250- منذ جاءت الدعوة المحمدية، وقد حاول أهل العصبية الجاهلية الذين ينفسون على البيت الهاشمى مكانته، والذين من دأبهم أن يحسدوا الناس على ما اتاهم الله، والذين ألفوا رجس الجاهلية من عبادات، وتحريم الطيبات من الرزق، وقد حاول كل أولئك مجتمعين ومنفردين الوقوف فى وجهها، وهى تنمو وتزيد، تسعى قدما، ولا تتأخر. وإذا كان السير بطيئا، فهو متواصل من غير وناء ولا قصور، وكلما انبلج نوره واتسعت دائرته، ظنوا أنها دعوة قابلة للإنطفاء، فحاولوا إطفاءها بالحيلة والعرض الذى يشبه
الرشوة، فما أجدى ذلك فتيلا، وحاولوا الإعجاز بالجدل فارتدوا على أدبارهم خاسئين وقامت الحجة عليهم وحاولوا أن يهوشوا على القران الكريم وهو يتلي، وتعاهدوا أن يلغوا فى القران الكريم والنبى صلى الله عليه وسلم يتلو.
حاولوا كل هذا، ولم يجد شيء منه، والإسلام سائر فى طريقه، وإن كانت العقبات، فهى لا تعوق السير، وإن أبطأته، ولم يجدوا سبيلا الا إلى أمرين:
أحدهما الإيذاء المستمر لمن لا حول له ولا قوة، ولمن اثر السلام والعافية، وهذب قلبه الإيمان فاعتقد أن الإيمان يوجب عليه الصبر على البلاء، وألا يقاوم السيئة بمثلها ولو قدر عليها، وعلى رأس هذا الفريق صاحب الرسالة محمد صلى الله تعالى عليه وسلم، ومعه صديقه أبو بكر، ومع هؤلاء العبيد والفقراء الذين لا يملكون سطوة ولا عشيرة لهم.
ثانيهما: الاستعانة بمن يحسبون أن له سلطانا أدبيا على محمد عليه الصلاة والسلام وهو أبو طالب، لأنه عمه الذى كفله صغيرا وهو رأس بنى هاشم وهو الذى يحميه كبيرا.
فلما لم يجدوا واحدا من الأمرين زادوا فى الإيذاء وجعلوه جماعيا، ولم يجعلوه أحاديا فقط، ووجدوا بنى هاشم مؤمنهم وكافرهم مع محمد عليه الصلاة والسلام يحميه بأنفة العشيرة، إلا من كتب الله تعالى عليه أن يكون لهبا فى جهنم وهو أبو لهب، فقد كفر بالله، وكفر بالقرابة، وكفر بالحمية، حمية العشيرة والنصرة، وأسلم ابن أخيه، فضلّ ضلالا بعيدا.
,
251- قال ابن اسحاق: أنهم عدوا على من أسلم، واتبع رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم من أصحابه فوثبت كل قبيلة على من فيها من المسلمين، فجعلوا يحسبونهم، ويعذبونهم بالضرب، وبرمضاء مكة المكرمة إذا اشتد الحر، ممن استضعفوا منهم يفتنونهم عن دينهم، فمنهم من يفتن من شدة البلاء الذى يصيبه، ومنهم من يثبت ويعصمه الله تعالى منهم.
وقد كان المؤمنون الصادقون يعينون العبيد من المؤمنين الذين سارعوا إلى الإيمان فى أول الدعوة، ويعينون الفقراء ليصابروا الذين يؤذونهم، والنبى صلى الله تعالى عليه وسلم قد جعل كل ما كان يملكه من مال هو وزوجه خديجة لهؤلاء الضعفاء، وابتدأ محمد عليه الصلاة والسلام يخرج من المال والنشب، لكيلا يحاجزه عن الدعوة حاجز، وليكون ما عنده عونا لأهل الإيمان المستضعفين منهم.
إذن لقى العبيد أشد العنت عندما اعتنقوا دين الحرية.
,
252- كان من أول الناس إسلاما بلال بن رباح، كان رقيقا عند أمية بن خلف، كان يخرجه عند الظهيرة فى الحر الشديد فيطرحه على ظهره فى بطحاء مكة المكرمة. ثم يأمر بالصخرة العظيمة فتوضع على صدره؛ ثم يقول له: لا تزال على ذلك حتى تموت أو تكفر بمحمد، وتعبد اللات والعزى، فيحتمل البلاء على أن يكفر بمحمد صلى الله عليه وسلم، وأن يعود إلى الشرك فيقول ملهوفا:
أحد- أحد-؛ وتأويلها الله أحد. يلفظها فى عجلة لشدة البلاء وللمسارعة بإثبات الصبر، وعدم الاستجابة لما يطلبونه، ولو لاقى أشق البلاء.
ولكن ذا المروءة المؤمن مر عليه وهو فى هذا العذاب، فكان له غوثا- وهو أبو بكر الصديق، عتيق النار ومعتق أهل الإيمان. فقال لأمية: ألا تتقى الله تعالى فى هذا المسكين، حتى متى؟.
قال أمية: أنت الذى أفسدته فأنقذه مما ترى.
قال الرجل الكريم أبو بكر: أفعل، عندى غلام أسود أجلد منه وأقوى على دينك أعطيكه به.
قال أمية: قد قبلت. وحسب أن صفقته رابحة، لأنه أخذ عبدا قويا هو أملك لعنانه.
وأخذ أبو بكر بلالا فرحا بما أعطاه الله تعالى وأعتقه، وكان مؤذن الإسلام من بعد.
وقد أعتق أبو بكر مع بلال ستة اخرين. فكانت العدة سبعة.
وهؤلاء الذين من الله تعالى عليهم بالحرية فداء لهم من العذاب على يد أبى بكر صديق هذه الأمة.
عامر بن فهيرة الذى كان فى الجهاد فى غزوة بدر وغزوة أحد، وأم عبيس، وزنيرة النهدية وبنتها؛ وكانتا لامرأة من بنى عبد الدار فمر بهما وقد بعثتهما سيدتهما بطحين لها وهى تقول: والله لا أعتقكما أبدا. فقال أبو بكر رضى الله عنه: حلى (أى تحللى من يمينك) .
فقالت له: حل أنت، أفسدتهما، فأعتقهما.
قال: فبكم هما؟
قالت بكذا وكذا. قال أبو بكر قد أخذتهما، وهما حرتان، أرجعا إليها طحينها.
قالتا رضى الله عنهما: أو نفرغ منه يا أبا بكر، ثم نرده إليها؟ قال الصديق: وذلك لكما إن شئتما.
ومر بجارية وكان عمر فى أيام شركه معذبها لتترك الإسلام، فيضربها حتى يمل. فيتركها ملالة لا شفقة. فابتاعها أبو بكر وأعتقها «1» .
ويروى أنه نزلت فيه هذه الايات: فَأَمَّا مَنْ أَعْطى وَاتَّقى. وَصَدَّقَ بِالْحُسْنى.
فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرى. وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنى. وَكَذَّبَ بِالْحُسْنى. فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرى.
وَما يُغْنِي عَنْهُ مالُهُ إِذا تَرَدَّى. إِنَّ عَلَيْنا لَلْهُدى. وَإِنَّ لَنا لَلْآخِرَةَ وَالْأُولى. فَأَنْذَرْتُكُمْ ناراً تَلَظَّى. لا يَصْلاها إِلَّا الْأَشْقَى. الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى. وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى. الَّذِي يُؤْتِي مالَهُ يَتَزَكَّى. وَما لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزى. إِلَّا ابْتِغاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلى.
وَلَسَوْفَ يَرْضى «1» .
,
253- هو بيت أسلم كله، وامن بالله سبحانه وتعالى، وفيه ضعف من المال والجاه وناله ضعف الرق. فرأس الأسرة ياسر، وهو أبو عمار، عذب، وأمه سمية، عذبت، وذهب الفجور بأبى جهل إلى أن يضربها برمح فى بطنها فماتت. فكانت أول شهيد فى الإسلام مات فداء لدينه.
وحمل عمار أشد العذاب، وقبله طيبا راضيا، ولقد مر به النبى عليه الصلاة والسلام وهو يعذب، فقال: صبرا أبا اليقظان، ثم قال: اللهم لا تعذب أحدا من ال عمار بن ياسر.
وكان ال مخزوم يعذبونهم اذا حميت الظهيرة، يعذبونهم برمضاء مكة المكرمة، وقد مر النبى عليه الصلاة والسلام بهم، وهم يعذبون، فقال عليه الصلاة والسلام: صبرا ال ياسر، فإن موعدكم الجنة.
ولقد كانوا أحيانا ينالون منهم حتى يفتنوهم عند دينهم، فينطقون بكلمة الكفر تحت ضغط العذاب، ولقد شددوا العذاب على عمار، وما تركوه حتى نال من رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، وذكر ذلك لرسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم؛ فبين له عليه الصلاة والسلام ألامؤاخذة على من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان.
ولقد ذكر سعيد بن جبير أنه سأل عبد الله بن عباس: أكان المشركون يبلغون من أصحاب رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ما يعذرون به فى ترك دينهم، قال: نعم، إنهم كانوا يضربون أحدهم ويجيعونه ويعطشونه حتى ما يقدر أن يستوى جالسا من شدة الضرب الذى نزل به حتى يعطيهم ما سألوه
__________
(1) أخبار عتق هؤلاء بعمل الصديق أخذناه من سيرة ابن هشام ج 1 ص 317، 318، 319
من الفتنة. وحتى يقولوا له اللات والعزى إلهان من دون الله. فيقول: نعم افتداء. منهم بما يبلغون من جهداهم.
ويقول ابن كثير: «وفى مثل هذا أنزل الله تعالى: مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمانِهِ، إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ، وَلكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً، فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ. ذلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا الْحَياةَ الدُّنْيا عَلَى الْآخِرَةِ وَأَنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ. أُولئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصارِهِمْ وَأُولئِكَ هُمُ الْغافِلُونَ. لا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْخاسِرُونَ «1» فهؤلاء كانوا معذورين بما حصل لهم من الإهانة والعذاب البليغ، أجارنا الله تعالى من ذلك بحوله وقوته» «2» .
,
254- تفننوا فى الإيذاء، فمن لم يكن له من يحميه من أهل وعشيرة يؤذونه بالتعذيب، والضرب الشديد، ولقد بلغت النذلة بأبى جهل اللعين أن يضرب امرأة بالرمح فى موضع عفتها، حتى ماتت، من غير أى تحرج من أدب إنسانى، أو عروبة نبيلة، هذا شأن من لم تكن له عشيرة تذود عنه، أو تمنعه.
ومن كان له عشيرة أخذوه بالتشنيع عليه، وكان يتولى ذلك أبو جهل سفيههم. وشيخ أراذلهم، وقد حكى ابن إسحاق فى سيرته ذلك، فقال: «كان أبو جهل الفاسق الذى يغرى بهم فى رجال قريش إذا سمع بالرجل قد أسلم له شرف ومنعة أنبه وأخزاه، وقال له: تركت دين أبيك، وهو خير منك، لنسفهن حلمك، ولنفيلن رأيك، ولنضعن شرفك، وإن كان تاجرا قال: والله لنكسدن تجارتك، ولنهلكن مالك، وإن كان ضعيفا ضربه وأغرى به» «3» .
ولقد كان الكافرون من كبرائهم إن أسلم واحد منهم، لم يمنعوا أمثال أبى جهل من لومهم. وإن كانوا يمنعونه وأشباهه من قتلهم، حتى لا تأخذهم معرة عصبية جاهلية.
لقد أسلم رجال، فأراد بنو مخزوم قبيل أبى جهل، أن يلوموهم على الطريقة التى أشرنا إليها من تسفيه أحلامهم ولكنهم خشوا شر قومهم فاستأذنوهم وأذنوا، قالوا إنا أردنا أن نعاتب هؤلاء الفتية على هذا الدين الذى أحدثوا، فإنا نأمن بذلك غيرهم.
__________
(1) سورة النحل: 106- 109.
(2) سيرة ابن هشام ج 1 ص 321.
(3) سيرة ابن هشام ج 1 ص 321.
قالوا ذلك لهشام بن الوليد حين أسلم أخوه فى النفر الذين أشرنا إليهم، فقال لهم: هذا لكم فعليكم به فعاتبوه، وإياكم ونفسه، احذروا على نفسه، فأقسم بالله لئن قتلتموه لأقتلن به أشرفكم رجلا، فقالوا فى أنفسهم اللهم العنه، فو الله لو أصيب فى أيدينا لقتل أشرفنا رجلا، فتركوه، ونزعوا عنه «1» .
ومن كان له دين لا يعطونه، ويمطلونه إذا أسلم، بل لا يؤدون الدين.
ومن هؤلاء خباب بن الأرت، كانوا يعذبونه، وينزلون به الأذي لأنه لم يكن ذا عشيرة تحميه، ومع ذلك كانوا يحاربونه في صناعته، فلا يعطونه أجر ما صنع.
روى البخارى عن خباب بن الأرت قال «كنت رجلا قينا «2» . فعملت للعاص بن وائل سيفا فجئت أتقاضاه، فقال لا والله لا أقضيك حتى تكفر بمحمد، فقلت لا والله لا أكفر بمحمد، حتى تموت ثم تبعث، قال فإنى إذا مت ثم بعثت جئتنى ولى ثم مال وولد. فأعطيك، فأنزل الله تعالى:
أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآياتِنا، وَقالَ لَأُوتَيَنَّ مالًا وَوَلَداً. أَطَّلَعَ الْغَيْبَ أَمِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمنِ عَهْداً. كَلَّا سَنَكْتُبُ ما يَقُولُ وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ الْعَذابِ مَدًّا. وَنَرِثُهُ ما يَقُولُ وَيَأْتِينا فَرْداً «3» .
,
255- كان النبى عليه الصلاة والسلام يلقى فى قلوبهم ببيان أن الإيمان يوجب تحمل المشاق، وأن ثواب الاخرة ثمنه تحمل ما يقتضيه الحق فى الدنيا، وببيان أن الله تعالى ناصر عباده المؤمنين بعد أن يبلو إيمانهم ويظهر صبرهم.
روى البخارى عن خباب بن الأرت أنه قال: «أتيت النبى صلى الله تعالى عليه وسلم، وهو متوسد ببردة وهو فى ظل الكعبة الشريفة، وقد لقينا من المشركين شدة، فقلت: ألا تدعو الله؛ فقعد؛ وهو محمر وجهه. فقال: قد كان من قبلكم ليمشط بأمشاط الحديد مادون عظامه من لحم وعصب، ما يصرفه ذلك عن دينه، ويوضع المنشار على مفرق رأسه، فيشق باثنتين ما يصرفه ذلك عن دينه، وليتمن الله هذا الأمر، حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت، ما يخاف إلا الله عز وجل ... ولكنكم تستعجلون» .
شكا المؤمنون إلى النبى عليه الصلاة والسلام من حر الرمضاء، واستنصروا فطالبهم النبى صلى الله عليه وسلم بالصبر، فلا إيمان من غير صبر، وكأنه ينبئهم بما أنبأ القران الكريم من بعد، وهو أن الجنة جزاء الصبر، وأنه لابد من الابتلاء:
__________
(1) سورة النحل: 106- 109.
(2) القين الحداد.
(3) سورة مريم: 77- 80.
أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْساءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا، حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتى نَصْرُ اللَّهِ، أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ «1» .
هذا ولأن النبى صلى الله عليه وسلم لو دعا عليهم لا جتثهم الله تعالى من فوق الأرض، وما وجد للإسلام أحد يحمل دعوة الرسول عليه الصلاة والسلام من بعدهم، ولذلك كانت إجابة النبى عليه الصلاة والسلام لما أخبره بأن الله يطبق عليهم الأخشبين (جبلى مكة) قال خاتم النبيين عليه الصلاة والسلام: «إنى لأرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله تعالى» وقد حقق الله تعالى رجاءه، فكان منهم من يعبد الله تعالي، بل كان منهم من حمل السيف مجاهدا فى سبيل الله، وكان من أصلابهم من حملوا النور، إلى مشارق الأرض ومغاربها.
,
256- لقد كان لأذى الضعفاء أنين، وشكوى، وسمع النبى عليه الصلاة والسلام أنينهم، فكان له ألما ممضا، وشكوا إليه فأشكاهم بالصبر وبشرهم بالجنة، وما كان ليكون نبى الرحمة إذا لم يذق من الكأس الدهاق من الالام التى يتجرعونها، وما كان ليدعو إلى المساواة فى السراء والضراء، إذا لم يشاركهم فيهما.
كان بنو هاشم يمنعونه من أن يقتل، ولكنهم ما كانوا ليمنعوه من أن يسفه ويستهزأ به ويؤذى بغير القتل، بل كان يتجرأ على ذلك سفهاؤهم من أمثال أبى جهل، بل من أمثال عمه أبى لهب الذى سلط ابنه اللعين ابن اللعين من أن يتفل فى وجه النبى عليه الصلاة والسلام فى حضرة كبير البطحاء أبى طالب الكريم ابن الكريم.
وإنه يروى البخارى بسنده عن عروة بن الزبير عن عمرو بن العاص، قال: بينما النبى صلى الله تعالى عليه وسلم يصلى فى حجر الكعبة الشريفة إذ أقبل عقبة بن أبى معيط فوضع ثوبه على عنقه فخنقه خنقا شديدا فأقبل أبو بكر رضى الله عنه، حتى أخذ بمنكبيه ودفعه عن الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم، وتلا قوله: أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ، وَقَدْ جاءَكُمْ بِالْبَيِّناتِ مِنْ رَبِّكُمْ، وَإِنْ يَكُ كاذِباً فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ، وَإِنْ يَكُ صادِقاً يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ، إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ «2» .
__________
(1) سورة البقرة: 214.
(2) سورة غافر: 28.
بل إن أبا جهل لعنه الله ليرمى فرث الجزور عليه، وهو يصلى صلوات الله تعالى وسلامه عليه، والنبى ساجد فتجيء فاطمة الزهراء وهى صغيرة، فتلقيه عن ظهر أبيها وهى تلعنهم.
وإن الفجر ليصل بأبى جهل اللعين إلى أن يهم بقتل النبى عليه الصلاة والسلام غير عابيء بأن يتحرك بنو هاشم للأخذ بثأره، وأنه لن ينجو من يد أبى طالب وسيف الله حمزة، فيجتمعوا فى ثأره، وإن تفرقوا فى اتباعه فى دينه، ولكنه الحقد الدفين يعمى ويصم، فلا يفكر الأحمق فى مغبة عمله، ولكن يفكر فقط فى شفاء غيظ نفسه الذى لا يكظمه.
حدث ابن إسحاق بسنده أن أبا جهل شيخ السفهاء من قريش وقف بينهم يقول:
يا معشر قريش، إن محمدا أبى إلا ما ترون من عيب ديننا، وشتم ابائنا، وتسفيه أحلامنا، وسب الهتنا؛ وإنى أعاهد الله لأجلسن له غدا بحجر فإذا سجد فى صلاته فضخت به رأسه، فليصنع بعد ذلك بنو عبد مناف ما بدا لهم. فلما أصبح أبو جهل لعنه الله أخذ حجرا ثم جلس لرسول الله ينتظره، وغدا رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ... فقام يصلى، وقد غدت قريش فجلسوا فى أنديتهم. فلما سجد رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم احتمل أبو جهل الحجر، ثم أقبل نحوه، حتى إذا دنا منه رجع منبهتا ممتقعا لونه مرعوبا قد يبست يداه على حجره، حتى قذف الحجر من يده ... وقام إليه رجال من قريش فقالوا: ما بك يا أبا الحكم، قال: قمت لأفعل ما قلت لكم البارحة، فلما دنوت منه عرض لى دونه فحل من الإبل، والله ما رأيت مثل هامته، ولا قصرته، ولا أنيابه لفحل قط؛ فهم أن يأكلنى» «1» .
وقد روى مثل ذلك البيهقى والإمام أحمد. وإن كان ما روى عن أحمد موجزا عن ذلك.