
وبالنسبة للصلاة في غزوة الخندق عند ما هو جمت بيوت النبى صلى الله تعالى عليه وسلم أخرت صلاة العصر، إلى ما بعد الغروب، فجمع صلى الله تعالى عليه وسلم بين العصر والمغرب جمع تأخير.
وقد قال الذين اتبعوا النبى صلى الله تعالى عليه وسلم أن عذر الحرب مسوغ للجمع، وكثيرون من الفقهاء الذين اتبعوا ذلك جوزوا الجمع في كل عذر، وتكون الصلاة المؤخرة أداء لا قضاء.
وفي غزوة بنى قريظة، كان الجمع بين العصر والمغرب، ذلك أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم في دعوتهم إلى اللحاق ببنى قريظة قال: ألا لا تصلوا العصر إلا في بنى قريظة، فقال بعضهم عزم علينا ألا نصلى حتى نأتى بنى قريظة. فإنما نحن في عزيمة رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، فليس علينا إثم، وأخروا إلى وقت المساء فجمعوا بين العصر والمغرب في وقت المغرب. وطائفة من الناس صلوا احتسابا.
ولم يلم أحدا من الطائفتين، وهذا يدل على جواز الجمع جمع تأخير، ويدل على أن الخطأ مرفوع عنه الإثم، كما قال صلى الله تعالى عليه وسلم: «رفع عن أمتى الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه» ، وكان ذلك استجابة لدعاء المؤمنين الذى حكاه الله تعالى عنهم بقوله تعالى: رَبَّنا لا تُؤاخِذْنا
إِنْ نَسِينا أَوْ أَخْطَأْنا، رَبَّنا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنا إِصْراً كَما حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنا، رَبَّنا وَلا تُحَمِّلْنا ما لا طاقَةَ لَنا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنا وَارْحَمْنا، أَنْتَ مَوْلانا فَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ (البقرة- 286) . ولا شك أن إحدى الطائفتين مخطئة فيما عملت، ولكنها اجتهدت.
,
477- كان ما استولى عليه في بنى النضير أموالا ثابتة، وما غنم في الوقائع السابقة؛ لم يكن كثيرا، أما ما كان في غزوة بنى قريظة فكان أموالا كثيرة بالنسبة لما سبقها، وخصوصا في الأموال المنقولة، ولذلك كان التوزيع فيها تطبيقا للنص القرآنى، وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ، وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ (الأنفال- 41) .
وقد قال ابن إسحاق في ذلك ما نصه: قسم أموال بنى قريظة ونساءهم، وأبناءهم على المسلمين، وأعلم في ذلك سهمان الخيل وسهمان الرجال، وأخرج منها الخمس (أى خمس الله ورسوله وذى القربى) وكان (من بعد الخمس) فى أربعة الأخماس، فكان للفارس ثلاثة أسهم للفرس سهمان، ولفارسه سهم، وللراجل (من ليس له فرس) سهم، وكانت الخيل يوم بنى قريظة ستا وثلاثين، وكان أوّل فيء وقع فيه السهمان، وأخرج منهما الخمس، فعلى سنتها وما مضى من رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وقعت المقاسم، ومضت السنة في المغازى.
ونقول إن هذا التقسيم لم يكن أوّل تقسيم بالأسهم، فقد سبق أن اخترنا ما قرره الحافظ ابن كثير فى تاريخه أن آية وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ قد نزلت قبل تقسيم أنفال بدر، وأن على بن أبى طالب نال من خمسه راحلتين.
ولكن يظهر أن الجديد هو ما قرره النبى صلى الله تعالى عليه وسلم من أن يكون للفارس ثلاثة أسهم اثنان للفرس، وواحد للفارس، وأن لمن لا فرس له سهما، ولم يكن ذلك التقسيم في أنفال بدر لأنه لم يكن فرسان غنمت، بل كان هناك للمسلمين فرس واحد، قيل أنها للزبير بن العوام رضى الله تعالى عنه، هذا ما يظهر لى، والله سبحانه وتعالى أعلم.
,
480- أجيز الإيماء بالصلاة للضرورة وفي حال المنازلة إذا خيف فوات الصلاة، وقد أخرنا الكلام في هذا عن الكلام في جمع الصلاتين جمع تأخير، لأن هذا يتعلق برجل أراد أن يجمع الناس من عرفة ليغزوا النبى صلى الله تعالى عليه وسلم في المدينة، وهو خالد بن سفيان بن نبيح الهذلى، وكان ذلك عقب غزوة بنى قريظة، وقد تأكد النبى صلى الله تعالى عليه وسلم أنه قد اعتزم الشر، وأراد القتال، والنبى صلى الله تعالى عليه وسلم كان يعمل على حسم الشر قبل وقوعه، فإذا كان رجل يجمع ويحرض، وأخذ ينفذ ما شرع فيه يستأصله النبى صلى الله تعالى عليه وسلم قبل أن ينفذ شره، لأن الحذر يوجب ذلك، ولأنه إن يتركه جمع الجموع، وكان القتل في الجمع أكثر عددا من قتل واحد، ولذلك كان يؤثر النبى صلى الله تعالى عليه وسلم قتل رجل على حرب مع رجال لحماية الأنفس من المحاربين ولو كانوا مشركين، فعسى أن يخرج الله تعالى الكفر من قلوبهم، ويستبدل به الإيمان.
أرسل النبى صلى الله تعالى عليه وسلم إلى خالد بن سفيان عبد الله بن أنيس وقال له: إنه بلغنى أن خالد بن سفيان بن نبيح الهذلى يجمع لى الناس ليغزوني، وهو بعرفة.
خرج ابن أنيس متوشحا سيفه، فأقبل نحوه، وخشى أن يكون بينهما مجاوبة تشغله عن الصلاة، والصلاة لا يسقط فرضها، فصلى وهو يمشي، يوميء بالركوع والسجود حتى لقيه، فقال له خالد: من الرجل؟ قال: رجل من العرب سمع بك وبجمعك لهذا الرجل، فجاءك لذلك، قال: أجل أنا في ذلك، وسار معه قليلا، حتى استمكن منه فقتله.
ومن هذا نرى جواز الصلاة بالإيماء في الحرب للضرورة، إذ أن النبى صلى الله تعالى عليه وسلم قد أقر ما صنع في عبادته في الصلاة، وأقر بما قام به من جهاد.
وإن ذلك لا يعد القتل فيه بطريق الغدر أو الغيلة، لأنه انتدب للقتال، فيجب أن يتوقع أن ينزل به مثل ما يدبر، ولأن قتله نجاة لكثيرين، والضرر القليل يحتمل في سبيل دفع ضرر أكبر، وإن هذا يدل
على أنه بعد غزوة الخندق كانت نفوس تحاول التمرد على حكم الواقع تزعم أنها تستطيع القضاء على المسلمين، وقد صارت الدولة بأيديهم يغزون، ولا يغزوهم أحد.