221- نزل فى تدرج الدعوة قوله تعالى: فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ.
إِنَّا كَفَيْناكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ. الَّذِينَ يَجْعَلُونَ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ. فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ. وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِما يَقُولُونَ. فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ.
وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ «1» فكانت هذه الايات الكريمة دعوة إلى أن تبلغ الدعوة أقصى مراتبها، وأبعد تكليفاتها أثرا فى التكليف، وتأثيرا فى النفوس.
ومن كتاب السيرة من يرى أن التكليف الكامل بدعوة الناس أجمعين قد ابتدأ من نزول قوله تعالى: وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ ومن هؤلاء ابن كثير، فقد قال فى نزول هذه الايات الكريمات ما نصه، بعنوان «أمر الله ورسوله عليه الصلاة والسلام بإبلاغ الرسالة.) قال الله تعالى: وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ. وَاخْفِضْ جَناحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ. فَإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا
__________
(1) سورة الحجر: 94- 99.
تَعْمَلُونَ. وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ. الَّذِي يَراكَ حِينَ تَقُومُ. وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ. إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ وقال تعالى: وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْئَلُونَ «1» وقال تعالى: إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرادُّكَ إِلى مَعادٍ «2» أى أن الذى فرض عليك، وأوجب عليك تبليغ القران لرادك إلى دار الاخرة ليسألك عن ذلك، كما قال تعالى:
فَوَ رَبِّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ. عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ «3» والايات والأحاديث فى هذا كثيرة جدا «4» .
ونرى من هذا التقرير أن الإمام الحافظ ابن كثير لا يرى أن ثمة تدرجا فى الدعوة، وأنه من وقت أن أمر النبى صلى الله تعالى عليه وسلم بإنذار عشيرته الأقربين كانت الدعوة عامة، وأن الاقتصار فى الاية على ذكر العشيرة الأقربين لا يفيد قصر الدعوة فى هذه الاية عليهم، بل يفيد الابتداء بهم، أو مواجهتهم، مع مخاطبة غيرهم، ولا يفيد قصر الدعوة عليهم، لأن الرسالة المحمدية يخاطب بها الأحمر والأبيض والأسود والعبيد والأحرار.
ونحن نوافق على عموم الرسالة المحمدية، وأنها ليست بمقصورة على قرابة قريبة أو بعيدة، ولكن هذا تدرج فى الدعوة والخطاب، وأن ذلك يتضمن دعوة غيره من المكلفين، بلا فرق بين قريب وبعيد، فالجميع مكلفون بالاستجابة من غير تفريق، ونحسب أن قوله تعالى: وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الخطاب فيها مقصور على العشيرة، ولذلك لم يدع محمد عليه الصلاة والسلام إلى الاجتماع بهم الذى كان فى الصفا غيرهم، وليس من المعقول أن يكلف العامة بخطاب طائفة من الخاصة، بل لابد من توجيه الخطاب إليه، فجاء فى قوله تعالى: فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ. وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ إلى اخر الايات.
ويزكى هذا ما جاء عن ابن إسحاق، فقد جاء ما نصه: ثم أمر الله تعالى رسوله صلى الله تعالى عليه وسلم بعد ثلاث سنين من البعثة أن يصدع بما أمر، وأن يصبر على أذى المشركين، وكان أصحاب رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم إذا صلوا ذهبوا فى الشعاب، واستخفوا بصلاتهم من قومهم، فبينا سعد بن أبى وقاص فى نفر يصلون فى شعاب مكة المكرمة، إذ ظهر عليهم بعض المشركين، فناكروهم، وعابوا عليهم ما يصنعون، حتى قاتلوهم، فضرب سعد رجلا من المشركين بلحى جمل فشجه، فكان أول دم أريق فى الإسلام «5» .
وقد قال ابن إسحاق فى موضع قبل هذا:
__________
(1) سورة الزخرف: 44.
(2) سورة القصص: 85.
(3) سورة الحجر: 92.
(4) البداية والنهاية، ج 3 ص 38.
(5) سيرة ابن هشام طبع الحلبى ج 1 ص 263.
دخل الناس فى الإسلام أرسالا من الرجال والنساء، حتى فشا ذكر الإسلام بمكة المكرمة، وتحدث به، ثم إن الله عز وجل أمر رسوله صلى الله تعالى عليه وسلم أن يصدع بما جاء به، وأن يبادى الناس بأمره، وكانت المدة بين ما أخفى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم واستتر بها إلى أن أمره الله تعالى بإظهار دينه- ثلاث سنين فيما بلغنى من مبعثه، ثم قال تعالى: فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ.
ومن ذلك نستطيع أن نقول إن الدعوة المحمدية في مدة ثلاث السنين تدرجات في ثلاث مراحل، أشار إليها من قبل الإمام ابن القيم في زاد المعاد إذ ابتدأت الدعوة من النبي عليه الصلاة والسلام، ومن بيت النبوة سرت إلى من يتصل بهم من أصدقاء وخلان، فكان من النبي عليه الصلاة والسلام إلي صديقه الأول أبي بكر عتيق بن أبي قحافة، ومن عتيق سرت إلى أصدقائه كعثمان بن عفان وطلحة بن عبيد الله، ومن بيت النبوة سرت إلى صفية والزبير، وغيرهم من عشيرة النبي عليه الصلاة والسلام وأقربائه الأدنين، وهذه هي مرتبة الدعوة الأولي التي أشار إليها ابن القيم فى ترتيب مراتب الدعوة.
ثم كانت المرتبة الثالثة من بعد ذلك، وهي مرتبة الدعوة العامة في قريش ومجابهتهم بدعوة الحق، من غير أن تكون مقصورة علي بيت النبوة، أو علي أقرباء النبي عليه الصلاة والسلام.
وهي في كل مرتبة لا تقف عند الحدود التي ابتدأت فيها، بل تسرى إلي غيرها، سريان النور إلي الظلام، وفى مرتبة العشيرة الأقربين خرجت إلى قريش كلها، فما كان يدعو عشيرته من ال عبد المطلب وبنى هاشم فى كن مستور من الأرض، بل كان يدعوهم جهرة فى غير مواربة.
وقد يسأل سائل، ما الدليل الذى كان يسوقه النبى فى هذه الدعوة، فقد كان الذى نزل من القران الكريم قليلا، وتوالى نزوله بعد ذلك، ولم يذكر أن أحدا جادل حول القران الكريم، أو طلب دليلا واستدل به، فما الذى كان يهداهم إلى الاتباع من غير أن يعرفوا دليلا قدم، وبرهانا أقيم.
والجواب عن ذلك أن الاستجابة كانت للحق فى ذاته، ولما عرف من تاريخ النبى صلى الله تعالى عليه وسلم إذ كان الصادق الذى لم يعرف كذبه قط، والأمين الذى لم يقترن عمل له بريبة قط، والصفى فى نفسه، والمحبوب لمكارمه، والعاقل الذى لم يعرف فيه انحراف فكرى، بل هو المدرك المستقيم الإدراك فى كل معاملاته، وكل ما اتصل به من أعمال.
ثم كان هذا القران الكريم الذى ابتدأ يتلوه عليهم ببيانه الذى فاق كل بيان، وعلا عن أن يتسامى إليه أى إنسان، وإن إشراق نفوس هؤلاء، وحيرتهم فى الأوثان، إذ يرون الأوثان تفقد قوتها فى نفوسهم، وتنهار مكانتها فى قلوبهم، وبقايا الأديان السماوية تتورد على عقولهم، وبعض سنن إبراهيم وماثره يزاولونها فى حجهم، وبنسبته إليهم يعتزون ويفاخرون ولم تسبق إلى نفوسهم نزعة حسد، أو حقد، أو منافسة مقيتة، مما عوق غيرهم.
كانت نفوس الذين اتبعوا الرسول والذين آمنوا معه نفوسا صافية، وما علاها من غبار الوثنية زال وشيكا، فكان الحق واحده هو الذى لمع نوره وجذبه إليهم، فوق ما كان مع محمد صلى الله تعالى عليه وسلم من بينات.
[,
222- استجاب محمد صلى الله عليه وسلم لأمر ربه، وبعد أن كان يدعو من يدعوه فى مناجاة، ثم اقتصرت الدعوة العلنية على عشيرته الأقربين، بعدئذ أخذ يدعو كل من يلقاه، وأخذ يغشى الأسواق التى حول مكة المكرمة يدعو إلى دينه، وتبليغ رسالة ربه، غير مدخر جهدا فى الدعوة إلى الحق والواحدانية بعبادة الله تعالى واحده، لا شريك له، ويقول فى ذلك ابن كثير:
«المقصود أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم استمر يدعو إلى الله تعالى ليلا ونهارا، وسرا وجهارا، لا يصرفه عن ذلك صارف ولا يرده عن ذلك راد، ولا يصده عن ذلك صاد، يتبع الناس فى أنديتهم، ومجامعهم ومحافلهم، وفى المواسم ومواقف الحج، يدعو من لقيه من حر وعبد، وضعيف وقوى، وغنى وفقير، جميع الخلق فى ذلك شرع سواء، وتسلط عليه وعلى من اتبعه من احاد الناس من ضعفائهم الأشداء الأقوياء» «1» .
وكان أشدهم إغلاظا عليه عمه عبد العزى (أبو لهب) ، وثانيهم عمرو بن هشام الذى لقبه التاريخ الإسلامى بحق بلقب أبى جهل، أما الأول فلم يكن منه أذى بدنى أو قولى للنبى عليه الصلاة والسلام، ولكن مبالغة فى مقاومة دعوته، ولا يكتفى بالقعود عن حمايته، وأما ثانيهما فقد كان فاجرا فكانت معاندته للنبى عليه الصلاة والسلام فجورا في القول والعمل، وللضعفاء إعناتا وبغيا، وسنخصه بالقول في حركة الاضطهاد، والبواعث التى دفعته إلى هذا الموقف الذى جره إلى ذلك البغى المرذول الذى لا يقع من كريم.
وأبو لهب كان موقفه موقف محاربة الدعوة، فكان يتبع محمدا عليه الصلاة والسلام فى التقائه بالقبائل العربية فى موسم الحج، فكلما ذهب إلى محفل أو ندى يدعو فيه ناكره، ودعا السامعين إلى ألا يستجيبوا.
__________
(1) البداية والنهاية لابن كثير ج 3 ص 40.
وروى الإمام أحمد عن أبى الزناد عن أبيه، قال: أخبر رجل يقال له ربيعة بن عباد قال: «رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فى سوق ذى المجاز، وهو يقول: «يا أيها الناس قولوا لا إله إلا الله تفلحوا» والناس مجتمعون عليه، ووراءه رجل وضيء الوجه يقول: إنه صابيء كاذب، يتبعه حيث ذهب، فسألت عنه، فقالوا: هذا عمه أبو لهب.
وروى البيهقى مثل ذلك مع بعض الزيادة عن ربيعة هذا الذى ذكرناه أنه قال: رأيت رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم بذى المجاز وهو يتبع الناس فى منازلهم يدعوهم إلى الله، ووراءه رجل أحول تقد وجنتاه، وهو يقول: «أيها الناس لا يغرنكم هذا عن دينكم ودين ابائكم، قلت: من هذا؟
قيل: أبو لهب عمه» .
ونرى من هذا أن أبا لهب قبل أن يكون هو المثبط، ولعله اختار ذلك لنفسه أو اختاره المعارضون للدعوة المحمدية، فيكون أدعى إلى تصديقه، إذ هو قريبه القريب فمع أنه أقرب رحما كذبه، فهذا ترشيح لصدقه عليه الصلاة والسلام. وأنساه الحقد والضلال أن الحق ذاته له نور ساطع، لا يحاجز دونه هذا وأشباهه، ولكنه الأفن يتولد من ضيق العطن، وغلبة الهوى، وسيطرة المارب المادية.
ومهما يكن فقد حمل محمد عليه الصلاة والسلام عبء الجهاد من حين نزل قوله تعالى:
فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ، وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ «1» وتقدم بمن هداهم الله تعالى به من صحب كرام اشتروا الهدى بالضلال، والحق بالباطل، واشترى منهم أنفسهم، فكانوا السابقين، ولنشر بكلمة إلى من سبقوا، وإن كانوا عددا قليلا.
__________
(1) سورة الحجر: 94.