418- التقى الجيشان، ولكن لم تبدأ المعركة ولابد أن نذكر الأوصاف الظاهرة والنفسية للجيشين قبل أن يخوضا المعركة، لأن الحال لهما تنبيء عن المال، والله ولى المؤمنين.
كان جيش المشركين مزودا بكل أسباب القوة المادية فعددهم أضعاف مضاعفة لعدد المؤمنين، ومن ناحية الدوافع النفسية كان يدفعهم إلى القتال أولا الثأر، ومحاولة استرداد مكانتهم في العرب، والخشية على تجارتهم التى كانت مصدر ثروتهم، وقد تهددتها قوة المسلمين، وقد أخذوا عليهم كل مرصد، فوجد الدافع إلى القتال والاستماتة فيه من النفس والنفيس، وأدركوا أن الأمر بينهم وبين النبى صلى الله تعالى عليه وسلم أمر حياة عزيزة كريمة يتفاخرون فيها، أو موت ذليل فيه العار والثبور.
ولقد أخذوا يعدون العدة الحربية في التنظيم آخذين مما صنع النبى صلى الله تعالى عليه وسلم وهو تنظيم الصفوف، فالمحارب مأخوذ بنظام محاربه تسرى إليه بالمحاكاة والمدافعة نظمه ومسالكه.
ولقد أخذوا نساءهم معهم، وكلهن موتورات محنقات، فأرادوا أن يثبتوا بهن، وألا يرتكبن عار الفرار أمامهن، ويسلموهن للسبى.
وكل ذلك لتقوى الروح المعنوية، ولا يفرون يوم الزحف، وقد رأوا محمدا صلى الله تعالى عليه سلم وصحبه يثبتون عند الحرب ولا يفرون يوم الزحف.
ولقد روى أنه لما التقى الناس ودنا بعضهم من بعض قامت هند بنت عتبة في النسوة اللائى معها، وأخذن يضربن بالدفوف ويحرضن على القتال، وكان اللواء في بنى عبد الدار فقالت محرضة لهن:
ويها بنى عبد الدار، ويها حماة الأدبار، ضربا بكل بتار.
إن تقبلوا نعانق ... ونفرش النمارق
أو تدبروا نفارق ... فراق غير وامق
ولقد كان أبو سفيان حريصا على بث الروح الدافعة إلى القتال في جنوده إلى آخر لحظة قبل القتال، لقد كان اللواء لبنى عبد الدار، وروى أبو إسحاق أن أبا سفيان قال لهم يحرضهم على القتال: يا بنى عبد الدار، قد وليتم لواء يوم بدر، فأصابنا ما قد رأيتم، وإنما يؤتى الناس من قبل راياتهم، إذا زالت زالوا، فإما أن تكفونا لواءنا، وإما أن تخلوا بيننا وبينه فنكفيكموه فهموا به وتواعدوه وقالوا نحن نسلم إليك لواءنا ستعلم غدا إذا التقينا، كيف نصنع!!
419- هذا جيش قوى بالعدد، وقوى بالعدة، وبثوا فيه روح القوة وأثاروا فيه الحمية، فكانوا المجتمعين على باطلهم، جمعهم الشر والحقد والثأر.
ولنتجه إلى جيش المؤمنين، ولا يمكن أن نقول أنه في إيمانه وقوة روحه كان أقل من قوة المشركين المدافعة، فإذا كان أولئك يدفعهم الحقد والضغينة والترات، فإن جيش الإيمان يدفعه إيمان قوى راسخ كالرواسى، وحب في الشهادة، وإرادة من عند الله سبحانه وتعالى ومعهم أعظم قواد الأرض إيمانا وروحا، وللمؤمنين فيه أسوة حسنة، ولكن يجب أن نذكر بعض الملاحظات:
(أولاها) أن بعض الذين لم يحضروا بدرا، ورأوا غنائمها، ربما كان من المحرض لهم على القتال والخروج للأعداء- رجاء أن ينالوا من الغنائم أو الأنفال ما ناله إخوانهم من قبل، وإن كان ذلك مع الإيمان والرغبة في أن يفدوا الإسلام بأنفسهم، وجانب المال إن كان بعض الهدف ربما دفع إلى طلبه، فغلب عند ظن النصر، ومن أجل ذلك كان المنع من الأسر قبل أن يثخن المسلمون في العدو، وإذا كان الأسر ممنوعا، فالجرى وراء الغنائم أشد منعا قبل أن يثبت النصر، ويستقر.
(الثانية) أن بعض المقاتلين من جيش المؤمنين بعد تصفيته، وتنقيته من المنافقين كان لا يزال فيه بعض المترددين الذين لم يعقدوا العزم قويا ثابتا، فالطائفتان اللتان همتا بأن تفشلا، لا أستطيع أن أقول أن كل آحادهما عقد العزم، وأصر على القتال وأراد النصر، وأنه لا يذهب بقوة الجيش إلا التردد، فإن كان من بعض آحاده، نقصت القوة بمقدار تردده.
(الثالثة) أن اليهود كانوا حول المدينة المنورة، ولهم ترات، وقد انضم إليهم المنافقون، وهؤلاء يكونون عورة من وراء الجيش المقاتل.
ولكن قيادة رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم قد ذهبت بكل عوامل الضعف، واختفت كل عناصر التردد ابتداء ولم يحدث النزوع إلى الغنائم الذى كان مستكنا في بعض النفوس إلا عند ما لمع بريق الغنيمة، وظهرت بوادر النصر، فلم يكن التتبع للفلول المهزومة من قوات المشركين.
هذا بإنصاف حال الجيشين المقاتلين، وكلمة الله سبحانه وتعالى أعلى، وله وحده العزة، وأنه ناصر جنده إن استقام على الطريقة، واتخذ الصبر في الزحف، والصبر بضبط النفس عدة له، فإن ذلك هو القوة بعد توفيق الله سبحانه وتعالى.
وإن النبى صلى الله تعالى عليه وسلم قد أخذ الأهبة وقوى النفوس، وشحذ العزائم وحقق قول الله سبحانه وتعالى فَإِذا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ.
,
375- كانت الغزوات التى قام بها النبى صلى الله تعالى عليه وسلم في أوّل العام الثانى من الهجرة، والسرايا التى قام بها أصحابه بأمر منه، لإشعار قريش بأن الإسلام صارت له قوى تناويء من آذوا أهله. وحاولوا فتنة الضعفاء عن دينهم، فأرهقوهم ليحولوهم عن اعتقادهم، فلم ينالوا خيرا.
وكانت ليتعرف النبى صلى الله تعالى عليه وسلم داخل البلاد العربية، ويشعرهم بوجود الإسلام، ويتألف قلوبهم ليجمعهم من بعد على كلمة الحق، وقد عقد عليه الصلاة والسلام مع بعضهم مواثيق عدم اعتداء، والنصرة لهم وبهم.
وكان من بعد ذلك أن يلاقى صلى الله تعالى عليه وسلم قريشا لا بسرية يرسلها، ولكن بغزوة يغزوها بنفسه، وقد مهدت الأسباب، وعلم المشركون أنه صار للمسلمين قوة يقدرون معها عواقب أمرهم.
وأنه عليه الصلاة والسلام قاطع عليهم طريق تجارتهم، فقد صارت الحرب قائمة بعد أن أخرجوا المؤمنين من ديارهم، وبعد أن هموا بقتله، وأخذوا العدة، فما أن علم بتجارة لهم ذاهبة إلى الشام أو عائدة، حتى يبادر إليها.
ولما قتل عبد الله بن جحش في سريته ابن الحضرمى كما أسلفنا، وأسر المسلمون من أسروا أحس المشركون من قريش فكانوا يحصنون تجارتهم بحراس.
خرجت قريش بتجارة عليها نحو أربعين مقاتلا، وسارع النبى صلى الله تعالى عليه وسلم قبل سرية ابن جحش ليدركها، ولكنها أفلتت، وكانت فيها أموال ذوى المال من قريش، فأخذ رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم يترصدها عند عودتها من الشام، وتتبع أخبار قريش وأخبارها.
,
376- علم النبى صلى الله تعالى عليه وسلم أن عير قريش قافلة راجعة من الشام، وفيها ثلاثون أو أربعون رجلا، فندب المسلمين إليهم، وقال عليه الصلاة والسلام:
«هذه عير قريش فيها أموالهم، فاخرجوا إليها، لعل الله سبحانه وتعالى ينفلكموها» .
فخف بعضهم استجابة لنداء النبى صلى الله تعالى عليه وسلم، وثقل بعضهم، وإن كان على استعداد، لأنهم لم يتوقعوا قتالا، كما كان في السرايا والغزوات السابقة، فإنهم لم يلتقوا بالمشركين، ولم يكن قتال.
وإن أبا سفيان الذى كان على رأس العير التى حمولتها ألف بعير، كان يتخوف من أن يلقاه المسلمون فيأخذوه، كما أخذوا عير ابن الحضرمى وقتلوه، ولذلك كان يتحسس أخبار النبى صلى الله تعالى عليه وسلم وأصحابه، ويتعرف حركاتهم.
فكان يسأل من يلقى من الركبان، حتى أصاب خبرا، بأن النبى صلى الله تعالى عليه وسلم استنفر أصحابه للقاء أبى سفيان، وعيره، وتأكد أن المصير الذى سيلقاه هو والعير هو ما لقيه ابن الحضرمى وعيره.
وقد دفع به الحرص على عير قريش إلى أمرين:
أحدهما- أنه مال عن طريق بدر، ونجا بعيره، وجاء محمد صلى الله تعالى عليه وسلم ومن معه من المهاجرين فوجدوا العير قد أفلتت منهم، ولم ينالوا منها، وعلموا أن وراءها القتال.
الأمر الثانى: أنه أرسل إلى قريش يستغيث بها لتحمى عيرها التى معه، وليعمل على أمن الطريق من محمد صلى الله تعالى عليه وسلم وعلى أصحابه وليجهز جيشا يقضى على محمد صلى الله تعالى عليه وسلم وعلى أصحابه.
أرسل ضمضم بن عمرو الغفارى يبين ما تتعرض له العير، وأن محمدا صلى الله تعالى عليه وسلم وصحبه يتعرضون لها، فذهب ضمضم يصرخ ببطن الوادى، واقفا على بعيره وقد جدعه وحول رحله، وشق قميصه ليسترعى الناس، وينبههم إلى ما يقول، ثم قال: «يا معشر قريش اللطيمة اللطيمة «1» أموالكم مع أبى سفيان، قد عرض لها محمد في أصحابه، لا أرى أن تدركوها، الغوث، الغوث» .
كانت تلك الكلمات الحارة مع المظهر الذى ظهر به دافعة القوم إلى أن يندفعوا معتزمين الدفاع عن أموالهم، وإنقاذها، فكانت قريش ما بين رجلين، رجل اعتزم أن يخرج بنفسه، وآخر ينيب عنه من يدافع عن ماله، ومال قريش كلهم، وبينما هم قد تجهزوا وأعدوا العدة بلغهم أن العير قد نجا بها أبو سفيان إذ غير الطريق كما أشرنا، فأرسل إلى قريش يبشرهم بنجاة العير، إذ قال لهم «إنكم إنما خرجتم لتمنعوا عيركم، ورجالكم وأموالكم فقد نجاها الله، فارجعوا» .
__________
(1) اللطيمة: الإبل التى تحمل الحرير والطيب وغيرهما
وبذلك ذهب السبب الذى كان من أجله الخروج، ولكن لأجل الحقد والعنف في قلوب بعض المشركين، وعلى رأسهم أبو جهل أبى إلا المضى إلى بدر، فقال: «والله لا نرجع حتى نرد بدرا» .
فرد كلامه بعض حلفاء بنى زهرة، وقال وهم بالجحفة:
«يا بنى زهرة قد نجى الله أموالكم، وخلص لكم صاحبكم مخرمة ابن نوفل (وكان في حماة العير) وإنما كفرتم بنعمته وماله، فاجعلوا لى جبنها وارجعوا، فإنه لا حاجة لكم بأن تخرجوا على غير ضيعة، لا ما يقول هذا الرجل (أى أبو جهل) فلم يشهدها زهرى واحد» .
ولم يكن بقى من قريش بطن إلا وقد نفر منهم ناس، وبنو عدى بن كعب لم يخرج منهم.
وكانت محاورات في صفوف الذين خرجوا للقتال من شأنها أن توجد ترددا في الخروج، وقد قال بعضهم في محاورة لطالب بن أبى طالب، وقد استعد للخروج «لقد عرفنا يا بنى هاشم، وإن خرجتم معنا أن هواكم لمع محمد» فغضب لذلك طالب. ورجع مع من رجع.
كان هذا التردد والرجوع من بعضهم بعد أن خرجت رجالات قريش للدفاع عن العير، ولا شك أن من بقى مصرا على القتال قد نهنه من عزمته ذلك الخلاف، مع رجوع بعضهم، وخصوصا أن سبب الخروج قد زال.
ومهما يكن من أمر ذلك التردد فقد خرجت قريش على الصعب والذلول في خمسين وتسعمائة مقاتل معهم مائتا فرس يقودونها، وأعداد من الإبل تجاوزت الحسبة، ومعهم القيان يضربن بالدفوف، ويغنين بهجاء المسلمين.
377- لنترك هؤلاء وعيرهم وجيشهم وقيانهم، ولنذكر العطر من أخبار رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم. لقد خرج رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم بنحو تسعة وثلاثمائة أو حول هذا العدد، وكان في هذه المرة من المهاجرين والأنصار قاصدين بدرا، ليلقوا العير هنالك، فلم يدركوها، وفربها أبو سفيان مخالفا طريق بدر جاعلا بدرا على يساره، وبذلك نجا العير ومن معه.
وعلم النبى صلى الله تعالى عليه وسلم مما تحسس من أخبار أن قريشا قد خرجت في هذا العدد بجيش لجب فيه الأفراس والإبل، وأنه إذ فر منه العير فقد لقى النفير، وإنها الحرب لا محالة.
ولذلك أخذ يجمع قلوب جنده، بعد أن جمع عددا وإن كان قليلا في عدده فهو قوى في إيمانه، إنه واثق من المهاجرين والأنصار، ولكن خشى أن يفهم الأنصار أن العهد لا يلزمهم أن يخرجوا معه، بل يلزمهم العهد إن دهم في المدينة المنورة وأن ليس عليهم أن يسيروا معه لقتال عدو لم يجيء إلى بلدهم.
ذلك أن صيغة العهد أنهم قالوا: يا رسول الله- عليه الصلاة والسلام- إنا براء من ذمامك حتى تصل إلى ديارنا، فإذا وصلت إلينا فأنت في ذمتنا نمنعك مما نمنع به أبناءنا ونساءنا.
وربما توهم بعضهم أن هذا العهد لا يلزمهم بالخروج ولا بد من اليقين عند الحروب، لذلك أراد أن يتعرف ما في قلوب أولئك الذين آووا، وهل ينصرونه في هذا الموطن، وقد خرجوا للعير، لا للنفير.
استشار رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم أصحابه ليظفر بمشورة رجل حسن المشورة، وليتعرف حال جنده مهاجرين وأنصارا بصفة خاصة.
استشار رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، فقال أبو بكر وأحسن القول، وقال عمر بن الخطاب فأحسن القول، وما كان يريد قول عمر وأبى بكر، فهو مستيقن بإيمانهما وإقدامهما، ولكنه يريد من وراءهم.
فقام المقداد بن عمرو واقفا وقال:
يا رسول الله- صلى الله عليه وسلم- «امض لما أراك الله، فنحن، والله لا نقول لك، كما قالت بنو إسرائيل لموسى: «اذهب أنت وربك فقاتلا إنا ههنا قاعدون» ولكن اذهب أنت وربك فقاتلا، إنا معكما مقاتلون، فو الذى بعثك بالحق لو سرت بنا إلى برك الغماد لجالدنا معك، من دونه، حتى تبلغه»
فقال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم خيرا، ودعا له.
وهنا استيقن من المهاجرين، وبقى أن يطمئن إلى الأنصار الذين قد يتوهمون أن العهد الأوّل لا يلزمهم بالخروج، فقال: أشيروا على أيها الناس (يريد الأنصار) . قال سعد بن معاذ: «والله لكأنك تريدنا يا رسول الله» قال عليه الصلاة والسلام: «أجل» .
قال سعد: «لقد آمنا بك وصدقناك، وشهدنا أن ما جئت به هو الحق، وأعطيناك على ذلك عهودنا ومواثيقنا على السمع والطاعة، فامض يا رسول الله (صلى الله عليه وسلم) لما أردت، فنحن معك، فو الذى بعثك بالحق، لو استعرضت بنا هذا البحر، فخضته لخضناه معك، ما تخلف منا رجل واحد، وما نكره أن تلقى بنا عدونا، إنا لصبر في الحرب، صدق عند اللقاء، لعل الله يريك منا ما تقر به عينك، فسر بنا على بركة الله» .
عندئذ آمن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم أن الله سبحانه وتعالى قد صدق وعده، وأن معه جيشا يؤمن بالله وبالحق، وأنه لا يتردد، ولذلك سر عليه الصلاة والسلام بقول سعد، ونشطه
قوله، فقال عليه الصلاة والسلام: «سيروا وأبشروا، فإن الله قد وعدنى إحدى الطائفتين، والله لكأنى أنظر إلى مصارع القوم» .
هذا هو جيش النبى صلى الله عليه وسلم عقد العزم، وتؤيده قوة الله سبحانه وتعالى.
,
378- رأيت الجيش النبوى قد ربط نفسه وقلبه بالحق، ولكن عدده قليل، وعدته ناقصة، فلم يكن فيه إلا فرسان وأربعون بعيرا لأكثر من ثلاثمائة مجاهد، فكانوا يعتقبون البعير، يتبادله أكثر من أربعة، والنبى صلى الله تعالى عليه وسلم يعتقب معهم، حتى إذا كان سيره أرادوا إعفاء النبى صلى الله عليه وسلم، فقال عليه الصلاة والسلام: لست أقل منكم قوة، ولا أقل منكم طلبا للأجر.
وجيش الشر كان خمسين وتسعمائة كما ذكرنا، وكان معهم سبعون فرسا، وكان معهم العدد الكثير الذى يركبونه والذى يذبحونه في مأكلهم، ولكنه تنقصه العزيمة والإيمان، بل الرغبة القاطعة في القتال، فالتردد فيه قد كان من كثيرين منهم، ومنهم من تورط في القتال، ولم يكن له فيه إرادة.
(أ) إنهم خرجوا من أجل حماية عيرهم، ودفعتهم الرغبة في حماية حماها. إلى أن يتقدموا على الصعب والذلول لحمايتها. وإنهم إن لم يفعلوا فقدوا المال ومعه النعمة، ونالتهم المهانة في العرب، وقد أرسل إليهم أبو سفيان يذكر لهم أنه نجا بالعير، وقال: «إنما خرجتم لتمنعوا عيركم ورجالكم وأموالكم، فقد نجاها الله فارجعوا» .
وإذا زال السبب فليس لهم ما يبعث حميتهم لقتال، ولكن الحقد الدفين، والحسد لبنى هاشم حرك أبا جهل، فدفعهم إلى المضى في القتال حقدا وحسدا، واندفع معه من هو على شاكلته.
(ب) وجاء بنو زهرة فتخلفوا جميعا لهذا السبب، وقال قائلهم، لا حاجة لكم بأن تخرجوا في غير ضيعة، ورموا أبا جهل بالحمق والجهل.
(ج) إن بعض القرشيين الأقوياء الذين لهم مكانة في قومهم ترددوا في الخروج كأمية بن خلف، فإنه امتنع عن الخروج، جاء في سيرة ابن إسحاق أن أمية بن خلف، كان قد أجمع القعود، وكان شيخا جليلا جسيما فأتاه عقبة بن أبى معيط وهو جالس في المسجد بين ظهرانى قومه بمجمرة يحملها نارا ومجمرا (أى بخورا) حتى وضعها بين يديه. ثم قال: يا أبا على استجمر فإنما أنت من النساء.
قال أمية: قبحك الله، وقبح ما جئت به- وتجهز ذلك الرجل ذو المكانة من غير حماسة، ولكن خشية الملامة، وأبو لهب الذى كان يخذل الوفود العربية في الحج عن متابعة النبى صلى الله تعالى عليه وسلم، امتنع عن أن يذهب إلى القتال بنفسه وأناب عنه العاصى بن هشام بن المغيرة في نظير تركه دينا له كان قد أفلس به، فجعله في نظير خروجه.
ولم يذهب طالب بن أبى طالب، لأنه كما قال بعض القرشيين: كان هوى بنى هاشم مع محمد الهاشمى صلى الله تعالى عليه وسلم.
وكان خروج العباس، وهو الهاشمى الأوّل غريبا لأنه كان يذهب مع النبى صلى الله تعالى عليه وسلم عند لقائه مع الأوس والخزرج في العقبة الثانية، ويطمئن على حمايتهم للنبى صلى الله تعالى عليه وسلم، ويبين لهم أنه في منعة من قومه، وأنهم إن لم يمنعوه، فليتركوه في حماية قومه، فما كان ليخرج ويقاتل جيش ابن أخيه. وهو يريد هزيمته، بل خرج ليدرأ عن نفسه ملامة قريش الذى يعد من كبرائها، وليكون له دائما السلطان فيهم، ولا يكون فردا ما بينهم.
وإنا نحسب أن أبا سفيان نفسه لم يكن مؤمنا بضرورة هذه الحرب بدليل رسالته التى أرسلها إلى قريش.
(د) وإن قريشا في جملتها خافت من الحرب، ذلك أنهم بعد أن فرغوا من جهازهم وأجمعوا المسير، ذكروا ما كان بينهم وبين بنى بكر بن عبد مناة بن كنانة من الحرب، فخشوا أن يأتوهم من ورائهم، وقال قائلهم إنا نخشى أن يأتونا من خلفنا. ونراهم قد فزعوا من الحرب، وظنوا أن ما وراءهم من عورات أكثر مما يستقبلهم من حروب، فما كانوا مؤمنين بالحرب، ولا معتزمين لها إلا ما كان ممن أعماهم الحقد والجهل والحسد- وهم أيضا كانوا يرهبون المؤمنين، ويخافونهم، وكان من بعضهم عند ما التقى الجمعان أو أوشكا على اللقاء في وقت يثبط عن القتال، وقد صار قاب قوسين أو أدنى، ولعله كان يثبط لحقن الدماء، وقد بدا من كلامه ما يدل على أنه يريد الرحم لا الحرب مع الاختلاف في العقيدة.
روى ابن إسحاق بسنده، أنه لما اطمأن القوم (أى المشركون) بعثوا عمير بن وهب الجمحى فقالوا: أحزروا لنا أصحاب محمد. فاستجال بفرسه حول العسكر، ثم رجع إليهم، فقال: ثلاثمائة رجل يزيدون قليلا، أو ينقصون، ولكن أمهلونى حتى أنظر للقوم كمينا أو مددا فضرب في الوادى حتى أبعد، فلم ير شيئا، فقال: ما وجدت شيئا- ولكنه بين رهبة الموقف وأن العبرة ليست بالعدد، ولكن بقوة النفس وإرادة الموت، فقال مخاطبا الجيش، وهو على أهبة القتال:
«يا معشر قريش، البلايا تحمل المنايا، نواضح «1» يثرب تحمل الموت الناقع، قوم ليس لهم منعة ولا ملجأ إلا سيوفهم، والله ما أرى أن يقتل رجل منهم حتى يقتل رجل منكم، فإن أصابوا منكم أعدادهم فما خير العيش بعد ذلك، فروا رأيكم» .
سمع حكيم بن حزام ذلك القول، ومشى في الناس، فذهب إلى عتبة بن ربيعة فقال له: يا أبا الوليد إنك كبير قريش وسيدها والمطاع فيها، هل إلى أمر لا تزال تذكر فيها بخير إلى آخر الدهر، قال:
وما ذاك يا حكيم، قال: ترجع بالناس، وتحمل أمر حليفك عمرو بن الحضرمى (أى الذى قتل في سرية عبد الله بن جحش) قال: قد فعلت أنت على بذلك. إنما هو حليفى، فعلى عقله.
بعد ذلك مباشرة قام عتبة بن ربيعة خطيبا، وقال:
يا معشر قريش، إنكم والله ما تصنعون بأن تلقوا محمدا وأصحابه شيئا، والله لئن أصبتموه لا يزال الرجل ينظر في وجه أخيه يكره النظر إليه، قتل ابن عمه أو ابن خاله أو رجلا من عشيرته، فارجعوا وخلوا بين محمد وبين سائر العرب، فإن أصابوه فذلك الذى أردتم، وإن كان غير ذلك ألقاكم، ولم تتعرضوا منه ما يريدون.
تسامع الجيش بذلك، ولكن كان أبو جهل حامل الحطب يريدها ويدفعه الحسد، فحرض عامر ابن الحضرمى أخا عمرو الذى قتله أصحاب النبى صلى الله تعالى عليه وسلم على المناداة بثأره فصرخ واعمراه. فحميت النفوس واشتد الناس واجتمعوا على ما هم عليه من الشر.
وننتهى من هذا إلى أن إرادة الحرب كانت ضعيفة مترددة عند قريش وفي جيشها، إذ زال باعثها وداعيها وتردد ذوو الرأى فيهم، ومنهم من تنادى بالرحم ومنهم من أفزعه حال أصحاب محمد صلى الله تعالى عليه وسلم وإرادتهم الموت في سبيل الله سبحانه وتعالى.
فكانت إرادة القتال غير ثابتة، وقوة الجيش تبتديء بالعزمة والإرادة، وما كان من بعضهم إلا انفعالة الحقد، وهى إن أجدت في الابتداء والتحريض لا تستمر عند اللقاء، وعند ما تعض الحرب بنابها، هذه حال جيش الباطل يبدو التخاذل في صفوفه، ووراء التخاذل والتردد الهزيمة لا محالة.
وإنا نقول إن رحمة الله سبحانه وتعالى بأهل الإيمان أن جعل جيش الباطل يحمل في نفسه ذرائع انهزامه، وعوامل خذلانه.
__________
(1) النواضح: الإبل التى يستقى بها الماء، أو تحمله.
379- ولننتقل إلى الجانب الفاضل. وهو جيش محمد صلى الله تعالى عليه وسلم فقد أجمع القتال، ولم يكن الباعث عليه ما لا يبتغونه، ولا عرضا من أعراض الدنيا يريدونه، ولكنه عدو الله قد جاء إليهم، فلا بد لهم من أن يخوضوا استجابة لله سبحانه وتعالى ولرسوله صلى الله تعالى عليه وسلم، وإن لهم إحدى الحسنيين، إما الغنم وإما الشهادة وكلاهما غنيمة في ذات نفسه.
عند ما رأى المشركون المؤمنين بعين المتحسس منهم هالهم حالهم فاسترهبوهم، وهم القلة الذين بلغوا نحو ثلاثمائة وازدادوا تسعة، وقال ابن كثير: إنهم كانوا ثلاثة عشر وثلاثمائة عدا.
وعلى ذلك أرى الله سبحانه وتعالى المؤمنين المشركين قلة يستهان بها، ولا تهولهم حالها، وقد رأى النبى صلى الله تعالى عليه وسلم ذلك بالرؤيا الصادقة، ورأوهم كذلك رأى العين، وقد قال الله سبحانه وتعالى في ذلك: إِذْ يُرِيكَهُمُ اللَّهُ فِي مَنامِكَ قَلِيلًا، وَلَوْ أَراكَهُمْ كَثِيراً لَفَشِلْتُمْ، وَلَتَنازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ، وَلكِنَّ اللَّهَ سَلَّمَ، إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ، وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلًا، وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْراً كانَ مَفْعُولًا، وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (الأنفال 43- 44) .
ونرى من هذا أن المشركين كانوا يهلعون من اللقاء، ويترددون ساعته إلا من ركبت الحماقة رؤوسهم، بينما المؤمنون في بشرى من الله سبحانه وتعالى، يستصغرون شأنهم، ويتقدمون غير راهبين، ولا يستنيثون إلا بالله، والله سبحانه وتعالى يلقى في نفوسهم الطمأنينة، والروحانية تظلهم والله سبحانه وتعالى يعينهم، ويمدهم في ذات أنفسهم بالملائكة وفي قلوبهم بالأمن والدعة، وهم ينامون مطمئنين واثقين بالنصر راجين ما عند الله سبحانه وتعالى ولا يستعينون إلا بذاته الكريمة، ولقد قال الله سبحانه وتعالى في حالهم، وهم مقبلون على المعركة:
إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ، فَاسْتَجابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ.
وَما جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ، وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ. إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعاسَ أَمَنَةً مِنْهُ وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّماءِ ماءً، لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ، وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطانِ، وَلِيَرْبِطَ عَلى قُلُوبِكُمْ، وَيُثَبِّتَ بِهِ الْأَقْدامَ. إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ، فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا، سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ، فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْناقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنانٍ. ذلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ، وَمَنْ يُشاقِقِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ (الأنفال: 9: 13) .
ثم يقول سبحانه: ذلِكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ مُوهِنُ كَيْدِ الْكافِرِينَ (الأنفال- 18) .
جيشان قد تلاقيا أحدهما كثير العدد، والعدة، ولكنه فاقد الإيمان، حتى بالحرب التى أقدم عليها، فقد أوهن الله سبحانه وتعالى كيده وتدبيره، أوهنه بإزالة الباعث على القتال، وأوهنه بالتردد في بعض كبرائهم، وأوهنه بانفصال بعض بطونهم، وأوهنهم بإثارة الأرحام التى قطعوها، وألقى الله سبحانه وتعالى في قلوبهم الرعب عند ما التقى الجمعان.
هذه حالهم، أما حال المؤمنين فإرادة مؤمنة مجمعة، وبشرى من الله سبحانه وتعالى بالملائكة وإيحاء إلى الملائكة بتثبيت المسلمين وإلقاء الطمأنينة في قلوبهم، حتى غشاهم النعاس أمنة، وأرسل لهم المطر خفيفا لتثبت الأرض تحت أقدامهم، واستبدلوا بطلب العير طلب العزة، فقد أرادوا المال ابتداء، ثم أرادوا إعلاء كلمة الله سبحانه وتعالى، كانوا يودون المال، وبعزة الله سبحانه وتعالى أرادوا القوة والعلياء، كما قال الله سبحانه وتعالى: وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّها لَكُمْ، وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ (الأنفال- 7) ، جيشان درع أحدهما بالعدد والعدة مع الوهن، والثانى درع بالعزيمة والإيمان والصبر، والرغبة في الشهادة، وإنها إحدى الحسنيين، فإما نالوها، وإما نالوا النصر، وفي كليهما الغنم الكثير.
فهل هما متكافئان؟ أقول إن أهل الخبرة في الحروب يقولون إنهما غير متكافئين، ذلك أن قواد الحروب في القرنين الحاضر والسابق قدروا أثر القوة الحربية المادية بالنسبة للقوة المعنوية بواحد إلى ثلاثة أى أن نتائج النصر أو الهزيمة يكون للقوة المادية فيها الربع. وللقوة المعنوية الروحية ثلاثة الأرباع، وإذا كان عدد المشركين ألفا فهو ألف، أما عدد المؤمنين في ميزان القوة فهو مائتان وألف على الأقل فوق تأييد الله سبحانه وتعالى بالملائكة إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا (الأنفال: 12) ، وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلكِنَّ اللَّهَ رَمى (الأنفال- 17) .
وإن تقدير النسبة بين قوة المادية إلى قوة الروح بواحد إلى ثلاثة هو تقدير أهل الخبرة، وهم يخطئون ويصيبون، أما تقدير الله سبحانه وتعالى فهو أعلى من ذلك إذ قدر الواحد من أهل الإيمان في حال القوة التى لا ضعف معها، بعشرة من أهل الكفر، فقال الله سبحانه وتعالى: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ، وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ. يا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتالِ، إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ، وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفاً مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا، بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ. الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ، وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً، فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ، وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ، وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ (الأنفال- 64، 65) .
ونرى من هذا النص أن القوة المعنوية عشرة أمثال القوة المادية إذا لم يكن في أوساط المؤمنين ضعاف الإيمان، الذين يخالطون المؤمنين الصادقين خصوصا عند ما كان في المسلمين منافقون. لا يريدون بأهل الإيمان إلا خبالا كما قال الله سبحانه وتعالى فيهم: لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ ما زادُوكُمْ إِلَّا خَبالًا وَلَأَوْضَعُوا خِلالَكُمْ، يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ، وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ، وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ.
لَقَدِ ابْتَغَوُا الْفِتْنَةَ مِنْ قَبْلُ وَقَلَّبُوا لَكَ الْأُمُورَ حَتَّى جاءَ الْحَقُّ وَظَهَرَ أَمْرُ اللَّهِ وَهُمْ كارِهُونَ.
هذا هو الضعف في الصفوف، وقد ظهر في غزوة أحد، والنبى صلى الله تعالى عليه وسلم يسوى الصفوف للقتال. كما قال الله سبحانه وتعالى: وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقاعِدَ لِلْقِتالِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ. إِذْ هَمَّتْ طائِفَتانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلا وَاللَّهُ وَلِيُّهُما وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ.
هذه هى النسبة في حال قوة الإيمان. وألا يخالط المؤمنين نفاق قط. وهى قوة الواحد بعشرة فإذا خالط المؤمنين منافقون مع مرضى القلوب كان هناك ضعف فيكون الواحد من المؤمنين يقابل اثنين من المنافقين، فالنسبة الكبرى في حال قوة الإيمان الخالص، والنسبة الثانية إذا كان مرضى القلوب في صفوف المؤمنين، فلا ناسخ ولا منسوخ. كما يقال إن الثانية نسخت الأولى.
,
380- ذهب رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم إلى بدر ليدرك العير، فلم يدركها، وأدركه النفير فلم يكن من القتال بد، وقد أقبلت قريش بخيلائها وفخرها، فتعرف النبى صلى الله تعالى عليه وسلم العدو، فقدره بين تسعمائة وألف، مما كانوا يعقرون من إبل، فقد قيل له، وقد سأل عن عددهم، فقال المسئول: إنهم كثير لا يحصون، فسأله عما ينحرون من إبل، فقال: يوم تسع، ويوم عشر. فقال: هم بين تسعمائة وألف، فكانوا خمسين وتسعمائة. وسأل عن أشراف رجالاتهم، فذكروا عتبة بن ربيعة وأخاه شيبة، وغيرهم من أشرافها، فقال عليه الصلاة والسلام لمن معه من جند المسلمين ليحثهم على القتال ويحرضهم: «هذه قريش قد ألقت إليكم أفلاذ أكبادها» .
وقد نزلوا من بدر بالعدوة القصوى، وهى كثيب من الرمل مرتفع، بعيد عن بدر، ونزل أهل الإيمان بالعدوة الدنيا من بدر، وهذا ما ذكره الله سبحانه وتعالى بقوله: وَما أَنْزَلْنا عَلى عَبْدِنا يَوْمَ الْفُرْقانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ. إِذْ أَنْتُمْ بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيا، وَهُمْ بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوى وَالرَّكْبُ أَسْفَلَ مِنْكُمْ، وَلَوْ تَواعَدْتُمْ لَاخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعادِ، وَلكِنْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْراً كانَ مَفْعُولًا. لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ، وَيَحْيى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ (الأنفال- 41، 42)
كان اختيار المكان بتوفيق الله سبحانه وتعالى، لا بإرادة أحد، ولو كان بإرادتهم وأمرهم لاختلفوا في المكان والزمان، ولكن الله سبحانه وتعالى دبر الميقات، فجعله في هذا الزمان، ودبر المكان فكان هذا المكان، وكان منزل المؤمنين دهسا رمالا يعوق السير، فأنزل الله سبحانه وتعالى مطرا خفيفا لبّد الأرض، وجعلها معبدة يسهل السير فيها، وأنزل أمامهم على قريش مطرا كثيرا عوق سيرهم.
روى النسائى عن مجاهد: أنزل الله سبحانه وتعالى عليهم المطر، فأطفأ الغبار، وتلبدت الأرض، وطابت به أنفسهم. جاء رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، بجيش الإيمان، فنزل على أقرب ماء من بدر، وعرض الأمر على الصحابة فجاء إليه الحباب بن منذر بن الجموح وقال:
يا رسول الله أرأيت هذا المنزل، أمنزلا أنزلكه الله تعالى، ليس لنا أن نتقدمه ولا نتأخره، أم هو الرأى والحرب والمكيدة؟
قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: بل هو الرأى والحرب والمكيدة.
قال: يا رسول الله هذا ليس بمنزل، فامض بالناس، حتى تأتى أدنى ماء من القوم، فتنزله ثم تغور «1» ما وراءه من القلب، ثم تبنى عليه حوضا فتملؤه ماء، ثم تقاتل القوم، فنشرب ولا يشربون.
اختار النبى صلى الله تعالى عليه وسلم، ذلك المنزل، وأخذ برأى الحباب بن المنذر كاملا، وبنى الحوض على البئر التى اختارها، وامتلأت ماء لأنه آل إليها كل ماء الآبار التى غورت، ورأى المشركون ذلك فأحسوا بأنها المكيدة التى تحرمهم من الماء.
وقد تواجهت الفئتان وتقابل الفريقان، وحضر الخصمان، واستغاث برب العالمين سيد الأنبياء.
وقد ابتدأت المناوشات بأن رجلا شرسا من بنى مخزوم أحس بمكيدة الماء، وظن أنه يستطيع أن يهدم على المؤمنين الحوض الذى بنوه، فقال: لأشربن من حوضهم، أو لأهدمنه، أو لأموتن دونه «2» ، فخرج إليه وانقض حمزة بن عبد المطلب أسد الله فانقض عليه، فلما التقيا قطع حمزة بسيفه رجله إلى نصف ساقه، ولكنه لحرصه على أن ينفذ ما أقسم عليه حبا إلى الحوض، فضربه حمزة حتى قتله.
كان رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم في الجيش كسائر جنده، ولكنه رأى أن يكون في مكان مرتفع ليشرف على حركة جنده، فاتخذ له عريشا على مرتفع من الأرض، ويروى أن سعد بن معاذ هو الذى أشار به على رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم. يروى ابن إسحاق بسنده أن سعد بن
__________
(1) رويت في هذه الكلمة بحرف الغين، المعجمة، ومعناها تغوير ما حولها ليذهب ماؤها، ورويت بالعين ومعنى تعويرها إفسادها بما يشبه ردمها فينحصر الماء في القليب المختار.
(2) هو الأسود بين عبد الأسد المخزومى.
معاذ قال: يا نبى الله، ألا نبنى لك عريشا تكون فيه ونعد عندك ركائبك، ثم نلقى عدونا، فإن أعزنا الله تعالى وأظهرنا على عدونا ذلك ما أحببنا، وإن كانت الآخرى جلست على ركائبك، فلحقت بمن وراءنا، فقد تخلف عنك أقوام يا رسول الله، ما نحن بأشد حبا لك منهم، ولو ظنوا أنك تلقى حربا، ما تخلفوا عنك، يمنعك الله بهم، يناصحونك ويجاهدون معك، فأثنى عليه رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ودعا له بخير.
بنى له عليه الصلاة والسلام العريش، وكان فيه فائدة، وهو الرقابة على حركة الجند وعمله، وليكون مع الجند كله ببصره، لا مع فريق منه، فهو يراقبهم، ويعرف أعمالهم.
ولا شك أن النبى صلى الله تعالى عليه وسلم كان بوجدانه وشعور العطف والرحمة بجيشه يغلب عليه الإشفاق، فعندما رأى جيش قريش ضرع إلى ربه داعيا قائلا:
«اللهم هذه قريش قد أقبلت بخيلائها وفخرها، تحادك وتكذب رسولك، اللهم فنصرك الذى وعدتنى، اللهم أحنهم «1» الغداة» .
وكان أبو بكر مع رسول الله في العريش، ومعاذ بن جبل في نفر من الأنصار يطوفون حوله، والرسول صلى الله تعالى عليه وسلم دائم الدعاء والضراعة إلى ربه يقول فوق ما روينا ما رواه على بن أبى طالب رضى الله عنه: كان رسول الله يكثر الابتهال والتضرع والدعاء، ويقول فيما يدعو «اللهم إن تهلك هذه العصابة لا تعبد بعدها في الأرض» وجعل يهتف بربه عز وجل ويقول:
«اللهم أنجز لى ما وعدتنى، اللهم نصرك» ويرفع يديه إلى السماء حتى سقط الرداء عن منكبيه، وجعل أبو بكر يلتزمه من ورائه، ويسوى عليه رداءه، ويقول مشفقا عليه من كثرة الابتهال، يا رسول الله:
«بعض مناشدتك ربك، فإنه سينجز لك ما وعدك» . وهكذا كان القائد الرشيد الحكيم لمحبته لجيشه، ولكل رجل من رجاله، ولحرصه على الأمر الباعث على الجهاد، وهو حماية الوحدانية، والقضاء على الوثنية، كان يشتد في الابتهال إلى الله سبحانه وتعالى. وبجوار ذلك كان يجتهد في بث العزيمة على القتال في جيشه الحبيب إليه، فهو يلجأ إلى جنده ليأخذ الأهبة، ويعمل على النصر، ثم يضرع إلى ربه متوكلا عليه مستغيثا، لتجتمع له ولجيشه قوة العمل، وقوة الاعتماد على الله سبحانه وتعالى الذى لا يغير أمر إلا بأمره.
__________
(1) أحنهم: من الحين والهلاك.
ولقد أخذ صلى الله تعالى عليه وسلم يحرض على القتال استجابة لقول الله سبحانه وتعالى:
يا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتالِ (الأنفال: 65) فقال عليه الصلاة والسلام: والذى نفس محمد بيده، لا يقاتلهم اليوم رجل فيقتل صابرا محتسبا غير مدبر إلا دخل الجنة. هذا بعض تحريض رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم. وتحريض الله تعالى كان أقوى من ناحية التحذير فقد قال الله سبحانه وتعالى:
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفاً، فَلا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبارَ. وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفاً لِقِتالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلى فِئَةٍ، فَقَدْ باءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْواهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (الأنفال- 15، 16) .
وإذا كان تحريض النبى صلى الله تعالى عليه وسلم تبشيرا، فتحريض الله سبحانه وتعالى كان تحذيرا، فالأوّل بين عاقبة الخير إن أقدموا. وكلام الله سبحانه وتعالى يبين العاقبة السوء إذا فروا أو أحجموا.
,
381- كانت القيادة حكيمة، وكانت رحيمة، وكانت حازمة، وكانت قوية، فكان عليه الصلاة والسلام أسوة حسنة لقائد الحرب العادلة، كما هو أسوة حسنة للمؤمنين في عمله وخلقه وسننه وقد قال الله سبحانه وتعالى لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ (الأحزاب- 21) .
(أ) وأوّل مظاهر قيادته الحكيمة المرشدة، أنه كان وسط الجند في القتال، فلم يكن بعيدا عنهم، بل كان يشرف عليهم ويوجههم، ويشترك في شدائد الحرب، كما يشترك في ثمراتها، سواء أكانت حلوة أم كانت مرة.
روى عن على رضى الله تبارك وتعالى عنه أنه قال: «كنا إذا اشتد الخطب، وحمى الوطيس واحمرت الحدق اتقينا برسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، فما يكون أحد أقرب إلى العدو منه، ولقد رأيتنى يوم بدر، ونحن نلوذ برسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، وهو أقرب إلى العدو» ، فالنبى القائد كان في المعركة ولم يكن بمنأى عنها، بنى له أصحابه عريشا، ويظهر أنه لم يستقر فيه إلا بالقدر الذى أشرف به على الجيش، وحرك الجند، ليتبعوا نظامه.
ولقد رأينا من بعد قوادا مسلمين اتبعوا هديه، كصلاح الدين الأيوبى الذى كان يعيش في جيشه، وقطز الذى كان جنديا مع الجنود. فكان النصر.
وخالف طريقه ناس سموا أنفسهم قوادا كانوا يديرون دفة الحرب، وهم في قصور مشيدة، فكانت الهزيمة، وذهب جند الله بإهمالهم.
(ب) وثانى مظاهر قيادة النبى صلى الله تعالى عليه وسلم، المساواة بينه وبين جنده، فقد كان يشعر كل جندى أن النبى صلى الله تعالى عليه وسلم بجواره، ويتساوى معه في الحقوق والواجبات الجندية، وليس أدل على ذلك من أنه كان يتعاقب مع على بن أبى طالب ومرثد في جمل واحد، فلما جاءت نوبته في السير أرادا أن يعفياه، فرفض، وقال: لستم أقوى منى، ولا أنا أغنى عن الأجر منكم. وازن بين هذا، وبين جيوش المسلمين، وخصوصا المصريين في العصر الأخير، والأمور المفرقة التى تجعل فريقا يكتوى بنيران الحرب، والآخر ينعم بالخيرات، وينال الفخر إن كان انتصار، ولا شرف يناله الذين اكتووا بنارها، ولذلك كانت الهزيمة تتلوها أختها.
(ج) وثالث مظاهر القيادة النبوية، إشعار الجند بأنهم يعملون مختارين، ولا يعملون مسخرين، وأنهم يطلبون الثواب بحربهم، وأنهم إن انتصروا بهدى الله تعالى نالوا نصرا لأنفسهم، وللحق الذى يدافعون عنه. وإن قتلوا نالوا شرف الشهادة وجنة رضوان، وما بينهم وبين دخول الجنة إلا أن يقاتلوا ويقتلوا، فهم ينالون إحدى الحسنيين، فهم يقاتلون مختارين لله وللحق، ولأنفسهم، فهم في صفقة رابحة اختاروها ولم يسخروا لها، كما قال الله سبحانه وتعالى: إِنَّ اللَّهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ، يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ، وَعْداً عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ، وَمَنْ أَوْفى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ، فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بايَعْتُمْ بِهِ، وَذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (التوبة- 111) .
فالنبى صلى الله تعالى عليه وسلم أودع قلب كل مؤمن من الجند بأنه يقاتل مختارا لنفسه، لا لدنيا يصيبها، ولكن لله وللحق في ذات الحق، فلم يكن أى واحد من جند الله بهداية الإيمان، وقيادة النبى عليه الصلاة والسلام مسخرا أو مجندا، ولكن كان جنديا مختارا.
(د) ورابع الأمور التى لوحظت في قيادة النبى صلى الله تعالى عليه وسلم أنها كانت لينة مع حزمه وقوة تنظيمه، فقد كان رفيقا سهلا لينا في قيادته، لا سيطرة، ولكن قيادة رفيقة هادئة هادية مرشدة من غير إعنات ولا غلظة، فكانت القلوب مستجيبة، والأجسام لها تبع، فالتفوا حول القائد الحكيم، يفدونه، ويفدون معه الحق طوعا واختيارا، لا كرها واضطرارا، ولقد كان ذلك من رحمة النبوة، ولذلك قال الله سبحانه وتعالى في قيادة رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: «فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ، وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ، فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ، فَإِذا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ (آل عمران- 159) .
(هـ) والأمر الخامس الذى لوحظ في قيادة النبى صلى الله تعالى عليه وسلم حرصه على جنده، وإشفاقه عليهم، وإعظامه لأمر آحادهم وجماعتهم، كما ثبت في ضراعته لربه، وخوفه عليهم، فلم يكن الجند معه إلا الأحباب والأولياء، ودعاة الحق وهداته، وأنهم عصابة الله إن هلكوا لا يعبد الله في الأرض، فتتربى فيهم عزة، ويحسون بأنهم موضع المحبة.
وإذا أحسوا بذلك باعوا أنفسهم لله، فلم ينظر إليهم القائد الحكيم كما ينظر بعض قواد المسلمين اليوم، على أنهم أدوات للحرب، كالاتها.
(و) وسادس الأمور التى لوحظت في قيادة النبى صلى الله تعالى عليه وسلم إشراكهم معه فى تحمل التبعة بالشورى يقيمها فيهم، كأمر الله سبحانه وتعالى بقوله فيما تلونا «وشاورهم في الأمر» إن الشورى مع الجند، تجعل الجندى يحس بتحمل التبعة، وأنه ذو رأى في توجيهاته، وذلك يوجد فيه عزة الجندى المتحمل للتبعة وليس كالآلة المتحركة، وفوق ذلك يشارك في تدبير القتال، فيزداد قوة نفس، ومن قوة النفس تكون الإرادة الحازمة الراغبة غير المترددة.
بهذه القيادة الحكيمة اللينة الحازمة، الرقيقة الرحيمة، تربى جند الله تعالى. فكان النصر والغلب.
,
382- أول ما اتجه رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم في تنظيم جيشه جعله صفوفا متتالية أمام العدو، وذلك كقول الله سبحانه وتعالى: إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيانٌ مَرْصُوصٌ
(الصف- 4) . فهذا توجيه من الله تعالى في القيادة إلى أن يصف الجنود صفوفا، وإن النبى صلى الله تعالى عليه وسلم هو الذى يبين القرآن الكريم بعمله، وقوله، إن احتاج القرآن الكريم إلى بيان.
وأوّل معركة في الحرب النبوية كانت بدرا الكبرى، فطبق نظام الصف الذى يحبه الله سبحانه وتعالى.
روى ابن إسحاق بسنده أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم عدل صفوف أصحابه، وفي يده قدح يعدل به القوم، فمر بسواد بن غزية، وهو مستنتل «1» من الصف، فطعن عليه الصلاة والسلام فى بطنه بالقدح قائلا: استويا سواد، فقال: يا رسول الله أوجعتنى، وقد بعثك الله تعالى بالحق والعدل، فأقدنى «2» . فكشف رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم عن بطنه، وقال: استقد قال: فاعتنقه فقبل
__________
(1) مستنتل: معناها متقدم في الصف، وفي رواية مستنصل ومعناها خارج من الصف.
(2) أي مكني من القصاص.
بطنه!! فقال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: ما حملك على هذا يا سواد؟ قال: يا رسول الله، حضر ما ترى، فأردت أن يكون آخر العهد بك يمس جلدى جلدك، فدعا رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم له بخير.
وأصدر أمره إلى جيشه جيش الإيمان ألا يحمل على العدو إلا عند ما يصدر إليهم الأمر بذلك.
وأمرهم أن ينضحوهم، فلا يقاتلون مهاجمين حتى يصدر أمره عليه الصلاة والسلام، لكى يهجموا هجمة رجل واحد غير متفرقين، ولا مانع من أن يكون النبل، فرادى، ومع ذلك كانت أوامره ألا يسرفوا في النبل، بل يتخيرون من يرمونه، ليكون ذلك أنكى للعدو، وأبقى للعدة.
روى ابن إسحاق بسنده أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم أمر أصحابه ألا يحملوا حتى يأمرهم، وقال إن اكتنفكم القوم، فانضحوهم عنكم بالنبل.
وفي صحيح البخارى عن أبى أسيد قال لنا رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم يوم بدر إذا أكثبوكم فارموهم، واستبقوا نبلكم. وأمر رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم أن تقطع الأجراس من أعناق الإبل لئلا يشغل الناس بها.
وقد جعل شعار الصحابة في هذه الحرب العادلة «أحد أحد.. وشعار المهاجرين يابنى عبد الرحمن، وشعار الخزرج يا بنى عبد الله، وشعار الأوس يا بنى عبد الله» .
وكانت عدة المؤمنين كما ذكرنا (313) ثلاثة عشر وثلاثمائة، وكانت عدة المهاجرين نيفا وستين على رواية البخارى، وعند الإمام أحمد ستة وسبعين.
وقد أعطى النبى صلى الله تعالى عليه وسلم اللواء لمصعب بن عمير، وكان أبيض، وأعطى راية المهاجرين وكانت سوداء لعلى بن أبى طالب، وراية الأنصار وكانت سوداء أيضا لسعد بن معاذ، وروى أن راية الأنصار كانت مع الحباب بن المنذر.
وجعل رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم قيس بن أبى صعصعة معه.
هذا تنظيم رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، جعل على المهاجرين رجلا منهم، وهو من صناديد الإسلام، وجعل على الأنصار رجلا منهم، لا للتفريق بين المهاجر والأنصارى، ولكن ليأنس كل فريق بصاحبه، وليكون الجهاد الذى يراه الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم والناس، وفي ذلك فليتنافس المتنافسون.
,
385- كان الجيش الإسلامى يقتل ويأسر، لأنه في حال حرب، ولكن سعد بن معاذ الذى كان يحوط عريش رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، كان يكره الأسر، ولا يريد إلا القتل، وأن يثخن فيهم.
يقول ابن إسحاق: رأى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم في وجه سعد بن معاذ الكراهية لما يصنع الناس، فقال له رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: «والله لكأنك يا سعد تكره ما يصنع القوم!!» قال: «أجل يا رسول الله كانت أوّل واقعة أوقعها الله تعالى بأهل الشرك، فكان الإثخان في القتل بأهل الشرك أحب إلى من استبقاء أحد» .
ونرى من هذا أن القرآن الكريم نزل بموافقة سعد إذ قال الله سبحانه وتعالى: ما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ.
,
386- هذه المعركة اكتفينا في ذكرها بالإجمال لضيق وقتها، فلم تمكث إلا يوما واحدا من صبيحة الليلة السابعة عشرة من رمضان في السنة الثانية، وكان شهرا مباركا، وهو يوم بدر، وفيه آخر فتح بإزالة الأوثان وتطهير بيت الله الحرام.
وإذا كنا ذكرنا المعركة بإيجاز، لأنها في وقت قصير، فقد كانت نتائجها بعيدة الأثر في حياة المسلمين، ذلك أن زعماء الشرك الذين ما كان يرجى فيهم خير، قد قتلوا، ومنهم من كان يؤذى النبى عليه الصلاة والسلام والمؤمنين، ولا يألو في ذلك ولا يقصر، ومنهم أشد مشعليها، ومؤججيها.
وكان عدة من قتل من المشركين سبعين، وأسر منهم سبعون، وكان ممن أسر: النضر بن الحارث الذى كان شريك أبى جهل في إيذاء المسلمين والمبالغة في الأذى، وعقبة بن أبى معيط الذى كان يقف ضد كل داعية للسلام، حتى أشعلت الحرب، فوقف ضد ابنه، وعيره بأنه رضى أن يعيش كالنساء، والحرب قد قامت أسبابها، فقتل النضر على بن أبى طالب، وروى أنه هو أيضا الذى قتل الثانى.
وفي غب «1» المعركة كان النبى صلى الله تعالى عليه وسلم حريصا على أن يعرف مال أبى جهل الذى سمى فرعون هذه الأمة، فإذا أدال الله سبحانه وتعالى منه، فقد أدال من فرعون.
يروى ابن إسحاق أنه لما فرغ رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم من عدوه أمر بأبى جهل أن يلتمس في القتلى، وقد كان هو مقصودا في القتال، لأنه رأس الفتنة، ولقد أحيط بمن يدفعون عنه إن
__________
(1) غب: آخر.. وغب الشىء عاقبته وآخره.
أريد قتله، فكان معه عكرمة وبعض سفهاء القوم، وكان أوّل من لقيه بضربة معاذ بن عمرو بن الجموح أخو بنى مسلمة، فقال: رأيته كالحرجة (أى كالشجرة الكبيرة) وهم يقولون لا يخلص إليه أحد.
فضربته ضربة أطنت قدمه إلى نصف ساقه (أى قطعتها) وضربنى عكرمة على عاتقى فطرح يدى. لم يستطع معاذ الإجهاز عليه، حتى جاء معوذ بن عفراء، فأثبته، ولكن لم يقض عليه أيضا، وإن منعه الحركة حتى جاء عبد الله بن مسعود، وبه رمق فوضع رجله على عنقه، وكان قد آذاه، ثم قال له: أخزاك الله يا عدو الله، ثم حز رأسه، وذهب إلى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم.
انتهى أمر زعماء الشرك، والذين بقوا منهم كانوا أقل عداء وإيذاء وإن كان قتل ذويهم قد أرث قلوبهم بالأحقاد.
وإنه في هذه المعركة لم يستشهد من المؤمنين إلا أربعة عشر، أى نحو خمس من قتل من المشركين، وإذا أضيف المأسورون، يكون ما أصيب من المسلمين عشر ما أصيب من المشركين، ولقد كانت هذه المعركة شفاء لغيظ المؤمنين الذين أوذوا في الحق وأخرجوا من ديارهم كما قال الله سبحانه وتعالى: قاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ، وَيُخْزِهِمْ، وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ، وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ. وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ، وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلى مَنْ يَشاءُ (التوبة 14، 15) .
وإن الأمور الأربعة التى ذكرها الله سبحانه وتعالى قد كانت، فقد عذبهم الله سبحانه وتعالى بأيدى الذين عذبوهم، وأخزاهم الله بالهزيمة، وشفى الله قلوب المؤمنين، وأذهب غيظهم، وكانت المعركة سبيلا لأن يذهب غرور بعض الناس، ويفكروا من جديد في دعوة محمد صلى الله تعالى عليه وسلم، وهى دعوة الحق.
ويقول ابن كثير في تاريخه في قتل أبى جهل: «كان قتل أبى جهل على يد شاب من الأنصار، ثم بعد ذلك وقف عليه عبد الله بن مسعود وأمسك بلحيته، وصعد على صدره، حتى قال له: لقد رقيت مرتقى صعبا يا رويعى الغنم. ثم قعد هذا حز رأسه وحمله حتى وضعه بين يدى رسول الله عليه الصلاة والسلام، فشفى الله تعالى به قلوب المؤمنين، وكان هذا أبلغ من أن تأتيه صاعقة، أو أن يسقط عليه سقف منزل أو يموت حتف أنفه- والله أعلم.
وقد ذكر مؤرخو السيرة أنه فيمن خرج يوم بدر بعض المسلمين الذين شهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، ولكنهم بقوا في مكة المكرمة، وهم مؤمنون فخرجوا مع المشركين تقية، كما خرج بعض بنى هاشم وهواهم مع النبى صلى الله تعالى عليه وسلم، وإن لم يكونوا قد آمنوا من بعد.
ومن هذه الجماعة المسلمة الحارث بن زمعة بن الأسود، وأبو قيس بن الفاكه، وأبو قيس بن
الوليد بن المغيرة، وعلى بن أمية بن خلف، والعاص بن منبه بن الحجاج.
وقد قتل هؤلاء يوم بدر....
قال ابن إسحاق، وفي هؤلاء نزل قول الله سبحانه وتعالى إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ، قالُوا فِيمَ كُنْتُمْ، قالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ، قالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ واسِعَةً فَتُهاجِرُوا فِيها، فَأُولئِكَ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَساءَتْ مَصِيراً. إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجالِ وَالنِّساءِ وَالْوِلْدانِ لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا. فَأُولئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ، وَكانَ اللَّهُ عَفُوًّا غَفُوراً (النساء 97- 99) .
وسواء أصح أن تكون حال هؤلاء هى سبب النزول أم لم يصح، فإن الآية توجب على كل مؤمن يقيم في أرض الكفر أن يخرج مهاجرا إلى الله حيث يكون قوة للإسلام، ولا يتخذ قوة للكفر، وإن ثبت أن النزول كان لذلك السبب، فإن الآية عامة، وكما يقول علماء الأصول إذ العبرة بعموم اللفظ، لا بخصوص السبب.
,
387- قلنا إن حرب الإسلام هى حرب الفضيلة- لا يستباح فيها إلا الدماء، ولا تباح فيها المثلة تكريما للإنسان، ولا يترك فيها أشلاء الإنسان تنهشها الذئاب والغربان، بل إنها تدفن تكريما للإنسان، وذلك لقول الله سبحانه وتعالى: وَلَقَدْ كَرَّمْنا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْناهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ، وَرَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ، وَفَضَّلْناهُمْ عَلى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنا تَفْضِيلًا (الإسراء- 70) وإن النبى صلى الله تعالى عليه وسلم كرم الإنسان حيا وميتا، والقتل في الميدان عند الاعتداء، لا يتنافى مع تكريم الإنسان، لأنه العدل، والعدل فيه تكريم الإنسانية دائما، ففيه تكريم الإنسان الفاضل بأخذ الحق له، وتقويم الفاسد بأخذ العدل منه.
ومن هذا المبدأ السامى لم يترك النبى صلى الله تعالى عليه وسلم قتلى بدر من المشركين تنوش جثثهم سباع الحيوان، ولا تنقرها الغربان جيفا ملقاة في الأرض، كما فعلت جيوش في قتلاها أنفسهم، لا في قتلى أعدائهم فقط.
بل إن النبى صلى الله تعالى عليه وسلم قد جاء إلى حيث القتلى من قريش في هذه المعركة المباركة فدفنهم في القليب، وهو بئر جافة، وتقول عائشة فيما رواه عنها ابن إسحاق: «أمر رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم بالقليب فطرحوا فيه، إلا ما كان من أمية بن خلف، فإنه انتفخ في درعه،
فملأها، فذهبوا ليخرجوه فتزايل لحمه. فأقره، وألقوا عليه ما غيبه من التراب والحجارة.
وهكذا، فعل ليوارى سوآتهم، وليحمى أجسامهم من سباع البهائم، وسباع الطير.
قال ابن إسحاق: حدثنى بعض أهل العلم أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم قال مخاطبا جثث القتلى: «يا أهل القليب، بئس عشيرة كنتم لنبيكم، كذبتمونى، وصدقنى الناس، وأخرجتمونى، وآوانى الناس، وقاتلتمونى، ونصرنى الناس، هل وجدتم ما وعد ربكم حقا، فإنى قد وجدت ما وعدنى ربى حقا» .
ويروى أنه نادى طائفة من زعماء الشر فيهم، أو كبراءهم، فقد روى أنه كان يقول: «يا عتبة ابن ربيعة، ويا شيبة بن ربيعة، ويا أمية بن خلف، ويا أبا جهل بن هشام- فعدد من كان منهم بالقليب هل وجدتم ما وعدكم ربكم حقا، فإنى قد وجدت ما وعدنى ربى حقا» ويظهر أن الواقعة قد تعددت.
فقال الحاضرون: يا رسول الله، أتنادى قوما قد جيفوا، فقال صلى الله تعالى عليه وسلم: «ما أنتم بأسمع لما أقول منهم، ولكنهم لا يستطيعون أن يجيبوا» .
ومعنى أسمع: أعلم بحقيقة ما أقول، لأن السمع الحقيقى يحتاج إلى جارحة السمع، وقد فقدوها بالقتل، ولأن الله سبحانه وتعالى يقول: وَما أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ (فاطر- 22) وفي رواية عن النبى صلى الله تعالى عليه وسلم أنه قال: «لقد علموا ما أقول» .
والعبرة في هذه المسألة أن النبى صلى الله تعالى عليه وسلم قد عمل على كرامة الإنسان بمواراة سوآت هؤلاء، وليبين للأحياء المسلمين الاعتبار في هذه المعركة، وهو أن الله صدق وعده، ونصر عبده، وهزم عدو الله سبحانه وتعالى وعدوهم.
,
390- نزل القرآن الكريم من بعد القيام بما اتجهت إليه الشورى بالنسبة للأسرى ببيان الخطأ فى أن المسلمين أسروا قبل أن يثخنوا، وهو ما كان يميل إليه سعد بن معاذ الأنصارى رضى الله تبارك وتعالى عنه، ولقد ذكر الخبر كما رواه ابن إسحاق «أنه لما وضع القوم أيديهم يأسرون رأى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم في وجه سعد بن معاذ، فقال له: كأنى بك يا سعد تكره ما يصنع القوم. قال: أجل والله يا رسول الله كانت أوّل وقعة أوقعها الله تعالى بأهل الشرك، فكان الإثخان في القتل أحب إليّ من استبقاء الرجال» ولقد قال الله سبحانه وتعالى بعد إنهاء ما أشار إليه الشورى: ما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيا، وَاللَّهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ، وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ. لَوْلا كِتابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيما أَخَذْتُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ. فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلالًا طَيِّباً وَاتَّقُوا اللَّهَ، إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ. يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنَ الْأَسْرى، إِنْ يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْراً، يُؤْتِكُمْ خَيْراً مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ، وَيَغْفِرْ لَكُمْ، وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (الأنفال- 76: 70) .
إذن كان الخطأ، لا في أنهم فدوهم، ولا في أنهم منوا عليهم، ولكن في أنهم أخذوا الأسرى قبل الإثخان، أى قبل أن يثقلوهم بالجراح، حتى لا يستطيعوا أن يثيروا عليهم معركة أخرى، أو تكون صعبة عليهم لكثرة القتلى، ومن بعد ذلك يكون الأسر، ويكون المن أو الفداء، كما قال الله سبحانه وتعالى: فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقابِ، حَتَّى إِذا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثاقَ، فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ، وَإِمَّا فِداءً، حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزارَها (محمد- 4) .
ويجب أن نذكر هنا ثلاثة أمور:
أولها- فى معنى قول الله سبحانه وتعالى: لَوْلا كِتابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيما أَخَذْتُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ فإن الكتاب الذى قرره الله سبحانه وتعالى، هو أنه لا عقوبة إلا بنص على المنع، ولم يكن ثمة نص على منع أخذ الأسرى، قبل الإثخان، وإن ما فعله النبى صلى الله تعالى عليه وسلم اجتهاد، ولا عقوبة على الاجتهاد في الخطأ.
ثانيا- أن كثيرين ممن كتبوا في الماضى- وتبعهم أهل الحاضر- أن القرآن الكريم نزل موافقا لرأى الإمام الفاروق عمر بن الخطاب رضى الله تعالى عنه، فى الأسرى، ونحن نرى أن ما جاء به القرآن الكريم لا يوافق رأى الفاروق، لأن ما جاء به القرآن الكريم، إنما كان معارضة لأصل الأسر قبل الإثخان، ولم يعترض الفاروق على الأسر قبل الإثخان.
إنما الذى كره الأسر قبل الإثخان في القتل سعد بن معاذ رضى الله تبارك وتعالى عنه، فإذا كان ثمة فضل في نزول القرآن الكريم موافقا لما كره سعد، فله في هذا الفضل، يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ (آل عمران- 74) .
ثالثا- وهو الأمر الجدير بالاعتبار عند أهل الاعتبار، وهو أن الله سبحانه وتعالى وحده يعلم الغيب، ويعلم السر وأخفى، وهو سبحانه وتعالى يعلم أن أخذ الأسرى قبل إثخان العدو، خطأ، فلماذا ترك النبى- رسوله وحبيبه- ومعه صحابته يخطئون، وقد كان وحده هو الذى يعلم الصواب.
والجواب عن ذلك أن هذا فيه عظة وعبرة، ذلك أن النبى صلى الله تعالى عليه وسلم الذى يوحى إليه، والذى علمه ربه وأدبه فأحسن تأديبه، إذا ترك يتصرف باجتهاده فقد يخطئ، ولا ينزه عن الخطأ أحد ولو كان نبيا، إلا أن يعلمه الله سبحانه وتعالى، فهو وحده العليم الحكيم الذى يعلم المستقبل كالحاضر والماضى، وفي ذلك توجيه للذين يستبدون، وبيان أنهم يخطئون، وليس لهم أن يدفعهم الغرور، فيحسبوا أن آراءهم منزهة عن الخطأ فيتردون بأممهم في أفسد النتائج.
إن ترك محمد صلى الله تعالى عليه وسلم، وهو الذى يوحى إليه، ثم هو في ذاته أعقل الرجال، إذ كانوا قبل البعثة يهتدون برأيه- يخطيء في رأيه، ثم ينبه إلى الصواب، فيه عبرتان لأولى الأبصار: -.
أولهما- لأنه لا يصح لأحد أن يغتر برأيه، فيحسبه الصواب الذى لا يقبل الخطأ، ويعتقد فى نفسه العلم، وفي غيره الجهل.
الثانية- أنه ليس لأحد أن يستبد في تفكيره الذى يعمل فيه للجماعة، فلا يقول ما قاله فرعون.
ما أُرِيكُمْ إِلَّا ما أَرى، وَما أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشادِ (غافر- 29) .
فعلينا معشر المؤمنين أن نتأدب بأدب الله سبحانه وتعالى، وهو ألا ندلى أنفسنا وجماعتنا بالغرور، فتكون السوءى، فى حاضر الأمة ومستقبلها، وعلينا أن يكون لنا في رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم أسوة حسنة، ولا يكون لنا من فرعون، متبوع يتبع، فالحق أحق أن يتبع.
ولقد رأينا في عصرنا إخوان فرعون يطلبون أن يتلى ما يكتب لهم كأنه تنزيل من التنزيل وقد بوؤا بهذا الغرور عنهم، والخنوع من غيرهم- أمتهم سوء الدار، وبئس القرار، ولا حول ولا قوة إلا بالله، إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى لِمَنْ كانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ (37- ق) .
,
391- كان المشركون يحاربون في غير ديارهم وأرضهم، وكان المؤمنون كذلك، ولكن كانوا على مقربة من ديارهم، وكانت الهزيمة قد نزلت بالمشركين، فكانوا شبه فارين بعد المعركة لا يلوون على شيء إلا ما يمكنهم من أن يعودوا إلى ديارهم راضين بإياب بعضهم سالمين.
فكان لا بد أن يغنم المسلمون منهم غنائم، وكانت هذه الغنائم أوّل ما غنمه المسلمون في الحروب، لأنها كانت أوّل حرب كان الاتجاه فيها إلى المنازلة، وأخذ الغنم نتيجة لهذه المنازلة، ولم تكن عيرا مصادرة بل كانت حربا شعواء.
ولذلك اختلف المقاتلون في الأنفال، وهى الغنائم التى تكون قبل القسمة، ولم يكونوا على علم بقسمتها، والمقسطون منهم سألوا عما يفعلون بشأنها، وبعض القاسطين ظنوها لمن أخذها.
وذلك أن المجاهدين كانوا ثلاثة أقسام: قسم واجه العدو كعلى، وحمزة، وغيرهم، وقسم كان من ورائهم، وأولئك جمعوا الغنائم، وقسم حاط العريش الذى كان به الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم.
ويقول في ذلك عبادة بن الصامت وهو من البدريين، «خرجنا مع النبى صلى الله تعالى عليه وسلم، فشهدت معه بدرا، فالتقى الناس، فهزم الله تعالى العدو، فانطلقت طائفة وراءهم يهزمون ويقتلون، وأكبت طائفة على المغنم يحوزونه ويجمعونه، وأحدقت طائفة برسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم حتى لا يصيب أحد منه غرة، حتى إذا كان الليل، وفاء الناس بعضهم إلى بعض، قال الذين جمعوا الغنائم: نحن حويناه وليس لأحد فيها نصيب.
وقال الذين خرجوا في طلب العدو: لستم بأحق بها منا، فنحن نفينا منها العدو، وهزمناهم.
وقال الذين أحدقوا برسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: خفنا أن يصيب العدو منه غرة، فاشتغلنا به. كان هذا الخلاف، وكان معه تساؤل: لمن تكون الغنائم؟ فنزل قول الله سبحانه وتعالى:
يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفالِ قُلِ الْأَنْفالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ، فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذاتَ بَيْنِكُمْ، وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ، إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (الأنفال- 1) .
كانت هذه المناقشة في الغنائم قبل أن ترفع إلى النبى صلى الله تعالى عليه وسلم، فذكر الله سبحانه وتعالى ما يحسم الخلاف، ويقطع مادة النزاع، وهو أن يكون أمرها إلى الله تعالى، وما يحكم به سبحانه وتعالى وإلى الرسول عليه الصلاة والسلام الذى ينفذ حكم الله سبحانه وتعالى، فليس لهم أن يقتسموا
بأنفسهم، بل الأمر لغيرهم فليصلحوا ذات بينهم، ولا يصح أن تكون المادة مفرقة بينهم، وقد جمعهم الحق وجمعهم الجهاد في سبيله..
وما الذى اتبعه النبى صلى الله تعالى عليه وسلم في قسمة الأنفال، فقال بعض الرواة إنه قسمها بين المجاهدين بالسوية، إذ لم يكن حكم تخميس الغنائم قد نزل في قول الله سبحانه وتعالى:
وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ، وَلِلرَّسُولِ، وَلِذِي الْقُرْبى، وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ، وَابْنِ السَّبِيلِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ وَما أَنْزَلْنا عَلى عَبْدِنا يَوْمَ الْفُرْقانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ، وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (الأنفال- 41) .
فالنبى عليه الصلاة والسلام على رواية هؤلاء وزع بالسوية بين كل المجاهدين، لأنه لم يكن ما يوجب التفاوت، ولا دليل يرجح طائفة على أخرى.
ويرى ابن كثير أن التوزيع كان حسب التخميس الذى نص عليه قول الله سبحانه وتعالى:
وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ الآية، لأنها متصلة الواقعة، فالأمر في التوزيع كان إلى الله سبحانه وتعالى، وإلى رسوله عليه الصلاة والسلام على حسب هذا الحكم الذى شرعه الله تعالى، فاية الغنائم متصلة بأول السورة التى أشارت إلى التوزيع، وفوق ذلك فإن الآية تشير إلى أن ذلك ما أنزله الله سبحانه وتعالى يوم التقى الجمعان يوم الفرقان.
ولقد روى أن عليا ذكر أن الناقتين اللتين نحرهما عمه حمزة، وهو شارب كانتا من خمسه في الغنائم، ونحن نميل إلى ما اختاره الحافظ ابن كثير.
,
392- كان أثر المعركة في العرب عامة بعيد المدى، فقد سارت الركبان في الصحراء العربية بهزيمة قريش على يد طريدها الذى أخرجته وأصحابه من ديارهم وأموالهم، لأنه ينكر الوثنية، ويدعو إلى الوحدانية ويقول إنه يوحى إليه من عند الله سبحانه وتعالى، فكان ذلك النصر منبها للعرب بحقيقة الدعوة المحمدية وسلامتها وقوتها، فوهنت العقيدة الوثنية بين العرب، وأخذت عقول تدرك الحقائق وتطرح الأوهام التى نسجها الخيال الضال حول الأحجار، وبذلك صارت كلمة الله سبحانه وتعالى هى العليا، وكلمة الشرك هى السفلى، وكان يوم الغزوة بحق يوم الفرقان، إذ فرق فيه الناس وانتقل المسلمون من مستضعفين في الأرض إلى أقوياء يكاثرون الناس بقوتهم، كما قال الله سبحانه وتعالى:
وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الْأَرْضِ تَخافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ، فَآواكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ، وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (الأنفال- 26) .
هذه إشارة إلى أثر ذلك النصر المبين في البلاد العربية، لقد نظر إليه العرب على أن الإسلام هو القوة الحقيقية في البلاد العربية، وكان من ذلك أن أخذ الناس يفكرون.
هذا أثره بشكل عام في الجزيرة العربية، أما أثره في المدينة المنورة وما حولها، فقد صار القوة المرهوبة فيها، وكان فيها أخلاط من الوثنيين الذين بقوا على وثنيتهم من الأوس والخزرج، وكانوا يظهرون عقائدهم ولا يخفونها، وكان فيهم يهود، قد أكل الحقد قلوبهم وإن أخفوه، وإن كانوا يعرفون في لحن القول وفي استهزائهم بالمؤمنين أحيانا.
فلما ظهرت قوة المسلمين في بدر، وجد في الفريقين منافقون يظهرون الإسلام بألسنتهم، ويخفون الكفر، ويقولون ما لا يفعلون، وينطقون بما لا يعتقدون، ولقد نزلت فيهم سورة كاملة، وأولها قوله الله سبحانه وتعالى: إِذا جاءَكَ الْمُنافِقُونَ قالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ، وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ، وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنافِقِينَ لَكاذِبُونَ. اتَّخَذُوا أَيْمانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ، إِنَّهُمْ ساءَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ. ذلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا، فَطُبِعَ عَلى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ (المنافقون- 1: 3) .
فالقوة الإسلامية التى ظهرت في بدر، هى التى جعلت هؤلاء من المشركين واليهود، يتخذون مظهرهم الإسلامى جنة يتقون بها قوة أهل الإسلام ويشيعون الخبال في صفوف المسلمين، ويخدعون الذين في قلوبهم ضعف.
إن قوة المسلمين جعلت من لا يؤمن بالله سبحانه وتعالى ورسوله عليه الصلاة والسلام يخضع ببدنه ولا يؤمن بقلبه.
كان ذلك في السنة الثانية التى كانت فيها غزوة بدر. قال ابن كثير «وفيها خضع المشركون من أهل المدينة المنورة واليهود الذين هم بها من بنى قينقاع، وبنى النضير، وبنى قريظة، ويهود بنى حارثة، وصانعوا المسلمين، وأظهر الإسلام طائفة كثيرة من المشركين واليهود، وهم في الباطن منافقون، منهم من هو على ما كان عليه، ومنهم من انحل بالكلية فبقى مذبذبا، لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء، كما وصفهم الله تعالى في كتابه» .
وهو بهذا يشير إلى قول الله سبحانه وتعالى: إِنَّ الْمُنافِقِينَ يُخادِعُونَ اللَّهَ، وَهُوَ خادِعُهُمْ، وَإِذا قامُوا إِلَى الصَّلاةِ قامُوا كُسالى، يُراؤُنَ النَّاسَ، وَلا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا. مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذلِكَ، لا إِلى هؤُلاءِ وَلا إِلى هؤُلاءِ، وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا
(النساء- 112: 143) .
وإنه يتبين من هذا الكلام أنه بعد أن أظهر الله سبحانه وتعالى قوة المسلمين وأعلى كلمة الدين، صار الذين يخالفونه، ويعاشرون المؤمنين بالجوار على ثلاثة أقسام:
أولهم الذين نطقوا بكلمة الإسلام والكفر يسكن قلوبهم، ويستولى عليها وهؤلاء هم الذين قال الله سبحانه وتعالى فيهم وَإِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قالُوا آمَنَّا، وَإِذا خَلَوْا إِلى شَياطِينِهِمْ قالُوا إِنَّا مَعَكُمْ، إِنَّما نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُنَ. اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ، وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ (البقرة- 14، 15) فهؤلاء بقوا على كفرهم، وأمد الله تعالى في طغيانهم، لأن مظهرهم كان غير مخبرهم، وقد استمرؤا ذلك حتى زادوا عتوا وفسادا.
والقسم الثانى قوم ضعفت نفوسهم، وانحل تفكيرهم، فهم منافقون، فى إظهارهم الإسلام، ولا عقيدة لهم يؤمنون بها، وإن كانوا إلى عقيدتهم الأولى أميل، ولكن قد انحلت بالتعارض، بين ما يظهرون وما يبطنون، فقد خدعوا المؤمنين وأوغلوا في الخديعة، حتى خدعوا أنفسهم، وهم الذين قال الله سبحانه وتعالى فيهم: مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذلِكَ، لا إِلى هؤُلاءِ وَلا إِلى هؤُلاءِ، وقد وصف النبى صلى الله تعالى عليه وسلم هذا النوع من المنافقين بقوله عليه الصلاة والسلام: «مثل المنافق كمثل الشاة العائرة بين غنمين لا تدرى إلى أيهما تذهب» .
والقسم الثالث وهم أكثر اليهود الذين ثبتوا على دينهم من بنى قينقاع، وبنى النضير، وبنى قريظة وبنى الحارث، وأولئك ثبت أكثرهم على اعتقادهم وجاهدوا بالبقاء عليه، والاعتراض الدينى على النبى صلى الله تعالى عليه وسلم، ولكنهم نافقوا في أنهم لم يخلصوا في العهد الذين عاهدهم عليه النبى صلى الله تعالى عليه وسلم، بل يخفون الخيانة، ويتربصون بالمسلمين الدوائر، ويكاتبون أعداء النبى صلى الله تعالى عليه وسلم، ويحرضونهم عليه، ويسرفون على أنفسهم، فينافقون المشركين، ويقولون إن ما هم عليه من شرك خير مما يدعو إليه النبى من توحيد.
وفي الجملة ظهر النفاق بعد النصر المحمدى من أعداء هذا الدين.
ولنخص اليهود، ومن والاهم بكلمة موجزة موضحة:
,
394- يقول ابن إسحاق: اجتمع يوما بالمسجد من المنافقين أناس فرآهم رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم يتحدثون بينهم خافضى صوتهم، قد لصق بعضهم ببعض، فأمر بهم رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، فأخرجوا من المسجد إخراجا عنيفا.
فكان المؤمن يأخذ برجل المنافق، فيسحبه سحبا، وأحيانا يجذب المؤمن المنافق، وينتره نترا شديدا ويلطم وجهه وهو يشيعه باللعنات قائلا له: «أف لك منافقا خبيثا، اخرج يا منافق من مسجد رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم» .
وأحيانا يجيء المؤمن إلى ذى اللحية الطويلة منهم، فيأخذ بلحيته، ويقوده منها قودا عنيفا، حتى يخرجه من المسجد، وأحيانا يأخذ المؤمن بجمة المنافق ذى الجمة «فيسحبه منها سحبا عنيفا» .
وذلك العنف في الفعل يصحبه عنف في القول، ومن مثل «لا تقربن مسجد رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، فإنك نجس، وقول بعضهم غلب عليك الشيطان وأمره» .
وذلك غير الذين كانوا يدفعون من أقفيتهم.
وكانوا هم والذين بقوا على يهوديتهم من يهود أشد الناس أذى للنبى عليه الصلاة والسلام وأصحابه، فالمنافقون كانوا يبثون في المسلمين روح التردد والهزيمة، وفي المسلمين سماعون لهم، كما قال الله سبحانه وتعالي: وَلَوْ أَرادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً، وَلكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعاثَهُمْ، فَثَبَّطَهُمْ، وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقاعِدِينَ. لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ ما زادُوكُمْ إِلَّا خَبالًا، وَلَأَوْضَعُوا خِلالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ، وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ. لَقَدِ ابْتَغَوُا الْفِتْنَةَ مِنْ قَبْلُ، وَقَلَّبُوا لَكَ الْأُمُورَ، حَتَّى جاءَ الْحَقُّ وَظَهَرَ أَمْرُ اللَّهِ، وَهُمْ كارِهُونَ (التوبة- 46: 48) .
واليهود من وراء المنافقين يتعاونون معهم، ويكيدون معهم، ويمكرون، ويمكر الله سبحانه وتعالى بإفساد تدبيرهم، وكان اليهود يلقون الشك في قلوب المؤمنين يظهرون الإيمان، ثم يعلنون الردة ليشجعوا المسلمين على الردة وليكونوا لهم مثلا لمن يخرج من الإسلام بعد الدخول فيه، وهؤلاء الذين قال الله سبحانه وتعالى فيهم: وَقالَتْ طائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهارِ، وَاكْفُرُوا آخِرَهُ، لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ. وَلا تُؤْمِنُوا إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ، قُلْ إِنَّ الْهُدى هُدَى اللَّهِ، أَنْ يُؤْتى أَحَدٌ مِثْلَ ما أُوتِيتُمْ، أَوْ يُحاجُّوكُمْ عِنْدَ رَبِّكُمْ، قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ، وَاللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ (آل عمران- 72، 73) .
وهكذا كان الإفساد اليهودى، ينافقون، ويدعون الوثنيين إلى النفاق، ويبثون بنفاقهم روح الفرقة بين المسلمين، ويستهزئون ويسخرون من أهل الإيمان، ويجعلون من أنفسهم مثلا لمن يخرج عن الإسلام، كما عبر القرآن الكريم عنهم.
,
395- كانت الحرب بين الأوس والخزرج قائمة بين الفريقين، حتى جمع الله سبحانه وتعالى بينهما بالإسلام، وألف بين قلوبهم، فكانت القوة، ولكن اليهود كانوا يعلمون بأنباء العداوة السابقة، فكانوا يبثون فيهم ما يحيى نار العداوة بعد موتها، ويثيرون نارها بعد إطفائها، وفي كل فريق من يسمع لضعف في إيمانه، أو لبقايا العصبية، أو لترات بقيت بعد الحرب.
لقد كان رجل من شيوخ اليهود، وذوى الضغن والحسد اسمه شماس بن قيس، قد هاله أمر محمد صلى الله تعالى عليه وسلم، وما أكرمه الله سبحانه وتعالى به من نصر في بدر، وهاله أن الأوس والخزرج اجتمعوا، وكانوا يعيشون على الفرقة بينهم، فيوالون فريقا على فريق، ويتخذون ممن يوالونهم قوة يثبتون بها أقدامهم، فلما رأوا اجتماعهم بالإسلام، فقال شماس: هكذا اجتمع بنو قيلة بهذه البلاد والله ما لنا معهم إذا اجتمع ملؤهم من قرار.
قدر ذلك الشيخ الخبيث ودبر، فوجد أن يثير الخلاف القديم جذعا، فأثار ما كان يوم بعاث، وهو الذى كان بين الأوس والخزرج، وانتصر فيه الأوس، وكانت بيعة العقبة الأولى، ثم الثانية.
أثار الأمر في هذا اليوم بين الأنصار رضى الله تبارك وتعالى عنهم، وفيهم ضعاف العقول يستطارون فتكلم هؤلاء وتنازعوا، وتفاخروا، واشتدت المجاوبة فتواثب رجلان من الحيين، واحد من الأوس والآخر من الخزرج، وقال أحدهما لصاحبه: إن شئتم رددناها الآن جذعة، فغضب الحاضرون من الفريقين، واتفقوا على مكان يكون فيه اللقاء، وقالوا: موعدكم الظاهرة.
بلغ ذلك رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، فعلم أنها فتنة يهودية، وخرج إليهم فيمن معه من أصحابه المهاجرين حتى جاءهم، فقال:
«يا معشر المسلمين، الله الله، أبدعوى الجاهلية، وأنا بين أظهركم، بعد أن هداكم الله تعالى للإسلام، وأكرمكم به، وقطع عنكم به أمر الجاهلية، واستنقذكم به من الكفر، وألف بين قلوبكم» .
أدرك أنصار الله سبحانه وتعالى ورسوله صلى الله تعالى عليه وسلم أنها نزغة من الشيطان، وكيد من عدوهم، فبكوا، وعانق بعضهم بعضا- ثم انصرفوا مع رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم سامعين مطيعين موفورين.
ورد الله سبحانه وتعالى كيد الكافرين من اليهود في نحورهم.
وأنزل الله سبحانه وتعالى في اليهود قول الله سبحانه وتعالى: قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ تَبْغُونَها عِوَجاً، وَأَنْتُمْ شُهَداءُ، وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (آل عمران- 99) .
وأنزل الله سبحانه وتعالى في المسلمين الذين انساقوا وراء شر اليهود: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقاً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ كافِرِينَ. وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلى عَلَيْكُمْ آياتُ اللَّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ، وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلى صِراطٍ
مُسْتَقِيمٍ. يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقاتِهِ، وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ.
وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا، وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ، إِذْ كُنْتُمْ أَعْداءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ، فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْواناً، وَكُنْتُمْ عَلى شَفا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْها، كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ. وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ، وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ، وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ، وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ.
وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا، وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْبَيِّناتُ وَأُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (آل عمران- 100: 105) .
ففى هذا النص الكريم تحذير للمؤمنين من اليهود الذين يفرقون جمعهم، وتذكير بما كانت عليه حالهم من قبل، وبيان الطريق لأن يمنعوا الأشرار من الدخول بينهم، وذلك بالتواصى بالخير بينهم، والأمر بالمعروف والنهى عن المنكر، فمن يقع في الغواية منهم يرشده ذو العقل والحكمة فيهم. وإن التفرق بعد البينات إثم كبير، وله عذاب عظيم.
,
396- إذا كان ما ذكرناه صادقا على اليهود الذين كانوا بالمدينة المنورة عند ما هاجر النبى صلى الله تعالى عليه وسلم إليها، فالحكم فيه بنى على الغالب الكثير، لا على الجميع، فمنهم ناس اختاروا الإسلام دينا، وآمنوا بالله سبحانه وتعالى ورسوله صلى الله تعالى عليه وسلم حق الإيمان، كما قال الله سبحانه وتعالى: ... مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ أُمَّةٌ قائِمَةٌ يَتْلُونَ آياتِ اللَّهِ آناءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ.
يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ، وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ، وَأُولئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ. وَما يَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ يُكْفَرُوهُ، وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ (آل عمران- 113: 115) فهؤلاء من أهل الكتاب، وأهل الإيمان بمحمد صلى الله تعالى عليه وسلم، وسيجزون أجرهم مرتين.
ونذكر من هؤلاء اثنين كان كلاهما من أحبار اليهود:
وهما عبد الله بن سلام، ومخيرق.
وجاء من أخبار السيرة في إسلام عبد الله أنه قال:
لما سمعت برسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم عرفت صفته واسمه وزمانه الذى كنا نتوكف له، أى نترقبه، فكنت أسر ذلك صامتا له، حتى قدم رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم المدينة المنورة.
فهو قد عرف النبى صلى الله تعالى عليه وسلم قبل قدومه المدينة المنورة وتعرف صفات النبوة فيه التى بشر بها في التوراة، وخاطب بذلك بعض أهل بيته، إذ كان فرحا بقدومه ولم يوافقه ابتداء من عرف من أهل بيته، حتى قالت له عمته في فرحته: «والله لو كنت سمعت بموسى بن عمران قادما مازدت، فقال لها المؤمن المخلص الذى لم يشب إخلاصه تعصب لنحلة سابقة: أى عمة هو والله أخو موسى بن عمران، وعلى دينه بعث، ولم تلبث أن وافقته» .
وإذا كان عبد الله بن سلام الحبر اليهودى المخلص قد عرف الحق، وأدرك فقد عرف قومه من اليهود وأدرك انحرافهم، وأنهم اتخذوا آلهتهم هواهم، وهواهم هو شهوة التحيز، حتى جعلوا الدين عنصرا، وليس اعتقادا خالصا فأراد أن يكشف حالهم.
ذهب إلى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم بعد إذ آمن، ولم يعلن إيمانه، فقال له:
يا رسول الله إن يهود قوم بهت (أى يبهتون ويكذبون بالباطل) ، وإنى أحب أن تدخلنى في بعض بيوتك، وتغيا بنى عنهم، ثم تسألهم عني، حتى يخبروك كيف أنا فيهم قبل أن يعلموا بإسلامى فإنهم إن علموا بهتونى، وعابونى.
وأدخلنى الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم في بعض بيوته، فدخلوا عليه وكلموه، وسألوه ثم سألهم: أين الحصين «1» بن سلام، فقالوا سيدنا وابن سيدنا، وخيرنا وعالمنا.
فلما فرغوا من قولهم خرج عليهم، فقال لهم: «يا معشر يهود، اتقوا الله، واقبلوا ما جاءكم به، والله إنكم لتعلمون أنه لرسول الله، تجدونه مكتوبا عندكم في التوراة باسمه وصفته فإنى أشهد أنه رسول الله، وأومن به وأصدقه وأعرفه، فقالوا: كذبت.
فقلت لرسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: ألم أخبرك أنهم قوم بهت، أهل غدر وكذب، وفجور، فأظهرت إسلامى وإسلام أهل بيتى جميعا.
ولقد كانوا يكثرون من الطعون فيه، ويقولون: إنه من الأشرار عندنا. وهو الذى ذكروا أنه من خيرهم وأعلمهم وأعدلهم، ولكنهم يكفرون بما يعلمون، ويكتمون ما عندهم.
وأما الثانى وهو مخيرق، فقد كان علما من أعلامهم، وحبرا من أحبارهم.
وكان رجلا ذا مال أعطاه الله تعالى بسطة من العلم والمال، وكان يعرف رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم بصفته في التوراة.
__________
(1) وكان اسمه هذا قبل الإسلام.
ولم يكن ممن يجعلون الاعتقاد عنصرية، بل كان ممن يؤمنون بالحق، ويعلمون أن الحق أحق أن يتبع، ويقول ابن إسحاق «غلب عليه إلف دينه، حتى إذا كان يوم أحد، قال: يا معشر يهود، والله إنكم لتعلمون أن نصر محمد عليكم لحق» .
ثم أخذ سلاحه، فخرج حتى أتى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم بأحد، ودخل في جنده وعهد إلى من وراءه من أهله، فقال: إن قتلت هذا اليوم، فأموالى لمحمد صلى الله تعالى عليه وسلم يصنع فيها ما أراه الله سبحانه وتعالى.
فقاتل حتى قتل، فكان رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم يقول:
«مخيرق خير يهود»
وقد أسلم في ساعته الشديدة، يوم جاءت قريش تريد أن تغزو المدينة المنورة ثأرا وانتقاما، فأبى إلا أن يكون مع المؤمنين، فاستشهد في سبيل الله تعالى، فكان خيرا في ذاته، وكان خير من في اليهود.
,
397- صدق الله سبحانه وتعالى إذ يقول في شأن أهل الكتاب عامة، واليهود خاصة، ... مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ، وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ ساءَ ما يَعْمَلُونَ. (المائدة- 66) ، ولكن الكثرة هى التى كان لها لجب وصخب، وهى التى ظهرت بلجاجتها، وعنفها في الكراهية وحسد الناس، وهؤلاء هم الذين ظهروا، وهم الذين ظهر زبدهم، واستمر ظاهرا، فهم يكرهون الناس، أينما كانوا، وحينما ثقفوا.
وقد ذكرنا حالهم بعد غزوة بدر، وأعمالهم التى كانت أثرا لانتصار أهل الإيمان، فإن الخير يجيء إلى المحسود، فيزيد الحاسد بغضا وضراوة.
لقد سكتوا في السنة الأولى عن النبى صلى الله تعالى عليه وسلم على إثر المعاهدة التى عقدها، والموالاة التى أولاهم بها، ليكون منهم جماعة مندمجة معه، وهى على دينها، ولسان حاله يقول لهم لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ وليس بيننا وبينكم من بعد إلا التواد، والتعاون على البر والتقوى، والتناصر على أعداء المدينة المنورة الذين يهاجمونها.
كان ذلك، والحسد للنبى صلى الله تعالى عليه وسلم، وللذين آمنوا يملأ قلوبهم، والضغن يأكل صدورهم، فإذا كان المؤمنون قد أخلصوا في ولائهم فأولئك قد أضمروا البغض.
ولما كان الانتصار، كان أولى ثمرات الانتصار في قلوبهم المدنفة بالحسد أن تحركوا لإفساد أهل الإيمان وتعاونوا في ذلك مع المشركين.
اجتذبوهم إلى النفاق، فانجذبوا إليه، وكان منهم منافقون، والنفاق يسكن القلوب الحاقدة الحاسدة الضعيفة المستكينة، فكان أوّل أثر مرير من آثار تلك الغزوة المباركة أن ظهر النفاق ناتئا برأسه، ويفت في جماعات المسلمين، ويعملون على تفريق صفوفهم ويشتد أثر النفاق في مدة الحروب، حيث تشتجر السيوف، وتلتحم الأجسام.
ففى غزوة أحد التى كانت في السنة الثالثة، كانوا يبثون في جيش المسلمين روح التمرد والهزيمة، ويأخذون قلوب الضعفاء من المؤمنين يبثون فيها الذعر والخوف، حتى همت طائفتان من جيش الإسلام أن تفشلا، كما قال تعالى: وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ، تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقاعِدَ لِلْقِتالِ، وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ، إِذْ هَمَّتْ طائِفَتانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلا، وَاللَّهُ وَلِيُّهُما، وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ، وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ، فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ
(آل عمران 121: 123) .
وهاتان الطائفتان كانتا من المنافقين، وضعاف الإيمان، فإذا كان المؤمنون في غزوة بدر قد دخلوا وقلوبهم مستبشرة، فقد دخلوا في غزوة أحد، والمنافقون يبثون فيهم روح التردد والعجز، ولكن الله سبحانه وتعالى عليه نصر المؤمنين إن لم يأخذوا في أسباب الهزيمة، وإن استقاموا على الطريقة، ولم يخالفوا، وأنه إذا كان النبى صلى الله تعالى عليه وسلم يعيش في المدينة المنورة والمؤمنون من أصحابه يحيط بهم أولئك المنافقون والمفتونون والحاسدون، فإنه يجب عليه الحذر منهم، وقد نفذ النبى صلى الله تعالى عليه وسلم ذلك بأمر ربه، ولذلك قال الله سبحانه وتعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا بِطانَةً مِنْ دُونِكُمْ لا يَأْلُونَكُمْ خَبالًا، وَدُّوا ما عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضاءُ مِنْ أَفْواهِهِمْ وَما تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ، قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآياتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ. ها أَنْتُمْ أُولاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلا يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتابِ كُلِّهِ، وَإِذا لَقُوكُمْ قالُوا آمَنَّا، وَإِذا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنامِلَ مِنَ الْغَيْظِ، قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ، إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ. إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ، وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِها، وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً، إِنَّ اللَّهَ بِما يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ (آل عمران 118: 120) ، وهكذا نجد حقد اليهود وصدهم قد أفسد النفوس، وفرق ما بينهم وبين أهل الإيمان.
ولم يقفوا عند حد العمل على إفساد العلاقات الاجتماعية بين الناس، ومحاولة إضعاف الإيمان، وإغراء غير المؤمنين بالنفاق، حتى شاركوهم، بل كانوا يحاولون التشكيك في قلوب المؤمنين، لأنهم يودون أن يكفروا حسدا من عند أنفسهم.
وكانوا في سبيل ذلك يسألون النبى صلى الله تعالى عليه وسلم أسئلة معنتة لا لتتبين نبوته صلى الله تعالى عليه وسلم، بل يرجون من توجيه هذه الأسئلة ألا يجيب النبى صلى الله تعالى عليه وسلم عن بعضها، فيتخذوا ذلك ذريعة للتشكيك، وإلقاء الريب في قلوب المؤمنين، ولنذكر شيئا من هذه المحاولة.
,
398- جادلهم النبى صلى الله تعالى عليه وسلم بالتى هى أحسن، وهو يعلم أنهم يريدون الكيد بالمسلمين وإلقاء الرعب في قلوبهم، رجاء أن يجدوا ثغرة في الرسالة يطيرون بها فرحا، ولكن الله سبحانه وتعالى أمر النبى صلى الله تعالى عليه وسلم بأن يجادلهم، فقال الله سبحانه وتعالى وَجادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ (النحل- 125) . لأن ذلك سبيل من سبل الدعوة إلى سبيل الله بالحكمة والموعظة الحسنة.
كانوا يسألون، والنبى صلى الله تعالى عليه وسلم يجيبهم بما آتاه الله سبحانه وتعالى من علم القرآن الكريم والحكمة، فيرد كيدهم في نحرهم، وتثبت الرسالة المحمدية، ويذهب ريب كل مرتاب.
لقد سألوه متى تقوم الساعة، وهم يعلمون من علم الكتاب أن الساعة لا يعلمها إلا الله سبحانه وتعالي، ولكنهم سألوا السؤال، وهم يعلمون الإجابة، فيشككون في أمر البعث الذى يجادل فيه المشركون، وقد حكى الله سبحانه وتعالى السؤال والجواب الحكيم الصادق، فقال الله سبحانه وتعالى:
يَسْئَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ، أَيَّانَ مُرْساها، قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي لا يُجَلِّيها لِوَقْتِها إِلَّا هُوَ، ثَقُلَتْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لا تَأْتِيكُمْ إِلَّا بَغْتَةً، يَسْئَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْها، قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ اللَّهِ، وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (الأعراف- 187) .
ولقد كانت صيغة السؤال من بعضهم توميء بالتشكيك في الرسالة، فقد قال قائلهم: أخبرنا متى تقوم الساعة، إن كنت نبيا كما تقول.
فأمره الله سبحانه وتعالى بأن يجيب ذلك الجواب الصادق، ولو كان السؤال ممن لا يؤمن لأن ذلك هو الحق، والحق أحق أن يتبع.
وسألوه عن الروح، ليعنتوه أيضا، وليلقوا بالريب في نفوس المؤمنين فأمره الله سبحانه وتعالى بأن يقول أنها من أسرار هذا الوجود الذى لا يعلمه إلا الله سبحانه وتعالي، فقال الله سبحانه وتعالى في السؤال والجواب وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ، قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي، وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا (الإسراء- 85) .
وإن حقيقة الروح لا تزال سرا من أمر الله لا يعلمها أحد سواه، نرى مظاهر وجودها، ولا نعرف حقيقة أمرها، لقد عرف ابن الانسان الكون وظواهره، وأدرك بالاستقراء الأفلاك، وأبراجها وارتفع ابن الأرض إلى السماء، ووصل إلى القمر، بأسباب المادة، لكنه إلى الآن لا يعرف حقيقة الروح ولا كنهها، وإن كان يعرف بعض ظواهرها، وأعراضها.
399- وسألوه عن ذى القرنين ما هو وما كان أمره، وما فعله، فذكر الله سبحانه وتعالى السؤال، وأعلم النبى صلى الله تعالى عليه وسلم بالجواب في قول الله سبحانه وتعالى:
وَيَسْئَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ، قُلْ سَأَتْلُوا عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْراً. إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ وَآتَيْناهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَباً. فَأَتْبَعَ سَبَباً. حَتَّى إِذا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ وَجَدَها تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ، وَوَجَدَ عِنْدَها قَوْماً، قُلْنا يا ذَا الْقَرْنَيْنِ، إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ، وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْناً. قالَ أَمَّا مَنْ ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ، ثُمَّ يُرَدُّ إِلى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذاباً نُكْراً. وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً، فَلَهُ جَزاءً الْحُسْنى، وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنا يُسْراً.
ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَباً. حَتَّى إِذا بَلَغَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ وَجَدَها تَطْلُعُ عَلى قَوْمٍ لَمْ نَجْعَلْ لَهُمْ مِنْ دُونِها سِتْراً. كَذلِكَ وَقَدْ أَحَطْنا بِما لَدَيْهِ خُبْراً. ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَباً. حَتَّى إِذا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ وَجَدَ مِنْ دُونِهِما قَوْماً لا يَكادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلًا. قالُوا يا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ، فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجاً، عَلى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا. قالَ ما مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ، فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْماً. آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ، حَتَّى إِذا ساوى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ، قالَ انْفُخُوا، حَتَّى إِذا جَعَلَهُ ناراً، قالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْراً. فَمَا اسْطاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ، وَمَا اسْتَطاعُوا لَهُ نَقْباً. قالَ هذا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي، فَإِذا جاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ، وَكانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا.
(سورة الكهف: 83: 98)
هذا سؤال قصد به الإعجاز، وإذا عجز محمد عليه الصلاة والسلام عن الإجابة طاروا فرحا، وألقوا بالريب في النفوس، وذلك ما يقصدون، وإليه يهدفون.
ولكن الإجابة كانت علما غزيرا، وتتبعا دقيقا لسيرة ذى القرنين، وما كان له من أعمال لها أثر وذكر ولسان صدق، وكان ذلك البيان العجيب الصادق مسترعيا لعقول وقلوب الذين يستمعون إليه، فكان أثر الإجابة حجة لأهل الإيمان مثبتا لدينهم الذى ارتضوا.
وقد سألوا سؤالا آخر عن القرآن الكريم ليشككوا في أمره، وهو حجة الرسالة المحمدية، ودليلها الذى لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه.
قالوا: أحق يا محمد، إن هذا الذى جئت به الحق من عند الله، فإنا لا نراه منسقا، كما تنسق التوراة.
فقال لهم رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: «إنكم لتعرفون أنه من عند الله، تجدونه مكتوبا عندكم في التوراة، ولو اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثله ما جاؤا به» .
فوجهوا السؤال إلى ناحية أخري، لأن اعتراضهم واهن، إذ أن نسق القرآن الكريم لا يمكن أن يوزن به نسق التوراة، ولو كانت هى الألواح العشر التى نزلت على موسي، فلكل نبى معجزته وآياته.
حولوا السؤال إلى ناحية أخرى قد توجد شكا. قالوا: يا محمد. أما يعلمك هذا إنس ولا جن؟
قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: «والله إنكم لتعلمون أنه من عند الله، وإنى لرسول الله تجدون ذلك مكتوبا عندكم في التوراة» .
قالوا في لجاجة: يا محمد، فإن الله يصنع لرسوله إذا بعثه ما يشاء، ويقدر منه على ما أراد، فأنزل علينا كتابا نقرؤه، وإلا جئناك بمثله.
يذكرون بهذا أنهم يستطيعون أن يأتوا بمثله، فيقول الله سبحانه وتعالى على لسان نبيه: قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ، وَلَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً (الإسراء- 88) .
ولسان الحال يقول: ائتوا إن استطعتم، ولكنكم لا تستطيعون، وفيصل الأمر أن تأتوا، ليتبين أمركم، وينكشف خبىء مكركم وضلالكم، إذ تسفهون في أنفسكم بما لم يسفه به المشركون.
ويسألون سؤالا آخر يدل على عقليتهم المادية، وعلى عدم معرفتهم الله سبحانه وتعالى، وصفاته العلية الذى ليس كمثله شيء وهو العزيز الحكيم.
وذلك أنهم كانوا متأثرين بالفلسفة اليونانية التى كانت تؤمن بالأسباب والمسببات، ولا تؤمن بغيرها.
فالأسباب العادية جعلوها قانون الوجود، فكل شيء نشأ بالعلية، فالوجود الإنسانى والخلق كله معلول لعلة، والعلة سبب عن آخر، وبهذا أخذت الفلسفة اليونانية، فيحسبون أن العالم كله نشأ بقانون العلية، عن الأوّل، وهو علة لما قبله، وبذلك يكون التسلسل لما لا نهاية.
أرادوا أن يظهر عجز النبى صلى الله تعالى عليه وسلم بسؤال من هذا النوع، وتناسوا أن الله سبحانه وتعالى هو الفاعل المختار، الفعال لما يريد، وأن إنشاءه للكون، ليس بالسببية أو العلية، بل أنشأه بإرادته المختارة، وهذا سؤالهم الذى دل على كفرهم.
قالوا للنبى صلى الله تعالى عليه وسلم: «يا محمد، هذا الله خلق الخلق، فمن خلق الله؟» فغضب النبى صلى الله تعالى عليه وسلم حتى انتقع لونه، ثم ساورهم غضبا لربه.
ولقد كان غضب الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم، لأن هذا السؤال كان من اليهود، وهم أهل كتاب مفروض أنهم يعرفون الله سبحانه وتعالى ويعرفون صفاته، وأنه الأوّل والآخر والظاهر والباطن، وأنه الفاعل المختار، القادر على كل شيء، وليس فوقه شيء، وهو مبدع الوجود، بديع السموات والأرض.
ولم يقع من العرب مثل هذا السؤال، فهم كانوا يعرفون أن الله سبحانه وتعالى وحده خالق الوجود، وأنه ليس فوقه أحد، وإنما شركهم في أنهم كانوا يعبدون مع الله الأوثان التى ابتدعوها، وما أنزل الله تعالى بها من سلطان، فغضب رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، لأن اليهود أهل الكتاب أسفوا في التفكير إلى ما لم ينزل إليه المشركون أهل الأوثان، وهكذا تذهب اللجاجة في التعصب إلى أن قالوا ما لا يعقلون.
ويقول راوى هذا الخبر، وهو سعيد بن جبير: فجاءه جبريل عليه السلام، وهو غضبان أسفا، فسكنه وقال له: خفض عليك يا محمد- صلى الله عليه وسلم- وجاءه بجواب ما سألوه عنه:
قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ. اللَّهُ الصَّمَدُ. لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ. وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ.
كان هذا تنبيها لهم إلى ما أسفوا فيه، ولكنهم نزلوا مرة ثانية عن مرتبة الوثنيين من العرب، وظنوا الله تعالى مادة كالأحياء، وتلك بقية من نزعتهم المادية.
قالوا: «فصف يا محمد، كيف خلقه؟ ذراعه، كيف عضده؟» .
فغضب رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم كغضبته الأولي، وساورهم، فأتاه جبريل الأمين وجاءه بجواب من الله سبحانه وتعالى عما سألوه، وهو قول الله سبحانه وتعالى: وَما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ، وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ، وَالسَّماواتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ، سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ (الزمر- 67) .
هذه بعض مجاوبات بين اليهود الذين لا يتقيدون بفكر ولا منطق ولا علم بكتاب، ولا إيمان بالله الواحد الأحد، الفرد الصمد الذى ليس كمثله شيء، وهو السميع البصير، والنبى صلى الله تعالى
عليه وسلم يجادلهم بالتى هى أحسن، مع سوء قصدهم، إطاعة لقوله سبحانه وتعالى: وَلا تُجادِلُوا أَهْلَ الْكِتابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ (العنكبوت- 46) .
نترك الآن اليهود وأثر الانتصار المحمدى النبوى عليهم، وكيف نافقوا واتجهوا إلى الإيذاء النفسى بكل ضروبه، والنبى عليه الصلاة والسلام والمؤمنون الذين صابروا في ميدان القتال، صابروا اليهود وعلموا شرهم في ميدان الدس، والنميمة والخيانة، والفت في العضد أو ما يسمى بلغة عصرنا الحرب الباردة، فصبروا وانتصروا في الحالين، وكان النصر مؤزرا له ما بعده في تاريخ الإسلام.