351- أذن للنبى صلى الله تعالى عليه وسلم بالقتال، كما تلونا في الآية الصريحة بالإذن وهى قوله تعالى أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا، وَإِنَّ اللَّهَ عَلى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ إلى آخر هذه الآيات التى تلوناها من قبل.
عندئذ أخذ النبى صلى الله تعالى عليه وسلم الأهبة، وأخذ يرسل السرايا سرية بعد سرية، ثم كانت الغزوات، ونرى في اصطلاح مؤرخى السيرة أنهم يطلقون السرية على كل بعث يبعثه النبى صلى الله تعالى عليه وسلم بعدد من المؤمنين قل أو كثر. (وفي الغالب لا يكون كثيرا) إلى لقاء المشركين، ولم يخرج عليه الصلاة والسلام مع ذلك الجيش، أما الغزوة فإنه صلى الله تعالى عليه وسلم يخرج فيها مجاهدا بنفسه، سواء أقاتل بالفعل أم لم يقاتل.
وإن النبى صلى الله تعالى عليه وسلم ابتدأ الجهاد بالسرايا الثلاث التى بعثها في رمضان وشوال وذى القعدة، وهى سرية حمزة بن عبد المطلب، وسرية عبيدة بن الحارث، وسرية سعد بن أبى وقاص.
ثم ابتدأت الغزوات في السنة الثانية.
وقد اختلف المؤرخون في عدد غزوات النبى صلى الله تعالى عليه وسلم، وما كان اختلافهم في أصل الوقائع أو عددها، إنما كان سبب الاختلاف هو اختلافهم في خروج النبى صلى الله تعالى عليه وسلم مع الجيش أو عدم خروجه أيعد غزوة أو سرية.
وعند التحقيق نجدهم متفقين على العدد، واختلفوا قليلا في وصف الخروج، وكلمة مغازى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم عامة تشتمل على الغزوات والسرايا.
وعدتهم كما روى الإمام أحمد في مسنده ثلاث وأربعون، فقد روى عن قتادة أن مغازى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ثلاث وأربعون، أربع وعشرون بعثا، وتسع عشرة غزوة، خرج في ثمان منها بنفسه، بدر وأحد والأحزاب، والمريسيع، وخيبر، وفتح مكة المكرمة، وحنين.
وروى عن الزهرى في هذه الغزوات الثمانى أنه قال: هذه مغازى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، قاتل فيها يوم بدر في رمضان سنة ثنتين، ثم قاتل يوم أحد في شوال سنة ثلاث، ثم قاتل بنى المصطلق وبنى لحيان في شعبان سنة خمس، ثم قاتل يوم خيبر سنة ست، ثم قاتل يوم الفتح في رمضان سنة ثمان، ثم قاتل يوم حنين، وحاصر أهل الطائف في شوال سنة ثمان، ثم حج أبو بكر سنة تسع، ثم حج رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم حجة الوداع سنة عشر.
ومن هذا السياق التاريخى يتبين أن الغزوات تسع عشرة، والبعوث أربع وعشرون، وأن الغزوات منها ما كان فيه قتال بين المؤمنين والمشركين، ومنها ما لم يكن فيه قتال، أو جاء شبه الانهزام لخطأ كان من المقاتلين، وقد يكون انتصار للمؤمنين بغير قتال، بل كان برعب وريح، كما كان في الخندق فإنه لا يعد فيها قتال، ولو كانت الهزيمة للمشركين، وإنما كان القتل والقتال في بنى قريظة، وقد كانت هناك
غزوات لا قتال فيها، وأولى غزوات النبى صلى الله تعالى عليه وسلم لم يكن فيها قتال، ومنها الأبواء، والعشيرة، وغطفان، وبدر الأولى، ومن أعظم الغزوات التى لم يقاتل النبى صلى الله تعالى عليه وسلم فيها الحديبية فقد كانت فتحا لابتداء سلام بين النبى صلى الله تعالى عليه وسلم وقريش، ولذلك قال الله تعالى فيها: إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً. لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ، وَيَهْدِيَكَ صِراطاً مُسْتَقِيماً. وَيَنْصُرَكَ اللَّهُ نَصْراً عَزِيزاً (الفتح- 1: 3) .
,
352- لم يكن في السرايا التى بعث بها النبى صلى الله تعالى عليه وسلم قتال، بل كانت نتيجتها سلما، وما كان الفريقان يلتقيان إلا ليفترقا في سلام، وإن لم يكن ذلك دائما، إلا ما كان من رمية رماها سعد بن أبى وقاص في سرية عبيدة بن الحارث. ومع أنه لم يكن في هذه السرايا قتل ولا قتال كانت ذات فائدة، لأنها أعلمت قريشا أن الإسلام صارت له قوة، فإما أن يسارعوا إليه، ولا يكونوا آخر الناس، وإما أن يسارع القصاص، والرد على ما سبقوا به من الاعتداء. أو من جهة أخرى يشعرون بأن قوة الإسلام ستنقذ المؤمنين الذين لا يزالون يفتنونهم عن دينهم الذى ارتضوه والفتنة أشد من القتل. كما ذكر الله سبحانه وتعالى في كتابه الكريم. ومن جهة ثالثة يحسون بأن محمدا صلى الله تعالى عليه وسلم سيضايقهم بالحق كما ضايقوه بباطلهم. وكما يضايقون أصحابه من المستضعفين في ديارهم، وذلك بمصادرة أموالهم كفاء لما أخرجوا المسلمين من ديارهم وأموالهم.
فكانت هذه السرايا الأولى في السنة الأولى من الهجرة إشعارا لهم بأن الإسلام قد أمده الله تعالى بالقوة، ليرهبوه ما داموا لم يسالموه، بل إنهم لم يرغبوه.
وكانت كذلك غزوات النبى صلى الله تعالى عليه وسلم الأولى في الأبواء والعشيرة، وغطفان، وبدر الأولى، فقد كانت خالية من القتل والقتال، بل كانت لهذا الإشعار.
حتى إذا شعرت قريش بهذه القوة المؤمنة، وكونوا جيشا كثيفا، وساروا به ولم يسبق عيرا، وبدا أنهم يرومون الحرب، إذ استعدوا لها، وأرادوا الاعتداء بها، كان القتال، لأنهم كانوا المهاجمين، وما كان محمد عليه الصلاة والسلام لينتظر حتى يغزوا المدينة المنورة بجيشهم، بل لابد أن يلقاهم، لأنه ما غزى قوم في عقر دارهم إلا ذلوا، كما قال بطل الجهاد على كرم الله وجهه الذى رباه محمد صلى الله تعالى عليه وسلم، وعلمه الحكمة وفصل الخطاب.
ولكن قد يسأل سائل: لماذا كان النبى صلى الله تعالى عليه وسلم محاربا. ونقول في الجواب عن ذلك إنه لم يكن بدعا من الرسل في ذلك، لأن موسى وهو من أولى العزم من الرسل حارب، ودعا بنى إسرائيل إلى الإيمان، ولكنهم ارتدوا على أدبارهم فانقلبوا خاسرين، وقالوا وحال الذلة والجبن تدفعهم فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقاتِلا إِنَّا هاهُنا قاعِدُونَ (المائدة- 24) .
والمذكور في التوراة التى بأيديهم أن موسى عليه السلام حارب ملوكا، واخترق بجيشه ديارهم، وداود عليه السلام حارب وقاتل. وكذلك ابنه سليمان.
وإذا كان عيسى عليه السلام لم يقاتل، فلأنه ما شرع له القتال، وكأنه كان تمهيدا للبعث المحمدى إذ أن بينهما مدة ليست كبيرة، تبلغ نحو ستمائة سنة أو تزيد قليلا.
وأن رسالة محمد صلى الله تعالى عليه وسلم كانت للناس كافة، للأحمر والأسود والأبيض، فكانت لابد أن تجتاز الأقطار، وتصل الدعوة قوية إلى الأمصار، وأن ذلك لا يكون إلا بالاستعداد للقتال. إذ أن العالم كان محكوما بالملوك الغاشمين، والرؤساء الظالمين.
وإن شريعة محمد صلى الله تعالى عليه وسلم جاءت بمباديء هى ضد الحاكم، وقد قاتلوه عليها، فكان لا بد أن تكون قوة مانعة من الظلم دافعة بالحق، فكان لا بد من الحرب أو الاستعداد لها.
وإن الناس لا يستقيم أمرهم إذا لم تكن للمبادئ العادلة قوة تحميها بالحق من غير اعتداء، وفضيلة الإسلام ليست فضيلة خانعة ضعيفة مستسلمة، ولكنها فضيلة قوية دافعة للشر، حاملة على الخير، فليس فيه «من ضربك على خدك الأيمن فأدر له الأيسر» ، وإنما فيه فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ (البقرة- 194) .
وفيه العفو والصبر، إذ يقول سبحانه وتعالى فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا (البقرة- 109) والعفو لا يكون إلا بعد أن يكون الأمر للإسلام، فلا عفو إلا عن مقدرة، ويكون عزا ولا يكون استسلاما، فقد قال عليه الصلاة والسلام: «ما زاد عبد بعفو إلا عزا» وأمر سبحانه وتعالى بالصبر، فقال سبحانه وَإِنْ عاقَبْتُمْ فَعاقِبُوا بِمِثْلِ ما عُوقِبْتُمْ بِهِ، وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ (النحل- 126) وإن الصبر يوجب ألا يندفع الجيش إلى القتال، بل يصابر، عسى أن يكون الصلح، وألا تخرج السيوف من أغمادها. كما كان يفعل النبى صلى الله تعالى عليه وسلم، وكان يوصى جيوشه بذلك.
وإن الصفح الجميل عمن آذوا أهل الإيمان يحتاج إلى صبر وقوة نفس، فليس الصبر فقط في لقاء الأعداء، إنما يكون في ذلك، وفي فطم النفس عن شهوة الانتقام.
وإن حرب النبى صلى الله تعالى عليه وسلم، كما سنرى حرب فاضلة فيها الرفق وفيها الفضيلة، وإن اشتجرت السيوف، وتلاقى الناس بالحتوف، فهى تعلم الناس كيف تكون الفضيلة، والسيوف تقطر دما، وكيف تكون المرحمة في الحرب، وهى في أصلها أمر مكروه في ذاته، فإذا دخلتها الرحمة، فإنها تكون كالنسيم العليل في الحر اللافح، وكالظل في الحرور. وقبل أن نتكلم في غزوات النبى صلى الله تعالى عليه وسلم نتكلم في بيان الفضيلة فيها، وإنا نأخذ ذلك من أوامر القرآن الكريم للمجاهدين وعمل النبى صلى الله تعالى عليه وسلم في سيرها وفي انتهائها، وفي وصاياه عليه الصلاة والسلام لجيوشه. وقد كان أصحابه من بعده يتبعونها ويحكمونها غير منحرفين عنها.
,
353- إن الرحمة من الفضائل الإنسانية العالية، ورحمة الإسلام ليست انفعالا نفسيا وقتيا.
ولا شفقة أو رأفة شخصية تكون على الفاضل والآثم، والبر والفاجر، بل إن رحمة الإسلام هى الرحمة بالعامة وقد تكون الحرب رحمة بالعامة، بل إنها يجب أن تكون كذلك ما دامت حربا فاضلة، كما تلونا من قبل قوله تعالى: وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ، وَلكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعالَمِينَ. فالشفقة على الظالم والامتناع عن الاقتصاص منه ليست من الرحمة في شيء، لأنها تخفى في ثناياها قسوة على المظلوم، ولذلك قال النبى صلى الله تعالى عليه وسلم: «من لا يرحم لا يرحم» .
فالحرب الإسلامية شرعتها الرحمة، وأظلتها الرحمة، وأنهتها الرحمة، وإذا كان من الرحمة بجسم الإنسان أن تقطع بعض الأجزاء المئوفة، حتى لا تفسد الجسم، فإن من الرحمة بالناس أن تقطع عناصر الفساد، لأنها تئوف الجماعة، وأن يرد الاعتداء بقطع عناصره لسلامة الناس، وأن يعيشوا آمنين، وكلمة الحق تسرى بينهم ولا محاجزات تحول دون النطق بها.
ولنتكلم في حرب النبى صلى الله تعالى عليه وسلم، معتمدين على كتاب الله تعالى، وعلى السنة النبوية.
فالباعث عليها. كما نص القرآن الكريم رد الاعتداء على المسلمين، فقد قال تعالى: وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقاتِلُونَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ وقال تعالى:
وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ، وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَلا عُدْوانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ (البقرة- 193) وبين سبحانه أن يعامل المعتدون بمثل اعتدائهم. قال تعالى: فَمَنِ
اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ، وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ وذلك بعد قوله تعالى الشَّهْرُ الْحَرامُ بِالشَّهْرِ الْحَرامِ وَالْحُرُماتُ قِصاصٌ (البقرة- 194) .
ونجد من هذه النصوص أن ابتداء الاعتداء كان من المشركين، وأنه كان لاعتداء المشركين على الحرية الدينية وفتنة المؤمنين في عقائدهم ليحملوهم على تركها. وإننا إذا أمرنا برد الاعتداء بمثله، طلب منا مع ذلك طلبان جليان آخران وهما: النهى عن الاعتداء، فنهينا عن الاعتداء، والاعتداء بأن نقاتل من لم يبدأنا بالقتال، ولم يمنع الدعوة الإسلامية من السير في طريقها، والطلب الثانى أمرنا بالتقوى، وهو التزام الفضيلة، فإن كانوا يعتدون على الأعراض لا نجاريهم، وإن كانوا يمثلون بالقتلى لا نمثل بقتلاهم كما سنبين إن شاء الله تعالى.
لقد علمنا مما قصصنا من السيرة الطاهرة أن النبى صلى الله تعالى عليه وسلم مكث يدعو إلى الإسلام ثلاث عشرة سنة توالى فيها الأذى على المؤمنين، وخصوصا ضعفاءهم، ولم يسلم من أذاهم إلا من يكون ذا بطش يخشى بطشه كعمر بن الخطاب وحمزة بن عبد المطلب، ومع ذلك لم يسلموا من الأذى تماما، بل كانت سلامتهم نسبية.
ورسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم لم يسلم من آذاهم، حتى رموا عليه وهو ساجد فرث جزور، حتى لقد هموا بقتله عليه الصلاة والسلام، ليلة الهجرة، وقد هاجر النبى صلى الله تعالى عليه وسلم، وهاجر من كان عنده قدرة على الهجرة.
ترك المهاجرون ديارهم وأموالهم فرارا بدينهم الذى ارتضوا، والمشركون سادرون في غيهم. وترك النبى صلى الله تعالى عليه وسلم ضعفاء، لا قدرة عندهم على الهجرة، وهم يعذبون أشد العذاب، فهل من مقتضى الرحمة أن يترك هؤلاء يعذبون، ويلقى بهم في المحابس، إنه لا بد من أن يذوق الذين يؤذونهم وبال أمرهم.
وننتهى من هذا ومن النصوص السابقة إلى أن الباعث على الحرب دفع الاعتداء، ومنع الأذى المستمر، وعقوبة الظالمين، وتأمين الدعوة الإسلامية حتى لا تكون فتنة في الدين، ويتبع الناس الدليل، ولم يتبعوا الحكام الذين يرهقونهم ويسومونهم الخسف والهوان.
هذا هو أمر القتال في شبه الجزيرة العربية، الذى ابتدأ في قريش. ثم عمم أجزاءها عند ما اجتمعت القبائل على حربه في غزوة الأحزاب، أو غزوة الخندق، وأرادوا اقتلاع الإسلام من قصبته في المدينة الطاهرة، فنزل قوله تعالى: وَقاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَما يُقاتِلُونَكُمْ كَافَّةً (التوبة- 36) .
أما بالنسبة لغير من كانوا في الجزيرة العربية، فقد أرسل إلى الملوك والرؤساء الكتب على أيدى رسل من حكماء أصحابه، أرسل إلى هرقل، وإلى عظيم مصر، وإلى كسرى وغيرهم من الملوك. وبعض أمراء البلاد النائية من البلاد العربية.
ولكن لم يجب إلى الإسلام من غير العرب أحد، ومنهم من أساء الرد، ومنهم من أحسن في الإجابة، ولكن لم يجب داعى الله تعالى إلى الإسلام، ومنهم من لم يرد بالقول، ورد بالعمل، وأعلن برده العداء كالمشركين، فكسرى همّ بأن يرسل إلى النبى صلى الله تعالى عليه وسلم من يقتله، وهرقل قتل واليه على الشام من أسلم من أهل الشام. ولذلك اتجه النبى صلى الله تعالى عليه وسلم إلى الشام، فكانت غزوة مؤتة، ثم غزوة تبوك، ثم وصيته بإنفاذ جيش أسامة بن زيد إلى الشام.
وبهذا نرى أن الباعث لحرب النبى صلى الله تعالى عليه وسلم هو دفع الأذى، وتمكين الدعوة، ولم يكن ثمة إكراه على الدين، لأن الله تعالى يقول: لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ ولم يثبت أن النبى صلى الله تعالى عليه وسلم أكره أحدا على الدين، بل ثبت أنه أراد بعض الأنصار أن يكره ولده على الإسلام، فنهاه النبى صلى الله تعالى عليه وسلم عن ذلك.
,
354- وكانت الفضيلة تتجلى في حرب النبى صلى الله تعالى عليه وسلم عند ما أخذ يرسل الجيوش إلى الجهات النائية، فقد كان عليه الصلاة والسلام يأمر جيشه بالتأنى قبل أن يتقدم للقتال، وكان يدعو المؤمنين إلى ألا يتمنوا القتال، لأنه امتحان القلوب وهدم الأجسام، فكان عليه الصلاة والسلام يقول: «لا تتمنوا لقاء العدو، وإذا لقيتموهم فاصبروا» .
وإذ تعين القتال خيّرهم بين الإسلام، أو أن يعاهدوه، ليأمن الاعتداء من جانبهم، وذلك ما يشبه فى العصر الحاضر ميثاق عدم الاعتداء، أو أن يكون القتال، وأنهم إذا قبلوا العهد أمن جانبهم، وأمن أن تسير الدعوة في طريقها، وأن يخلو له وجه الناس، ويقنعهم بالحق، فمن اهتدى فلنفسه، ومن أساء فعليها.
وإننا إذ نتجه إلى ذلك الوادى المقدس يسترعى انتباهنا دعاء النبى صلى الله تعالى عليه وسلم عند القتال الذى يدل على شعوره صلى الله تعالى عليه وسلم بوحدة الإنسانية ووحدة الخالق، فهو يقول في دعائه عليه الصلاة والسلام «اللهم إنا عبادك وهم عبادك، نواصينا ونواصيهم بيدك، اللهم اهزمهم، وانصرنا عليهم» ، وما كان ذلك الجزء الأخير إلا لأنهم معتدون على الحق، وعلى الحرية الدينية بفتنتهم الناس عن
دينهم، وجحود بالحق. ولقد كان صلى الله تعالى عليه وسلم حريصا على منع القتال حتى عند أخذ الأهبة، فهو يقول لمعاذ بن جبل وقد أرسله إلى اليمن قائدا:
«لا تقتلوهم حتى تدعوهم، فإن أبوا فلا تقاتلوهم، حتى يبدأوكم، فإن بدأوكم، فلا تقاتلوهم حتى يقتلوا منكم قتيلا ثم أروهم ذلك، وقولوا لهم: هل إلى خير من هذا سبيل، فلأن يهدى الله على يديك رجلا واحدا خير مما طلعت عليه الشمس وغربت» .
ونجد من هذه الوصية أن نية السلم قائمة والجيشان قد تلاقيا، فالقائد المسلم لا يقاتلهم إلا بعد أن يدعوهم إلى العهد الذى يكون فيه تأمين حرية الدعوة، ثم هو لا يبدأ القتال، بل يتركهم يبدأون القتال، وحتى بعد هذا البدء لا يقاتلهم حتى يقتلوا فعلا ثم يبين لهم العبرة في ذلك الدم الذى أراقوه ظلما وعدوانا، فإن لم يعتبروا لم يبق إلا السيف ليحكم بأمر الله بينه وبينهم والله خير الفاصلين.
,
355- والرفق ملازم المعركة ذاتها، كما كان في ابتدائها، ذلك أنها حرب نبوة، وليست مغالبة ولا تناحرا، ولقد قال صلى الله تعالى عليه وسلم في وصف دعوته وحربه: «أنا نبى المرحمة، وأنا نبى الملحمة» ، وفي الحق أن المرحمة والملحمة متلاقيتان، فما كانت الملحمة إلا لأجل المرحمة، إذ الرحمة الحقيقية في هذا العالم هى في قطع الفساد ومنع الشر، وإذا كانت الملحمة فقد تعينت سبيلا للمرحمة.
وإنه كان يصاحب حرب النبى صلى الله تعالى عليه وسلم عند ابتداء المعركة العمل على تأليف القلوب حتى وقد اشتجرت السيوف؛ ولذلك يوصى عليه الصلاة والسلام جنده وقد أرسلهم للقتال بقوله: «تألفوا الناس وتأنوا بهم ولا تغيروا عليهم حتى تدعوهم فما على الأرض من أهل مدر أو وبر أن تأتونى بهم مسلمين أحب إلى من أن تأتونى بأبنائهم ونسائهم وتقتلوا رجالهم» .
هى حرب رفيقة تتسم بالتأليف، لا بالتقتيل، وبالمحافظة على الأنفس والرجال إلا أن تكون ضرورة ملجئة، فقد كان النبى صلى الله تعالى عليه وسلم يوصى بألا يقوم الجيش بإتلاف زرع أو قطع شجر أو قتل الضعاف من الذرية والنساء، والرجال الذين ليس لهم رأى في الحرب، ولم يشتركوا فيها بأى نوع، ومن ذلك قوله في إحدى وصاياه:
«انطلقوا باسم الله وعلى بركة الله لا تقتلوا شيخا فانيا ولا طفلا، ولا امرأة، ولا تغلوا، وضموا غنائمكم «1» ، وأصلحوا وأحسنوا إن الله تعالى يحب المحسنين» .
وفي معنى هذه الوصية وصية أخرى، وهى قوله عليه الصلاة والسلام «سيروا باسم الله في سبيل الله تعالى، وقاتلوا أعداء الله ولا تغلوا (تخونوا) ولا تغدروا، ولا تمثلوا ولا تقتلوا وليدا» .
ويقول عليه الصلاة والسلام لخالد بن الوليد: «لا تقتل ذرية ولا عسيفا» (أى عاملا) .
وبهذه الوصايا يتبين أن الحرب النبوية الفاضلة لا يصح أن تكون إتلافا وإفسادا، وتحللا من القيود الإنسانية، ولذلك لا يباح في القتال كل شيء، ولا يفعل ما يفعله القواد في هذه الأيام من إهلاك الحرث، والنسل، وإفساد الزرع وإلقاء السم فيه ليتسمم الأحياء.
وإن النبى صلى الله تعالى عليه وسلم شدد في منع قتل الأطفال والشيوخ الذين لا يحاربون وليس لهم رأى في الحرب، والنساء، لأن القتال الذى كان من المسلمين إنما كان لدفع الاعتداء والقصاص من المعتدين ماداموا مستمرين أو على نية الاعتداء، وأولئك ما كانوا يقاتلون ولا يعتدون، وليس في طاقتهم أن يقفوا محاربين الدعوة الإسلامية أن تسير في طريقها.
وقد مر النبى صلى الله تعالى عليه وسلم على القتلى فرأى امرأة مقتولة، فقال عليه الصلاة والسلام: ما كانت هذه لتقاتل. وأرسل إلى خالد بن الوليد يأمره بألا يقتل عسيفا ولا ذرية.
ولقد كان عليه الصلاة والسلام يغضب إذا بلغه أن جنده قتلوا صبيانا، ولقد بلغه أن بعض الأطفال قتلهم جند المسلمين، فوقف عليه الصلاة والسلام يقول لجنده: «ما بال أقوام تجاوز بهم القتل حتى قتلوا الذرية، ألا لا تقتلوا الذرية ... ألا لا تقتلوا الذرية» .
وكان عليه الصلاة والسلام يمنع قتل العمال، وكرر منع قتل العسفاء وهم العمال الذين يستأجرون للعمل، لأن حربه عليه الصلاة والسلام لم تكن لقتل الأقوياء القادرين، إنما كانت لمنع اعتداء الذين يحملون السلاح، أو يدبرون الاعتداء، والعمال ليسوا كذلك، إذا لم يكن عملهم لتهيئة أسباب القتال.
__________
(1) وضم: القوم تجمعوا وتقاربوا، والوضم: كل ما يوضع عليه اللحم يوقى به من الأرض، وفي هذا والله أعلم إشارة إلى المحافظة على الغنائم أنفسا كانت أو غير أنفس.
وكان عليه الصلاة والسلام ينهى عن التخريب، فكان يمنع قطع الشجر لأنه لا ضرورة توجب قطعه إلا أن يتخذه العدو مستترا له، ليجعل منه كمينا يكمن فيه لجيش المسلمين، فما كانت حرب النبى صلى الله تعالى عليه وسلم تسمح بالتخريب.