518- وبعد أن فتح لمن يسلم بدار الشرك الباب للذهاب إلى المسلمين وألغى ذلك الشرط كان يحث النبى صلى الله تعالى عليه وسلم الذين يسلمون ألا يبقوا مستضعفين في أرض الشرك، بل عليهم أن يهاجروا، وإن ذلك مبدأ الإسلام أن يتجمع المسلمون، ولا يستمروا متفرقين في الأرض.
ومنع رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم من إقامة المسلم بين المشركين ما دامت عنده قدرة على الخروج من بين ظهرانيهم، وقال صلى الله تعالى عليه وسلم: لا تراءى نارهما. وقال: من حارب مع مشرك وسكن معه فهو مثله، وقال صلى الله تعالى عليه وسلم: لا تنقطع الهجرة حتى تنقطع التوبة، ولا تنقطع التوبة حتى تخرج الشمس من مغربها. وقال: ستكون هجرة بعد هجرة فخيار أهل الأرض ألزمهم بها.
وبذلك طلب النبى صلى الله تعالى عليه وسلم من كل مستضعف أن يهاجر إلى حيث يتجمع المسلمون ما دام قادرا على ذلك، لأنه بهجرته إلى المسلمين يتحقق أمران.
أحدهما: أنه يخرج من حال استضعاف، وذلك بالخروج من ولاية الكفر أو الشرك إلى حيث العزة والمنعة وولاية المؤمنين فهم أهل ولاية الله وولاية الحق، وهى القوة وهى الأمن والقرار. ولقد أوجب القرآن الكريم ذلك فقال: إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ قالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ واسِعَةً فَتُهاجِرُوا فِيها، فَأُولئِكَ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَساءَتْ مَصِيراً. إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجالِ وَالنِّساءِ وَالْوِلْدانِ لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا. فَأُولئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكانَ اللَّهُ عَفُوًّا غَفُوراً. وَمَنْ يُهاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُراغَماً كَثِيراً وَسَعَةً وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهاجِراً إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ، فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً (النساء- 97، 100) .
وإن نصوص النبى صلى الله تعالى عليه وسلم عامة، ونص القرآن الكريم ملزم لا مناص من تنفيذه.
الأمر الثانى: أن في الهجرة تجميع المسلمين، وفي الجماعة قوة ليست في الفرد. وإن ذلك أمكن للوحدة، وأحفظ لهيبة أهل الإسلام.
وإنه قد يعترض على جعل الهجرة بالانتقال من أرض الاستضعاف إلى حيث القوة الإسلامية مبدأ دائما ومطلوبا مستمرا. قد يعترض على ذلك بقول النبى صلى الله تعالى عليه وسلم: «لا هجرة بعد الفتح» .
ونقول في الجواب: إن الحديث مخصوص بالهجرة من مكة المكرمة إلى المدينة المنورة، أو بالهجرة من مكة المكرمة إلى غيرها، وأن الهجرة مطلوبة قبل الفتح، لأن المسلمين فيها كانوا يفتتنون عن دينهم، وكانوا في ذلة، ولا يستطيعون القيام بشعائر دينهم. فلما فتح الله تعالى على المسلمين مكة المكرمة، وصارت فيها الأحكام الإسلامية وصارت ولاية من ولايات الإسلام، لم يعد للهجرة سبب يوجبها، بل إنها أصبحت غير مطلوبة، وربما تضر ولا تنفع لأنها لو استمرت لخلا البيت الحرام من سكان حوله يقومون بسدانته، وهى أحب أرض الله إلى النبى صلى الله تعالى عليه وسلم وإلى ربه، وهى التى جعلها أرضا مباركة.
,
318- أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم من بعد البيعة الثانية- يحرض المؤمنين على الهجرة إلى يثرب. وأهل يثرب من الأوس والخزرج يدعون إلى دين الله تعالى، وينشرونه بين أهليهم وإخوانهم، حتى صاروا كثرة كاثرة فى المدينة، وصاروا هم أنصار رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، وأصبحوا كالحواريين لعيسى عليه السلام، بيد أن الحواريين لم يكونوا عددا كثيرا، وكان الأنصار عددا كثيرا من بعد.
روى البخارى ومسلم بطرق مختلفة عن رسول الله عليه الصلاة والسلام قال: «رأيت فى المنام أنى أهاجر إلى أرض بها نخل، وذهب وهمى إلى أنها اليمامة أو هجر، فإذا هى يثرب» وروى الزهرى عن عروة بن الزبير عن أم المؤمنين عائشة أنها قالت قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وهو يومئذ بمكة المكرمة للمسلمين: «قد أريت دار هجرتكم، أريت سبخة ذات نخل بين لابتين» فهاجر من هاجر قبل المدينة حين ذكر ذلك رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، ورجع إلى المدينة من كان هاجر إلى الحبشة من المسلمين.
ويذكر ابن إسحاق في سيرة النبي صلّى الله عليه وسلّم بروآياته أن الإذن بالهجرة أو الأمر بها ذكره الله سبحانه وتعالي في قوله تعالت كلماته: أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا، وَإِنَّ اللَّهَ عَلى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ.
الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ، وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوامِعُ، وَبِيَعٌ وَصَلَواتٌ وَمَساجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيراً، وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ، إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ. الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ، وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ، وَلِلَّهِ عاقِبَةُ الْأُمُورِ «1» .
ونري أن هذه الايات الكريمات نزلت بالمدينة، لأن سورة الحج مدنية، ولأن الايات تنبيء عن أنهم أخرجوا بالهجرة من ديارهم وأن الإذن من الله بالخروج والإخراج قبل الهجرة، والسبب مقدم علي المسبب وأن الأمر فيها إذن بالقتال، وهو بعد الهجرة، بعد أن صارت قوة متجمعة في يثرب التي صارت مدينة الرسول.
__________
(1) سورة الحج: 39- 41.
,
319- أذن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وبين لهم أن فى يثرب الإيواء والنصرة وقال صلّى الله عليه وسلّم: «إن الله تعالى قد جعل لكم إخوانا ودارا تأمنون بها» .
بعد هذا الإذن الصريح الذى يكاد يكون أمرا، خرج المسلمون مهاجرين أرسالا، احادا وجماعات، ولم يجد المهاجرون السبيل ذللا سهلا، بل كانوا يجدون معوقين من قريش، لأن هؤلاء بعد أن علموا ببيعة الأنصار أدركوا أن المسلمين بمكة المكرمة يتجمعون بإخوانهم فى يثرب التى صارت مدينة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فأخذوا يترصدون كل من هاجر، فإن استطاعوا منعه منعوه، فحاولوا أن يمنعوا أم سلمة وزوجها، وتركوه يهاجر دونها، وهى بإرادة مؤمنة صبرت وهاجرت واحدها، حتى وجدت من أهل المروءة من عاونها على هجرتها.
وأحيانا كانوا يتحايلون على المهاجرين بالكذب حتى يردوهم ثم يعذبوهم غير موفين بعهد أو ذمة، ولنضرب لذلك مثلا، بأحد المهاجرين وهو عياش بن أبى ربيعة.
يروى أن عياشا هذا عندما هم بالهجرة خرج إليه أبو جهل بن هشام والحارث بن هشام، وكان ابن عمهما وأخاهما لأمهما، فتتبعاه، حتى قدم المدينة المنورة، والنبى صلّى الله عليه وسلّم لم يكن قد هاجر بعد، بل كان لا يزال بمكة المكرمة وقالا له: إن أمك قد نذرت ألا يمس رأسها مشط حتى تراك، ولا تستظل من شمس حتى تراك، فرق لها، فقال له عمر وكان معه: «يا عياش إنه والله، إن يريدك القوم إلا ليفتنوك عن دينك فاحذرهم، فو الله لو اذى أمك القمل لا متشطت، ولو اشتد عليها حر مكة لاستظلت، فقال، وهو مخدوع: أبر أمي، ولى هناك مال فاخذه. قال له عمر: والله إنك لتعلم أنى لمن أكثر قريش مالا، فلك نصف مالى ولا تذهب معهما. فلما أبى ذلك قال عمر الرفيق الشفيق، أما إذ فعلت ما فعلت، فخذ ناقتى هذه، فإنها ناقة نجيبة ذلول، فالزم ظهرها، فإن رابك من أمر القوم ريب، فانج عليها، فخرج عليها معهما، حتى إذا كانوا ببعض الطريق قال له أبو جهل: يا أخي، والله لقد استغلظت بعيرى هذا، أفلا تعقبنى على ناقتك هذه. قال: بلي، فأناخ وأناخها ليتحولا عليها، فلما استووا بالأرض عدوا عليه، فأوثقاه رباطا، ثم دخلا به مكة المكرمة، ففتناه فافتتن، وخرج من الإسلام مكرها، وقلبه مطمئن بالإيمان.
وكان صاحب عمر فى الهجرة، ومعهما صاحب ثالث، وهو هشام بن العاص أدركه أهله قبل أن يصل إلى المدينة المنورة ففتنوه عن دينه ففتن.
قال عمر صاحب الرواية كلها، وكان قد صحبهما فى الهجرة، «كنا نقول لا يقبل الله ممن افتتن» وفى رواية عبد الله بن عمر عن أبيه قوله «ما الله بقابل ممن افتتن صرفا ولا عدلا، ولا توبة؛ قوم عرفوا الله، ثم رجعوا إلى الكفر لبلاء أصابهم» وكانوا يقولون هم لأنفسهم ذلك.
ولعل هذا الاعتقاد الذى سكن قلب عمر الفاروق، وسكن قلوب أولئك المؤمنين الأولين، إنما هو لكى يتحملوا أقصى ما يمكن من البلاء، وليكون صبرهم تحريضا لغيرهم، فقوة الإيمان تسرى من أقوياء النفوس إلى ضعفائها، وإن الماء العالى يهبط إلى السافل، لتتوازن النفوس كالسوائل.
لما قدم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى المدينة المنورة أنزل الله تعالى: قُلْ يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ، لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ، إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً. إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ. وَأَنِيبُوا إِلى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذابُ، ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ.
وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذابُ بَغْتَةً، وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ «1» .
لما نزلت هذه الاية لم ينس عمر الكريم صاحبيه اللذين كانا على نية مرافقته، ورافقه أحدهما، ثم افتتن فى دينه وافتتن الاخر قبل أن يسافرا، ولأنه لم ينسهما أرسل إليهما فى صحيفة هذه الاية الكريمة، أرسلها إلى هشام بن العاص الذى افتتن أولا- فلما قرأها فهمها بعد أن استعصى عليه فهم ما يقصد عمر من كتابتها إليه، وعرف أنها أنزلت فيه وفى أمثاله، ممن كانوا قد قنطوا من رحمة الله تعالى.
وهناك رواية أخرى تقول: إن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وهو بالمدينة المنورة، قال: من لى بعياش بن أبى ربيعة، وهشام بن العاص، فقال الوليد بن الوليد بن المغيرة: أنا لك يا رسول الله (صلّى الله عليه وسلّم) بهما، فخرج إلى مكة المكرمة مستخفيا فلقى امرأة تحمل طعاما، فقال لها: أين تريدين يا أمة الله؟ قالت: أريد هذين المحبوسين (تعنيهما) ، فتبعها حتى عرف موضعهما، وكانا محبوسين فى بيت لا سقف له، فلما أمسى تسور عليهما، ثم أخذ ردة (أى خنجرا) فوضعها تحت قيديهما، ثم ضربهما بسيفه، فحل القيدان، ثم حملهما على بعيره.
320- من أجل هذا التتبع الشديد من المشركين، كان المؤمنون يتسللون فى هجرتهم لواذا استخفاء من ظلم قريش، الذى انبعث من خوف تجمع المؤمنين بيثرب لينقضوا عليهم، ويمنعوهم من فتنة الناس فى دينهم، وكان الأقوياء منهم يختارون التستر ليظفروا بالهجرة فى أمان من الأذي، إلا عمر بن الخطاب الذى أبى إلا أن يجهر بالإيمان فى كل موطن من مواطن مكة المكرمة، وأبى الاستخفاء، فهو فى الهجرة أيضا أبى الاستخفاء، وخرج مجاهرا بالهجرة متحديا من يقف فى سبيله.
روى على بن أبى طالب كرم الله تعالى وجهه فى الجنة أنه قال: «ما علمت أحدا من المهاجرين هاجر إلا مختفيا إلا عمر بن الخطاب (رضى الله تعالى عنه) فإنه لما هم بالهجرة تقلد سيفه،
__________
(1) سورة الزمر: 53- 55.
وتنكب قوسه، وانتضى فى يديه أسهما، واختصر عنزته، ومضى قبل الكعبة الشريفة، والملأ من قريش بفنائها، فطاف بالبيت سبعا، ثم أتى المقام، فصلى ركعتين، ثم وقف على الحلق واحدة واحدة فقال:
شاهت الوجوه، لا يرغم الله إلا هذه المعاطس، من أراد أن تثكله أمه، أو ييتم ولده، أو ترمل امرأته، فليلقنى وراء هذا الوادى «1» .
وقد يسأل سائل: إن المشهور أن عمر بن الخطاب رضى الله تعالى عنه صحب فى رحلته عياش ابن أبى ربيعة. وكان فى عزمته أن يصحبهما هشام بن العاص، فكيف نوفق بين هذه الرواية المشهورة ورواية على كرم الله وجهه؟ ونقول فى الجواب عن ذلك، إن الجمع بين الروايتين ممكن، ومتى أمكن الجمع يتعين تصديق الروايتين، إذ لا ترد إحداهما إلا إذا تعذر التوفيق بينهما.
والتوفيق ممكن وظاهر، إذ أن الصحبة كانت فى السفر، وواضح أن السفر يكون بعد اعتزام النية والإصرار، وقد كان متفقا معهما على أن يلتقيا معه فى مكان يقال له التناضب، من أضاة بنى غفار.
والواقعة التى رواها على كرم الله وجهه كانت وهو لا يزال بمكة المكرمة، وقد أعلن الهجرة، فهو قد قال ما قال معلنا هجرته، متحديا قريشا، ثم أخذ طريقه إلى المكان الذى اتعدوا فيه، فوجد عياشا، وتخلف عنهما هشام، إذ افتتن فى دينه، واستجاب لهم وقلبه مطمئن بالإيمان.
كانت هجرة المهاجرين سرا، أو على استخفاء من قريش.
وكانوا ينزلون فى مهجرهم على الأنصار، فينزلون معهم فى بيوتهم، فعمر بن الخطاب حين انتقل إلى المدينة المنورة ولحق به أهله وأخوه زيد بن الخطاب، وعمرو بن سراقة وغيرهم، نزلوا على رفاعة بن عبد المنذور بن زهير فى بنى عمرو بن عوف فى قباء. ونزل طلحة بن عبيد الله، وصهيب بن سنان، على خبيب بن أصاف، وهكذا غيرهم نزل فى منازل الذين اووا ونصروا، وكانوا يرحبون بهم، وكأنهم بين أهليهم وذويهم، لأن الإيمان الصادق جمعهم، ومحبة الله ورسوله عليه الصلاة والسلام فاضت عليهم، فجعلتهم أحبابا على مائدة الرحمن، وقد علموا فضل إخوانهم المهاجرين الذين صبروا عند الصدمة الأولي، وأوذوا فى أنفسهم وأخرجوا من ديارهم وأموالهم، فجعل الله تعالى من خوفهم أمنا، ومن ذل ضعفائهم عزة، إذ اعتزوا بعزة الله تعالي، وكان بهم بتوفيق الله أن صارت كلمة الله تعالى هى العليا، وقد قال الله تعالى فى المهاجرين والأنصار:
لِلْفُقَراءِ الْمُهاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْواناً، وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ، أُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ. وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُا الدَّارَ وَالْإِيمانَ
__________
(1) راجع في هذا أشهر مشاهير الإسلام للمرحوم رفيق العظم طبعة 1972 الناشر (دار الفكر العربي) .
مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هاجَرَ إِلَيْهِمْ، وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلى أَنْفُسِهِمْ، وَلَوْ كانَ بِهِمْ خَصاصَةٌ، وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ «1» .
ويقول الله سبحانه تعالت كلماته: وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ، وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ، وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهارُ، خالِدِينَ فِيها أَبَداً ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ «2» .
فالسابقون الأولون هم الذين هاجروا فارين بدينهم، مجتمعين فى ظل الله تعالي، ولا ظل غيره، والأنصار الذين ولو هم فى السبق، وفتحوا لهم ديارهم، إذ فتحوا لهم قلوبهم، واثروهم على أنفسهم، أولئك لهم الفضل الأول فى السبق إلى اتباع الرسول عليه الصلاة والسلام، والذين دونهم اتبعوهم بإحسان؛ فهؤلاء لهم فضل السبق، والاخرون لهم فضل الاتباع.
هجرة النبى صلّى الله عليه وسلّم
321- أخذ المسلمون يهاجرون زرافات وواحدانا مستخفين، وقليل منهم من هاجر معلنا، كما فعل عمر رضى الله تعالى عنه، فقد أعلن هجرته وتحداهم أن يمنعوه، وعلى كرم الله وجهه يخص عمر بأنه الذى أعلن وتحدي، ولعل ما انفرد به عمر رضى الله عنه هو هذا التحدى. ولا شك أن من الأقوياء من يعلن ولا يختفى، كسيد الشهداء حمزة بن المطلب، فما كان لمثل حمزة فى قوته وبأسه وإيمانه أن يختفى، وفوق ذلك فإن عشيرته من بنى هاشم وعلى رأسهم العباس بن عبد المطلب لا يرضون أن يرهقوا حمزة فى إرادته، أو لا يوافقوه على هجرته، وقد رضى العباس بهجرة الرسول صلّى الله عليه وسلّم، كما تدل على ذلك خطبته فى العقبة الثانية، حيث كانت البيعة الثانية على الإيواء والنصرة، بل لو سايرنا التصور العقلى المنطقى لقلنا أن العباس كان يرحب بهجرة حمزة ليكون بجوار ابن أخيه، ينصره مع الناصرين.
ما بقى من المؤمنين من يثبت أنهم لم يهاجروا قبل النبى صلّى الله عليه وسلّم إلا على وأبو بكر، فأما على فهو مع النبى صلّى الله عليه وسلّم وقد ثبت أنه هاجر بعد النبى بأمر منه صلى الله تعالى عليه وسلم بأن يبقى من بعده ليرد الودائع، أما أبو بكر رضى الله تعالى عنه فقد كان يهم بالهجرة، والنبى صلّى الله عليه وسلّم يستبقيه، ويشير إليه بمعاريض القول بأنه قد يكون صاحبه، ثانى اثنين.
__________
(1) سورة الحشر: 8، 9.
(2) سورة التوبة: 100.
لقد قال ابن إسحاق فى السيرة: «أقام رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بمكة المكرمة بعد أصحابه من المهاجرين ينتظر أن يؤذن له فى الهجرة، ولم يتخلف معه بمكة المكرمة أحد من المهاجرين، إلا من حبس أو فتن إلا على بن أبى طالب، وأبو بكر بن أبى قحافة الصديق رضى الله عنهما، وكان أبو بكر كثيرا ما استأذن النبى صلّى الله عليه وسلّم فى الهجرة، فيقول له رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: لا تعجل لعل الله تعالى يجعل لك صاحبا، فيطمع أبو بكر أن يكونه.
كان النبي صلّى الله عليه وسلّم يستعد للهجرة منذ البيعة الأولى عندما التقى بالأوس والخزرج، بدليل هذه المبايعة، ثم كانت البيعة الثانية بيعة الإيواء والنصرة دليلا على أنه اعتزم الهجرة وأرادها، ثم من بعدها أذن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، أو أمرهم بأن يهاجروا، فهاجروا زرافات وواحدانا، مستخفين فى الأكثر، معلنين فى الأقل، فكانت الهجرة ترتيبا للدعوة، وخروجا من موطن لا قوة للإسلام فيه إلى بلد يكون للإسلام فيه قوة، ويكون له فيها السلطان لانشاء دولة إسلامية، فما كان من المعقول أن ينفذ النبى صلّى الله عليه وسلّم مباديء الإسلام فى مكة المكرمة، وهى فى ظل الوثنية، ويحكمها مشركون، فالزكاة لا يمكن جمعها إلا فى ظل سلطان عادل يجمعها من الأغنياء، ويردها على الفقراء، وتنفيذ مباديء المساواة والإخاء، ودعوة المسلمين إلى التراحم ليكونوا أشداء على الكفار رحماء بينهم، وما كان يمكن أن يقيم الحدود الزاجرة، لبناء دولة فاضلة، ولا القصاص العادل، ولا لينظم المعاملات بين الناس على أساس من الرضا والعدل، وما كان ليحارب الربا الجاهلي، ما كان يمكن شيء من ذلك إلا فى ظل الله تعالي، وبدولة إسلامية تنفذ أوامر الله تعالي، وتبعد الناس عن نواهيه، وما كان يمكنه عليه الصلاة والسلام أن يقيم رأيا عاما فاضلا، يقوم المنحرف، ويرشد المسترشد، ويكافيء المحسن إلا فى ظل دعائم الإسلام، ولتثبت أركانه، وتعم فى الوجود الإنسانى دعوته، وليست الهجرة جاءت بسبب حادث وقع، أو خوف لأمر متوقع.