77- سبقت محمدا فى الوجود بركاته، فقد ولد كما يقول أكثر الرواة بعد خمسين يوما من مغادرة الفيل وأصحابه مدحورين، بعد أن أباد الله تعالى أكثرهم، وقد ابتلعتهم الأرض، بعد أن غرهم الغرور.
وقبل أن نخوض بالقول فى مولده صلّى الله عليه وسلّم، نقول أنه ولد وأبوه غائب، ذلك أننا ألمحنا فى القول أنه ترك زوجه وقد ذهب فى عير ليمتار لأهله، وليتجر فى كسب رزقه، فسافر فى عير لقريش، وكان الوفى الأمين، فانتهز فرصة ذهابه إلى يثرب، وزار قبر جده هاشم الذى كان يهشم الثريد، الذى يأكل منه الحجيج، ولكنه لم يعد من غربته، بل أصابه المرض فى بيت بنى النجار، وعاد العير الذى كان معه، وتركوه حزانى على تركه مدنفا بمرض عضال فى بيت بنى النجار أخوال أبيه، وأصهار جده الكريم، وعادوا إلى مكة، وأخبروا أباه الذى حدب عليه، وزوجه الصبور التى صبرت على غيبته، وجمل لها الصبر لأنها كانت ترجو لقاءه، ولكن حرمت من هذا، ففظع الأمر عليها، ولكنها الصبور مع رقة صباها.
وإن عبد المطلب أرسل إلى ابنه الحبيب كبير أولاده الحارث، فذهب إليه، وقد رأى فراق نفسه، وقيل أن الموت سرى إليه، ولم يجده أخوه إلا ميتا.
فإذا كان الأب قد ثكل ابنه الحبيب فتجلد، فقد فقدت الأم الزوج الحبيب، فكان منها الصبر المرير، ولكنه مع ذلك كان الصبر الجميل، وهو الصبر الحبيس الخالى من الضجر والأنين.
,
78- أكثر الرواة على أنه ولد صلّى الله عليه وسلّم بعد وفاة أبيه عبد الله، ولكن روى أنه توفى بعد أن وضعت امنة حملها، ومنهم من أقصر المدة ومنهم من أطالها، حتى أوصلها إلى نحو ثلاث سنين، فقد قال ابن حزم الظاهرى ما نصه:
«ولد صلّى الله عليه وسلّم بمكة، إذ مات أبوه، وهو لم يستكمل ثلاث سنين، وماتت أمه، وهو لم يستكمل سبع سنين» .
وإن هذا القول يتقارب مع من يقول أن أباه عليه السلام مات بعد ولادته عليه الصلاة والسلام بنحو ثمان وعشرين شهرا، ولكن كلام ابن حزم يومىء إلى مدة أطول، لأن الثمانية والعشرين شهرا هى سنتان وثلث، ولا يقرب من ثلاث سنين.
فقد روى عن عوانة بن الحكم أنه قال هو وأبوه أن عبد الله توفى بعد ما أتى على رسول الله ثمانية وعشرون شهرا، وقد قيل: توفى بعد ولادته بسبعة أشهر.
وإننا نستبعد كل الاستبعاد أنه توفى والنبى عنده نحو ثلاث سنين، كما نستبعد أنه ولد من بعده، لإجماع الرواة على أنه عليه الصلاة والسلام استرضع فى بنى سعد، وهو يتيم، ومن كان أبوه حيا لا يعد يتيما، وإذا كانت الرضاعة أقصى مدتها فى الغالب حولان كاملان لمن يريد أن يتم الرضاعة، وقد أرسل إلى المراضع فى أولها أو بعد مضى وقت قصير من الولادة، فلا يمكن أن يسمى عند أخذه وأبوه حى يتيما، وإجماع الرواة على وصفه باليتم عندما أخذته حليمة التى أرضعته.
وإن الذى رجحه الرواة- وعليه الكثرة الكاثرة- أن أباه توفى وأمه حامل به. وقد قال ابن كثير فى تاريخه «والمقصود أن أمه حين حملت به توفى أبوه عبد الله وهو حمل فى بطن أمه على المشهور» .
وقد روى ابن سعد عن عبد الرحمن بن أبى صعصعة، قال: «خرج عبد الله بن عبد المطلب إلى الشام فى عير من عيرات قريش، ففرغوا من تجارتهم، ثم انصرفوا فمروا بالمدينة، وعبد الله بن عبد المطلب يومئذ مريض، فقال: أتخلف عند أخوالى بنى عدى بن النجار، فأقام عندهم مريضا شهرا.. فبعث إليه عبد المطلب أكبر ولده الحارث فوجده قد توفى ودفن.. فوجد عليه عبد المطلب وإخوته وجدا شديدا، ورسول الله صلّى الله عليه وسلّم حمل، ولعبد الله يوم توفى خمس وعشرون سنة» .
ويؤخذ من هذا الكلام أن رحلة عبد الله إلى التجارة كانت فور زواجه أو بعده بقليل كما توميء عبارة ابن كثير. وأن عمره يوم الوفاة كان خمسا وعشرين، وكانت رحلته بعد الزواج بقليل، ويستفاد من هذا أنّ الزواج كان بعد العشرين وقرب الخامسة والعشرين.
ولقد قال الواقدى فى وفاة عبد الله وكونه قبل ولادة ابنه الكريم: «هذا هو أثبت الأقاويل فى وفاة عبد الله عندنا» وهو المشهور، كما نقل الحافظ بن كثير رضى الله تبارك وتعالى عنه «1» .
__________
(1) البداية والنهاية: 2 ص 262.
,
79- تكريم الله تعالى له ظهر وهو جنين كما رأيت. وظهر وأمه حامل به، وكأن وجوده على ظاهر الأرض كان أمرا خارقا للعادة، فى بركته على قومه برد أصحاب الفيل وكيدهم فى تضليل، وفى الحمل به، إذ لم يصبها شيء من أعراض الحمل الشاقة، وكأنه مر فى قلبها مرور الماء فى الميزاب، وإن طال حتى مدة الحمل.
ثم كانت الأمور تسير سيرا يدل على أمور ربانية أكنها الغيب لذلك المولود الجديد.
فأبوه يلقى وديعة الله فى امنة الصبور المطمئنة، وما كان الزواج إلا ليلقى هذه الوديعة، ويعزب عنها مسافرا مغتربا، وقبضه الله تعالى بعد أن ألقى هذه الوديعة، وكأنه خلق بما يشبه كلمة الله تعالى «كن فيكون» «1» .
وينزل من بطن أمه مكتملا، كأنه تجاوز السنة، وهو قد نزل فى المهد، لم يتناوله حجر النساء، فأمه الصادقة تقول أنه وقع على الأرض معتمدا على يديه كما نقلنا، وهو فى هذا شبه الساجد، وقال بعضهم أنه نزل جاثيا على ركبتيه.
وعندما ولد أرسلت أمه الكريمة إلى جده عبد المطلب تبشره بولد قد رزقه، فقالت فى رسالتها:
«قد ولد لك غلام فأت فانظر إليه» . وقد أضافته إليه مسرية له عن حزنه لموت ولده عبد الله الذى وجد عليه وجدا شديدا، فلما جاءها أخبرته بالولادة، وبرؤية صادقة تعددت روايتها مما يدل على مكانته، وبذلك سرّت عن نفس حميها، وهى الحزينة، ولكنها الصبور التى تواسى غيرها فى مصاب أبيه، ومصابها، وإن كان أعظم وأشق احتمالا ولكنه الان قد يسهل احتماله إذ وجد ما يعوض، وهو المولود الذى يسمو على كل الخليقة، وهو سيدها، وهو محمود الوجود، وهو حمد الكون وتسبيحه، وإذا كان الله تعالى قد أعطى به البركة على قومه، فقد كانت إرهاصات التكريم تبدو وهو جنين أيضا فى بطن أمه. لقد رأت أمه فيما يرى النائم رؤيا صادقة، والرؤيا إلهام من الله تعالى، أو توجيه منه سبحانه يشعر بها من تصفو نفسه، وله اتجاه روحى، ورأت حين حملت به كأنه خرج منها نور أضاءت له قصور الشام، وقد ورد ذلك فى حديث عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم صحيح النسبة.
قد ذكر ابن إسحاق أن كانت تحدث أنها أتيت حين حملت به فقيل لها: «إنك حملت بسيد هذه الأمة، فاذا وقع إلى الأرض فقولى:
أعيذه بالواحد ... من شر كل حاسد «2»
ثم سميه محمدا..
__________
(1) سورة البقرة: 117.
(2) البداية والنهاية ج 2 ص 293.
وقد يقول قائل، وكيف نثبت التكريم بالرؤيا وقد تكون أضغاث أحلام، وهى لا تثبت شيئا، فنقول فى الإجابة عن هذا السؤال العارض، إن الرؤيا الصادقة تشبه الإلهام أو كأنها وحى، أو هى جزء من الوحى كما روى عن النبى صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «الرؤيا الصادقة جزء من أربعة وأربعين جزا من النبوة» وثبت فى الصحاح أن أول ما جاءت به إرهاصات الوحى كانت الرؤيا الصادقة «فما كان يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح» .
هذا ما تقوله الحقائق الدينية فى الرؤيا الصادقة، ويقول الذين يتكلمون فى الأرواح فى هذا الزمان أن الرؤيا الصادقة سبحات روحية فى الملكوت الأعلى.
وإنه بلا ريب هناك فرق ثابت بين الرؤيا الصادقة وأخلاط الأحلام التى تكون صورة لحال مادية أو عصبية للنائم، كتخمة تصيبه من كثرة الطعام، أو أن يكون مخمورا، أو أن يكون مضطرب الأعصاب، أو مضطرب النفس، أو مشغولا بأمر من أمور المادة أو الشهوة، فإن هذا يكون أخلاطا لا تخبر عن شيء، ولا يصدق فى شيء، وهى التى تسمى أضغاث أحلام، والتى لا يكون لها تأويل، ولا يعبرها خبير.
وإذا كان من الناس من ينكر الرؤيا الصادقة، ويكذب الأحلام بإطلاق، ويقول أنها صورة للعقل الباطن، فذلك لأنه لا يمكن أن يدرك معنى الرؤيا الصادقة، إذ لم يجربها، لأن الله تعالى لم يؤته قوة روحية ولم يؤته طاقة نفسية يستطيع أن يتغلب بها على خواطر اللذات والشهوات وهو لا ينام إلا مخمورا، أو مبطونا، أو تكون نفسه واقعة فى الأهواء والشهوات، فيكون ليله كنهاره، ونومه كصحوه، وحياته كلها صورة للمادة فى النوم واليقظة على سواء.
80- وترى من هذا الكلام الذى سقناه من بشارات التكريم فى منام أمه البتول الطاهرة الصبور أن تسميته محمدا صلّى الله عليه وسلّم، كان بأمر من الاتى الذى أتاها فى هذه الرؤيا.
وقد توافقت مع رؤيا أخرى راها سيد قريش عبد المطلب الذى كان قد اشتهر بالنسك فى قومه، وإن لم يكن نسكا فيه حرمان، بل نسك فيه ما يجمل بالمروءة، وقد كان صادق الرؤيا، قيل لعبد المطلب:
لم سميته محمدا؟ فقال شيخ قريش الطيب: «أنه رأى فى منامه كأن سلسلة من فضة خرجت من ظهره لها طرف فى السماء، وطرف فى الأرض، وطرف فى المشرق وطرف فى المغرب، ثم عادت كأنها شجرة على كل ورقة منها نور، وإذا أهل المشرق والمغرب يتعلقون بها» .
وأراد عبد المطلب أن يعرف مدى هذه الرؤيا التى راها، فسأل من يعبر له رؤياه، فقيل له إنه يكون مولود من صلبه يتبعه أهل المشرق والمغرب ويحمده أهل السماء والأرض «1» . اجتمعت رؤياه، ورؤيا الأم الرؤم التى قصتها على الجد الكريم عندما بلغت بالمولود الذى بلغته بأنه مولوده فارتضى الاسم الذى أفهمت به رؤيا الأم وهو محمد.
صلوا عليه وسلموا تسليما ... فالله قد صلى عليه قديما
وحباه بالخلق العظيم فأبشروا ... يا مادحين لذاته تكريما
لم يكن هذا الاسم معروفا عند العرب، ولقد ذكر علماء السيرة أنه لم يسم به أحد فى الجاهلية إلا ثلاثة تسموا بهذا الاسم فى عصر ولادة النبى عليه الصلاة والسلام.
وقد قال صاحب كتاب الروض الأنف فى ذلك: «لا يعرف من تسمى بهذا الاسم قبله صلّى الله عليه وسلّم إلا ثلاثة طمع اباؤهم حين سمعوا بذكر محمد صلّى الله عليه وسلّم وقرب زمانه، وأنه يبعث فى الحجاز أن يكون ولدا لهم. ذكرهم ابن فورك فى كتاب الفصول، وهم محمد بن سليمان بن مجاشع جد الفرزدق الشاعر، والاخر محمد بن أحيحة الجلاح، والاخر محمد بن حمران بن ربيعة. وكان اباء هؤلاء قد وفدوا على بعض الملوك، وكان عنده علم من الكتاب الأول، فأخبرهم بمبعث النبى صلّى الله عليه وسلّم، وكان كل واحد منهم قد خلف امرأته حاملا، فنذر كل واحد منهم إن ولد له ولد سماه محمدا.
سقنا هذه القصة لنثبت منها ندرة الذين سموا ولدا لهم محمدا، إذ لم يكن معروفا ذلك الاسم عند العرب، ونكاد نوافق على حصر العدد فى ثلاثة، وإذا فرض وكان أكثر فإنه لا يتجاوزه بكثير، سواء أصح السبب الباعث على التسمية أم لم يصح، فإن تلك التسمية لم تعرف إلا قرب مولد النبى صلّى الله عليه وسلّم، وإنا نميل إلى صدق هذا الباعث لأن التبشير برسول اسمه أحمد كان معروفا فى أوساط أهل الكتاب اليهود والنصارى، وإن أنكر أكثر اليهود رسالة محمد صلّى الله عليه وسلّم ودعوته لهم: فَلَمَّا جاءَهُمْ ما عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ «2» ، وَجَحَدُوا بِها، وَاسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ «3» .
وقد اختيرت هذه التسمية من الله تعالى، ولنذكر إشارة إلى ما فى هذه التسمية من معنى يفهم بمقتضى قراءة اللغة، ذلك إن صيغة التفعيل تدل على تجدد الفعل وحدوثه وقتا بعد اخر بشكل مستمر متجددا انا بعد ان، فيقال إذا تكرر ذلك الفعل. وعلى ذلك يكون محمد أى يتجدد حمده انا بعد ان بشكل مستمر حتى يقبضه الله تعالى إليه. وذلك لأنه تكون منه فعال الخير المتجددة وقتا بعد اخر، فهو
__________
(1) الاكتفاء ص 168 من الجزء الأول.
(2) سورة البقرة: 89.
(3) سورة النمل: 14.
لاينى عن فعل الخير الذى يقتضى ثناء وحمدا، ولا عن قول الصدق الذى يقتضيه، ولا عن الجهاد فى الحق الذى يستمر عليه إلى أن ينشر الحق وهو شرع الله تعالى ويخلد إلى يوم القيامة.
وكان من أسماء النبى صلّى الله عليه وسلّم- أحمد- وهو الاسم الذى بشر به فى الإنجيل، وبشر به موسى عليه السلام، وهو أفعل تفضيل من الحمد والثناء، فهو كثير الحمد، وكثير الثناء والذكر لله تعالى.
ولعله لم يكن التبشير فى الإنجيل وعلى لسان موسى عليه السلام إلا بأحمد، إلا لأنه اشتهر بذلك فى حياته وخصوصا بعد أن بعث، وكثرت دعوته، ولأنه اسم لا يشاركه فيه أحد، ولو نادرا، فيكون التبشير متجها إليه.
,
82- وضعت امنة الطاهرة حملها الطاهر الذى لم يثقل، فأضاء الوجود ببزوغ شمس هذا الوجود، وقد ذكرت الروايات فى كتب السيرة أمورا كثيرة ظهرت غب ولادته، أو قارنت الولادة:
(أ) فقد قالوا أنه خرت الأصنام، وتزايلت عن أماكنها، وتمايلت على وجوهها، لأنه جاء هادمها، وليس ذلك منها بإرادة، ولكنها بإرادة القاهر الحاكمة على كل شىء.
(ب) ظهر النور حتى أضاء قصور الشام.
(ج) جاء فى سيرة ابن اسحق «كان هشام بن عروة يحدث عن أبيه عن عائشة قالت كان يهودى قد سكن مكة يتجر فيها، فلما كانت الليلة التى ولد فيها رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، قال فى مجلس قريش: يا معشر قريش. هل ولد فيكم الليلة مولود، فقال القوم: والله ما نعلمه، فقال: الله أكبر أما إذا أخطأتم فانظروا واحافظوا ما أقول لكم، ولد هذه الليلة نبى هذه الأمة الأخير بين كتفيه علامة فيها شعرات متواترات» .
وروى ابن إسحاق عن حسان بن ثابت «قال إنى لغلام تبعة ابن سبع سنين أو ثمانى سنين، أعقل ما رأيت وسمعت، إذا بيهودى فى يثرب يصرخ ذات غداة يا معشر يهود فاجتمعوا إليه وأنا أسمع، قالوا: ويلك مالك، قال قد طلع نجم أحمد الذى يولد الليلة» .
__________
(1) البداية والنهاية لابن كثير ج 2 ص 262.
وحسان بن ثابت قد ولد قبل النبى عليه الصلاة والسلام بسبع سنين فإنه كانت سنه عند هجرة النبى عليه الصلاة والسلام إلى يثرب ستين سنة، والنبى صلّى الله عليه وسلّم كانت سنه ثلاثا وخمسين.
وهكذا تواردت أخبار من جهات مختلفة عن اليهود بأنهم أدركوا مطلع ولادة النبى عليه الصلاة والسلام، ونحن نؤمن بأن اليهود كان عندهم من علم التوراة ما يجعلهم يعلمون أن النبى الأمى سيبعث من العرب، وكانوا يستفتحون به على المشركين الذين كانوا يجاورونهم فى المدينة، فَلَمَّا جاءَهُمْ ما عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ، فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكافِرِينَ «1» .
(د) ذكر مخزوم بن هانيء المخزومى أن إيوان كسرى ارتجس ليلة مولد النبى صلّى الله عليه وسلّم، وسقطت منه أربع عشرة غرفة، وخمدت نيران فارس التى يعبدها المجوس، ولم تخمد قبل ذلك بألف سنة.
ورأى أحد رجال كسرى فى منامه أن إبلا صعابا تقود خيلا عرابا قد قطعت دجلة والفرات فى بلاده، فلما قص الرؤيا على كسرى أفزعه، فتصبر وإن لم يصبر، فجمع كبار دولته وقال لهم: أتدرون فيم بعثت إليكم؟ قالوا: لا إلا أن يخبرنا الملك، فبينما هم كذلك إذ ورد إليهم كتاب بخمود النار، ثم أخبرهم بما رأى أحد رجاله وبما هاله وقد تأولوا هذه الرؤيا، وخمود النيران بأن حدثا يكون من بلاد العرب.
83- ونقف وقفة قصيرة، أمام هذه الروايات التى تواردت من مزايلة الأصنام عن أماكنها وتمايل وجوهها، وإضاءة الضوء ساعة مولده، وارتكاس إيوان كسرى، وخمود نار فارس التى لم تخمد منذ ألف سنة، فنقرر أن العبرة فيها بصدق الرواية لا بكون هذه الأخبار مقبولة فى العقل فإن حكم مؤرخ بعدم صدق الرواية رددناها.
ونقول فى الرواية أن المحققين فى علم الرواية لم يجدوا مساغا لتكذيبها فإن الحافظ بن كثير يروى فى هذا روايات كثيرة يعلن شكه فى صدق بعضها، ويسكت عن سائرها، وقد نقلنا ما لم يشك فيه، فحق علينا أن نقبل منها ما قبل، ونرد منها ما ذكر أن فيه ريبا، وخبر الصادق يقبل، مادام لم يعرف عليه كذب، والأحكام تبنى على أخبار الصادقين، ولو كان فيها احتمال الكذب لأنه احتمال غير مبنى على دليل، ومجرد الاحتمال لا يمكن أن يكون سببا لرد أقوال الصادقين، وإلا ما حكم قضاء، ولا أدين متهم، ولا ثبت حق، ولا دفع باطل، ولذلك لا يسعنا الا أن نقبل ما لم يجر فيه طعن.
وأما من ناحية قبول العقل، فإنا قد بينّا أن خوارق العادات تجىء بتقدير الله تعالى الذى لا يتقيد بالعادات ولا بما يجرى بين الناس من أسباب ومسببات، فإنه خالق الأسباب والمسببات، فقد يكون الرجز والمحق والخسف والزلزال لفساد قام به بعض الخلق، وذكرنا الايات الدالة على أن الله تعالى يلقى
__________
(1) سورة البقرة: 89.
بالنعم على من يتقى ويعمل صالحا وقد تلونا من قبل قوله تعالى وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَرَكاتٍ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ «1» وذكرنا أن الرجز والعذاب قد يكون بسبب فساد ارتكبه بعض الأقوام، كما أنزل الله تعالى من الرجز على فرعون وملئه، بما كانوا يفسدون فى الأرض.
فالذين يدعون أن هذه الأخبار غير مقبولة فى العقل، إنما ينظرون إلى الأسباب والمسببات العادية التى تجرى فى أعمال بنى الإنسان، ولو علوا بأنظارهم إلى ما فى الكون من كسوف وخسوف وما فى الرياح من مثيرات، وما فى الأرض من زلزال وخسوف ما وجدوا لذلك تعليلا إلا أن تكون إرادة الحكيم العليم القاهر فوق كل شيء الذى لا يسأل عما يفعل، وأنه يفعل ما يفعل لحكم يريدها، ومصالح يقدرها، وقد ربطها بأمور يعلمها، وهو علام الغيوب، وتقديره هو تقدير العليم الخبير.
وإذا كان الله تعالى قد أراد الكرامة لمحمد صلّى الله عليه وسلّم وأراد أن يعلم من يطيفون به من أهل وقوم ما كرمه الله تعالى به، وهو سينادى بالحق، فإن ذلك هو المعقول، وغيره هو المردود، لأنه مخالف لما قدره الله تعالى لهذا الإنسان الذى سيعلم الإنسانية كلها.
84- ولا يصح لعاقل أن يقول أن هذه أوهام سيطرت، وخيالات خيلت، وظنون ظنت، لمجرد أنها خالفت مجارى العادات، وما ألف الناس فى كل مولود، فليس ككل مولود.
ومع ذلك فنحن نرجح صدقها، ولا نلزم الناس بالإيمان بها، فليس من الإيمان أن نؤمن بأن إيوان كسرى ارتجف، ولا النار خمدت، ولا أن الوجود قد استنار عند ما شرف هذا الوجود، لأن هذه الأمور ليست جزا مما دعا النبى صلّى الله عليه وسلّم إلى الإيمان به، إذ أن ما يجب الإيمان به هو ما دعا إليه، وما تكلم به عن الله سبحانه وتعالى، وما نطق به القران الكريم، وحكم به الديان.
ولو رجعنا إلى ما كتبته الأناجيل الحاضرة فى مولد عيسى عليه السلام وما ألزمت الأناجيل به النصارى الذين يؤمنون بهذه الأناجيل التى يزعمون صدقها- لوجدنا أن ما تذكره السيرة النبوية لا يعد شيئا كثيرا بالنسبة لما ذكرته الأناجيل وأوجبت الإيمان به، ولنقبض قبضة يسيرة مما جاء فى هذه الأناجيل وما زعمته بالنسبة لولادة المسيح عليه السلام:
(أ) جاء فى إنجيل متى فى الإصحاح الثانى أنه لما ولد يسوع المسيح ظهر نجمه فى المشرق، وبواسطة ظهور نجمه عرف الناس محل ولادته.
__________
(1) سورة الأعراف: 96.
(ب) وجاء فى إنجيل لوقا فى الإصحاح الثانى: لما ولد يسوع المسيح رتل الملائكة فرحا وسرورا، وظهر من السحاب أنغام مطربة.
(ج) وجاء فى ولادة المسيح أيضا فى أحد الأناجيل، لما ولد يسوع المسيح أضيء الغار بنور عظيم أعيا بلمعانه عينى القابلة، وعينى خطيب أمه يوسف النجار.
(د) وجاء فى إنجيل لوقا الإصحاح الثانى «وعرف الرعاة يسوع، وسجدوا له» .
(هـ) وجاء فى إنجيل متى الإصحاح الثانى أيضا «ولما ولد يسوع فى بيت لحم اليهودية فى أيام هيرودس الملك، إذ المجوس من الشرق قد جاؤا إلى أورشليم قائلين: أين هو المولود من اليهود» .
هذه قبضة مما عند النصارى فى أناجيلهم، ولا شك أن ما يذكر عند ولادة الرسول من أخبار صادقة هى دون ما يذكره هؤلاء عن مولد عيسى عليه السلام.
وإنه من الحق أن نقرر أن الفارق بين ما يقولون فى مولد عيسى عليه السلام وما يقوله الرواة الصادقون من ناحيتين:
الأولى- أن ما يذكر فى الأناجيل عن حال عيسى عليه السلام أكثر غرابة، وما يذكر لنبينا عليه السلام أقل غرابة بكثير.
الناحية الثانية أننا لا يجب علينا دينا وإيمانا أن نذعن لهذه الأخبار وإن كانت صادقة، ولكن المسيحيين يعتقدون صدق ما فى أناجيلهم، من لم يصدقها يكون كافرا بها.
وإذا كان ذلك هو الحق الذى لا ريب فيه، فليس لأحد من الذين كتبوا فى النبى عليه الصلاة والسلام أن يثيروا غبارا حول ما ذكر عند ولادته عليه الصلاة والسلام. وإلا فعليهم أن يثيروا عثيرا بل أكواما من التراب، حول ما قيل عند ولادة السيد المسيح عليه السلام، ولكن رضى الله عن عبد الله بن عباس الذى يقول: إن الإنسان يرى الشظية فى عين أخيه، ولا يرى الخشبة فى عينه هو، وما ذلك إلا لعدم الإنصاف.