199- علم النبى عليه الصلاة والسلام أنه يحمل تكليفا كبيرا، وأنها منزلة كبيرة يعلو فيها بإنسانيته، فأصبح المرهوب محبوبا مرغوبا، بعد أن خشى من لقاء روح القدس، جبريل عليه السلام، صار يتمنى أن يلقاه. ليلقى أمر الله تعالى، ويستجيب له، ويحمل الأمانة التى اختاره الله تعالى لها.
لقد كان يتوقع أنه سيراه بعد أن يعود إلى الغار، لكنه لم يجيء إليه وفتر عنه، فظن فى نفسه الظنون، ولعله ظن أن ما اعتراه من خوف فى اللقاء الأول نحى تكليفه القيام برسالة، ولقد كان حريصا على الاستجابة للدعوة إلى الحق، والحريص على القيام بأمر يستعجله، ويستبطيء غيابه، ولعله خشى أن يكون ما أخبره به العالم الخبير ورقة بن نوفل لم يصادف الحق، ولعله تكون الرؤيا التى راها، والمشاهدة التى عاينها
تشبه ما يدعى للكهان، وهى أمر يبغضه، ويستنكره. لعل هذه الخواطر وغيرها أقلقته فاستبطأ الوحي، وتمناه، وعلم أنه لا يستقر مرة إلا إذا عاد الوحى إليه، شق ذلك الانقطاع على النبى صلى الله تعالى عليه وسلم، خشية على النعمة التى توقع أن ينعم الله تعالى به عليها.
ويقول فى ذلك ابن إسحاق «ثم فتر الوحى فتر من ذلك، حتى شق عليه صلى الله تعالى عليه وسلم فأحزنه» .
ذكر البخارى فى صحيحه أنه كان يذهب إلى غار حراء ينتظر حيث ينزل عليه الروح القدس جبريل ويقول فى ذلك «ثم فتر الوحى، حتى حزن النبى عليه الصلاة والسلام فيما بلغنا حزنا غدا منه مرارا كى يتردى من رؤس شواهق الجبال، فكلما أوفى بذروة لكى يلقى نفسه تبدى له جبريل، فقال:
يا محمد إنك رسول الله حقا، فيسكن جأشه، وتقر نفسه فيرجع، فإذا طالت عليه فترة الوحى غدا لمثل ذلك، فإذا أوفى بذروة جبل تبدى له جبريل، فقال مثل ذلك» وهكذا حتى انتهت فترة الانقطاع.
وقد جاء فى الصحيحين عن جابر بن عبد الله «سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: بينما أنا أمشى سمعت صوتا من السماء فرفعت بصرى، فإذا الملك الذى جاءنى بحراء قاعد على كرسى بين السماء والأرض فجنبت منه فرقا حتى هويت إلى الأرض، فجئت أهلى فقلت زملونى» فأنزل الله تعالى: يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ. قُمْ فَأَنْذِرْ. وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ. وَثِيابَكَ فَطَهِّرْ. وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ «1» ثم حمى الوحى وتتابع «2» .
وإن هذا يدل على أن الفترة التى انقطع فيها جبريل عن محمد بن عبد الله عليه الصلاة والسلام شوقا لأن يعود الوحى، وإن شوقه إلى تلقى الوحى بعد هذه الفترة جعله محبوبا مرهوبا، أو على الأقل لا يكون فزعه منه، كفزعه الأول الذى كان عقب الرؤيا بالمعاينة لجبريل عليه السلام.
,
200- لقد اختلفت الروايات فى مدة الفترة التى انقطع فيها الوحى، ما بين رواية تذكرها طويلة، وأخرى تذكرها قصيرة. فقد جاء فى المواهب اللدنية أنها بلغت ثلاث سنين، ولا شك أن هذه مدة طويلة نستبعدها، وإن كانت قد ذكرت فى كتب السيرة، والسبب فى استبعادنا لها- أنها لا تتفق مع كون النبى صلى الله تعالى عليه وسلم كان فى مشقة شديدة من تلك الغيبة حتى إنه كان يرتفع إلى شواهق الجبال ليتردى من أعلاها، وكان يتكرر ذلك، وإن الله تعالى أجل من أن يلقى بمن اختاره رحمة للعالمين
__________
(1) سورة المدثر: 1- 5.
(2) البداية والنهاية لابن كثير ج 3 ص 16.
يعيش فى ذلك القلق والاضطراب تلك المدة الطويلة من غير أن يعرف له غاية ينتهى عندها، وفوق ذلك، فإن الاستعداد لأمر خطير لا يستمر تلك المدة الطويلة، بل هى قد تحمل على النسيان بين اللقاءين، وإن المصادر الأصلية، والأحاديث لم تذكرها، فلم يذكرها ابن اسحاق، ولم يروها البخارى.
ولقد قال السهيلى إن المدة سنتان ونصف، وقيل إنها سنتان، وقيل فيها مدد مختلفة أقلها ثلاثة أيام وأكثرها أربعون، وقد روى أن ابن إسحاق جزم بأن الذين قالوا ثلاث سنين أو سنتين قولهم وهم.
وإن الذين قالوا إنها ثلاث سنين استندوا إلى ما جاء فى تاريخ الإمام أحمد، ويعقوب بن سفيان عن الشعبى أنه قال: «الفترة وهو ابن أربعين سنة، فقرن بنبوته إسرافيل ثلاث سنين، وكان يعلمه الكلمة» .
وهذه الرواية لا نحسب أنها عالية مما يوجب الريب، فأولا: نذكر أن إسرافيل هو الذى كان يعلمه فى مدة ثلاث السنين، ولم يثبت ذلك، بل الثابت أنه من أول تلقى نور السماء اتصل به جبريل الأمين روح القدس، وثانيا: أن الشعبى تابعى ولم يذكر من الذى نقل له هذا من الصحابة، وقد أنكره كثير من الرواة، فقد قال الواقدى إنه لم يكن من الملائكة من قام بالاتصال بالنبى عليه الصلاة والسلام إلا جبريل عليه السلام.
وفى الجملة أنه بعد ذلك البيان نرى أن تقدير مدة الفترة بالسنين أيا كان مقدارها غير معقول ولا مقبول، وليس له سند صحيح حتى يكون منقولا، حجته النقل. وإنما الذى نعتقده أن المدة لابد أن تكون فى دائرة الأشهر، ولعلها خمسة أشهر وبعض، على ما نشير من بعد.
201- إلى هنا ذكرنا اللقاء الأول للوحى النبوى، الذى أفاض الله به تعالى على محمد بن عبد الله صلى الله تعالى عليه وسلم، ولكن لا ننتهى من هذا الجزء، وننتقل إلى ابتداء التبليغ، والقيام بعبء الدعوة، والجهاد فى سبيلها، من وقت أن صدع بأمرها، قبل أن نحقق الأمر، فى ثلاثة أمور تحدث العلماء فى أمرها:
أولها: الشهر الذى نزل فيه الوحى، أهو رمضان، وهو ما ذكرته كتب السيرة وما رجحناه وانتهينا إليه، وسقنا سيرة الرسول عليه الصلاة والسلام الطاهرة عليه، وكان يصح ألا نذكر سواه، ولكن لم نرد أن نترك أمرا اختلف فيه العلماء من غير تمحيص، وبيان الصادق منها، وقد قيل إنه ربيع الأول، وقيل إنه رجب، فلابد من إزالة الشبه من حول الحق الصريح.
ثانيها: أول نزول القران الكريم، أهى اية: اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ. خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ عَلَقٍ «1» أم هى قوله تعالى: يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ. قُمْ فَأَنْذِرْ «2» . وسننتهى ان شاء الله تعالى بالتوفيق.
ثالثها: أنواع الوحى الذى خوطب به النبى صلى الله تعالى عليه وسلم.