163- يذكر بعض العلماء الشجاعة بأنها منبعثة من القوة الغضبية، ولكنها خاضعة لحكم العقل، وللحكمة، وللمعرفة، وهى السبيل إلى دفع الأذى، وإلى والنفع للجماعة، وليست مرادفة للتهور، وإن كان منبعثهما واحدا، وهى القوة الغضبية الدافعة عن النفس فى موقف التعرض للأذى، بيد أن التهور اندفاع غير محكوم بالعقل والحكمة، ولا خاضع للمعرفة، أما الشجاعة فإنها لا تصدر إلا عن تفكير سليم، ودواعى الحكمة المستقيمة.
وليست الشجاعة منافية للحذر، بل إنه مسيطر عليها، فهو يدفعها، وهو يحكمها، وقد يكون الخوف مع الشجاعة، لأن الشجاع يتردد قبل أن يقدم فيوازن بين العمل ونتائجه، والإقدام وغاياته، وهل يتعين الضرب بالسيف، وإن ذلك كله قد يصحبه، فليس الشجاع هو الذى لا يخاف قط، إنما الشجاع من يتغلب على بواعث، ويتقدم فى تدبير محكم، وصبر وقوة احتمال، ولا تتصور الشجاعة إلا مع التدبر والصبر والإحكام وتعرف الغايات والمقاصد.
والشجاعة قد تكون معنوية، وليس لها مظهر حسي، وقد تكون حسية بدافع معنوي، ورغبة فى رفع حق، وخفض باطل، والنبى عليه الصلاة والسلام قبل البعثة كان المثل الكامل للشجاعة المعنوية، التى لا تهاب المخالفة فى الحق، فقريش كلها كانت تسجد للصنم، ومحمد عليه الصلاة والسلام لم يسجد لصنم قط، وكان يجابه بذلك قريشا، ولا يبالي، وكانوا يحلفون باللات والعزى ومناة الثالثة إلى اخر الأسماء التى سموها، وما أنزل الله تعالى بها من سلطان، وكان هو يرد من يطلب منه الحلف بها، فيقول إنه يكرهها وما يكون ذلك إلا من شجاع قوى الإيمان بما يعتقد ويؤمن، فيختلف مع بائع فى الثمن، فيطلب منه الحلف باللات والعزي، فيرد محمد بن عبد الله عليه الصلاة والسلام ردا قويا، بأنه يكره هذه الأسماء، فيقبل الرجل قوله من غير يمين لروعة إيمانه وشجاعته فى هذا الإيمان.
وإنه فى رحلته إلى الشام وهو فى الخامسة والعشرين كان شجاعا فى نفسه وفكره وقلبه عندما منع رجال القافلة التى أعطته زمامها من أن يسابقوا رجال قافلة أخري، واجه من معه بذلك المنع غير هياب ولا وجل، ثم خالف طريق الاخري، وسار فى طريق أخرى ليمر بقبر أمه بالأبواء، ويستعبر عليه العبرات، إذ كان لأول مرة زاره، وكان فى وعى عند موتها، إذ كان فى السادسة من عمره، ومع ذلك وصل قبل القافلة، وكان قد اختار الطريق الذى ظنه من معه وعرا، وظنه هو مسلوكا، وكان مستقيما، لأنه وصل قبل القافلة المسرعة من غير مسابقة.
وإن هذا الخبر فى ذاته يدل على قدرة تدبير للأمور، وتعرف لأقرب الطرق للوصول إلى الهدف، ويدل على رفق بمن معه، والابتعاد عن المسابقات غير المثمرة إلا التعب، وعلى كمال الرفق بمن فى صحبته، كما يدل على شجاعة نادرة، وقوة احتمال كاملة.
ولقد كان شجاعا فى أقصى درجات الشجاعة عندما قبل أن يكون الحكم بين قبائل العرب فى وضع الحجر الأسود، فقد تقدم وهو يعلم أن الحاكم لا يرضى كل من يحكمونه، ولكنه بتوفيق الله تعالى أرضاهم جميعا.
وهكذا كان محمد عليه الصلاة والسلام شجاعا قبل البعثة يقول الحق ولا يخشى لومة لائم، ويجاهر به غير مستهين بمن يقاومه، بل راض بأن ينطق بالحق، وحسبه ذلك وكفى.
,
165- كتب القتال على محمد عليه الصلاة والسلام ومن معه، وهو كره لهم، لأن الدعوة الإسلامية لابد أن تأخذ طريقها، وأن ترد الاعتداء حتى يكون الدين لله، وتستقيم القلوب، ولا تكون الفتنة، والإكراه على ترك الهداية، والوقوع فى الغواية، بعد أن من الله تعالى عليهم بالحق، والإيمان وما كان أهل الإيمان ليستخذوا ويستكينوا ويهنوا عن نصرته، ولذلك أذن لهم فى القتال، كما قال تعالي:
أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا، وَإِنَّ اللَّهَ عَلى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ. الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ، وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَواتٌ وَمَساجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيراً، وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ «1» .
كان لابد من القتال جهادا فى سبيل الله، ولنصرة الحق، وكان لابد أن يكون محمد عليه الصلاة والسلام الموجه له فى كل ميادينه، والموجه له فى كل نواحيه وضروبه، ما كان محمد عليه الصلاة والسلام القائد الذى يحارب بغيره، فيوجه إلى الميدان، ولا يتوجه هو إليه، بل كان يتجه هو إليه ليكون القدوة الحسنة فى كل أمر يدعو إليه، لا يضن بنفسه، ولا يستأثر بالراحة، ويترك غيره يعمل، بل يكون فى أول العاملين المتقين.
وكان على رأس المجاهدين، جاء فى كتاب الشفاء للقاضى عياض ما نصه: «قد حضر عليه الصلاة والسلام المواقف الصعبة، وفر الكماة الأبطال عنه غير مرة، وهو ثابت لا يبرح، ومقبل لا يدبر، ولا يتزحزح، وما من شجاع إلا وقد أحصيت له فرة، وحفظت عنه جولة سواه عليه الصلاة والسلام» «2» .
ولقد فهم بعض الناس من قوله تعالى: فَقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ «3» أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم مأمور بأن يقاتل المشركين إذا واجهوه ولو كان واحده، وذلك الأمر الخاص به الذى كلفه، وقد فهمه أولئك المفسرون من قوله تعالى: لا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ.
__________
(1) سورة الحج: 40.
(2) الشفاء ج 1 ص 66.
(3) سورة النساء: 84.
ومهما تكن دلالة ذلك النص فإن النبى صلى الله تعالى عليه وسلم حمل عبء الجهاد ودخول الميدان بنفسه من غير ضن بها وكان أصبر أصحابه فى الجهاد، فما فر قط من صفوف القتال، وما يختاره فى موضع أمن، ولو تولى عنه كل من حوله.
ولقد روى عن فارس الإسلام على بن أبى طالب كرم الله وجهه أنه قال: «إنا كنا إذا حمى البأس، واحمرت الحدق اتقينا برسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، فما يكون أحد أقرب إلى العدو منه، ولقد رأيتنى يوم بدر، ونحن نلوذ بالنبى صلى الله تعالى عليه وسلم. وهو أقربنا إلى العدو، وكان من أشد الناس بأسا»
وكان عليه الصلاة والسلام هو العلم الذى نهتدى به فى الميدان، أشجع المجاهدين وأصبرهم صلى الله تعالى عليه وسلم.
ويقول عبد الله بن عمر الذى شاهد الحرب، ما رأيت أشجع ولا أنجد ولا أجود ولا أرضى من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهو الشجاع الرضى الكريم الصبور، الذى يقف فى الهيجاء، ويحمل سيفه، ليجيب كل هيعة.
وإنه عليه الصلاة والسلام كان قوى الاحتمال مع شجاعة، ورباطة جأش، لقد جرح فى يوم أحد، واشتدت جراحه، وأنزفت دمه، ومع ذلك دوام على الحرب، ولم يهن ولم يستكن.
ولقد أريد قتله عليه الصلاة والسلام فى هيجاء أحد، واضطرابها، فجاء أبى بن خلف يريد قتله، وقد أعد لذلك عدته منذ بدر الكبرى، إذ كان فى الأسرى، فلما كان أحد، ولم يكن للمسلمين جاء وقد ادرع بالحديد، لا يرى منه إلا عينه، حتى لا يصيبه سيف أو رمح، وهو يقول: أين محمد صلى الله عليه وسلم؟ لا نجوت إن نجا محمد، فاعترضه رجال من المسلمين، فقال محمد صلى الله عليه وسلم الذى أنزف من دمه ما أنزف، خلوا طريقه، وتناول الحربة من الحارث بن الصمة، وحملها، وانتفض بها انتفاضة تطايروا تطاير الشعراء عن ظهر البعير إذا انتفض، فطعنه عليه الصلاة والسلام فى عنقه طعنة تدأدأ منها من فرسه مرارا، وقيل بل كسر ضلعا من أضلاعه، فرجع إلى قريش يقول: قتلنى محمد- صلى الله عليه وسلم- وهم يقولون: لا بأس عليك. فقال: لو كان يجمع الناس لقتلهم، أليس قد قال أنا أقتلك، والله لو بصق على لقتلنى، فمات فى سرف فى قفولهم إلى مكة المكرمة «1» . وإنه فى حرب هوازن ثبت واحده، وذلك كاف لبيان مدى شجاعته وصبره.
__________
(1) الشفاء ج 1 ص 68.
166- هذه شجاعته عليه الصلاة والسلام فى الجهاد بالسيف، وقد ذكرنا شجاعته المعنوية فى السلم، وكيف كان لا يخشى فى الحق لومة لائم، ولا يلاحظ فى أفعاله البيئة وتقاليدها، ولو كانت مستنكرة، ولو كان منشأ هذه التقاليد أنهم لا يعقلون شيئا ولا يهتدون، بل ما يكون معروفا يعرفه، وما يكون نكرا ينكره، وهو فى ذلك قبل البعثة وبعدها على حال واحدة، ولا يهاب الرجال، بل يهاب الله تعالى واحده، ويرفق بالرجال ما كان الرفق سبيلا للهداية، فهو الهادى المرشد الداعى إلى الحق فى كل أحواله.
وهو يستجيب لداعى النجدة. حيث تكون الاستجابة واجبة، والنجدة لازمة، وحيث يكون ملهوف يغاث، لقد فزع أهل المدينة وتصايحوا لمخوف ألم، فانطلق ناس قبل الصوت، يتعرفون مكان الاستغاثة، وكل يعتقد أنه الذى سبق، ولكنهم وجدوا رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم قد سبقهم إلى الصوت، ولقوه قافلا وقد سبقهم، وقد سارع إلى الصوت على فرس لأبى طلحة ركبه النبى صلى الله عليه وسلم الشجاع القوى الأمين، والفرس عار، لا سرج عليه، وقد سبق عليه الصلاة والسلام والسيف فى عنقه، وقال لهم، وهو راجع: لن تراعوا» .
وهكذا كانت شجاعة رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم كاملة فى كل ضروب الشجاعة.
وإذا كان الحق يتكلم، ولا يجمجم، وفى الميدان يتقدم كل الصفوف، ولا يحجم، وفى النجدة هو السباق إلى مواطن الإغاثة فهو فى كل أحواله الشجاع، ولكن فى غير خيلاء، ولا مفاخرة، ولا استعلاء، بل هو فى هذه الداعى إلى الحق، وإلى صراط مستقيم.
وقد روى عن أنس بن مالك خادم رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم أنه قال: «فضلت الناس بشدة البطش» والمراد البطش بالظالم، وأخذه بالقوة بعد ألا تجدى الموعظة، ويخرج من طور الجاحد، المجرد إلى طور المعتدى الأثيم، الذى يحاول أن يفتن الناس فى دينهم والفتنة أشد من القتل.