269- برمت قريش بالنبى صلى الله تعالى عليه وسلم، وبرمت ببنى هاشم الذين يحمونه، ويدافعونهم عن نفسه أن ينالوا منها، وخصوصا أبا طالب الذى ضاعت عنده الحيل والتهديدات، وهو مرتفع شامخ كالطود تنسال عنده التهديدات، ولا تقف عنده، لا يضعف ولا يهن، ولا يصيبه خور فى عزمته.
ولما وصل بهم الأمر إلى هذا الحد، اعتزموا الشطط، وأن يركبوا مركبا صعبا، وهو قتل النبى صلى الله تعالى عليه وسلم، ولا يبالون أبا طالب، وبنى هاشم معه.
علم أبو طالب بما بيتوا وما دبروا فنادى بنى عبد مناف أن يناصروه فى منع النبى صلى الله تعالى عليه وسلم، ولم يجبه من بنى عبد مناف إلا بنو المطلب الذين كانوا مع بنى هاشم جاهلية وإسلاما، وبنو هاشم مع أبى طالب إلا أبا لهب الذى أبى إلا أن يكون مع قريش فى غلوائها وفيما أرادت ابن أخيه، ولنترك الكلمة لما روى عن الزهرى:
«إن المشركين اشتدوا على المسلمين أشد ما كانوا، حتى بلغ المسلمين الجهد، واشتد عليهم البلاء، وجمعت قريش فى مكرها أن يقتلوا رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم علانية. فلما رأى أبو طالب جمع بنى المطلب وهاشم، وأمرهم أن يدخلوا رسول الله صلى الله عليه وسلم شعبهم، وأن يمنعوه ممن أرادوا قتله.. فاجتمع على ذلك مسلمهم وكافرهم، فمنهم من فعله حمية، ومنهم من فعله إيمانا ويقينا. فلما عرفت قريش أن القوم قد منعوا رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وأجمعوا على ذلك اجتمع المشركون من قريش، فأجمعوا ألا يجالسوهم، ولا يبايعوهم، ولا يدخلوا بيوتهم حتى يسلموا رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم.. وكتبوا فى مكرهم صحيفة، وعهودا ومواثيق، ألا يقبلوا من بنى هاشم صلحا أبدا، ولا يأخذهم بهم رأفة حتى يسلموه للقتل» .
«لبث بنو هاشم فى شعبهم ثلاث سنين واشتد عليهم البلاء والجهد، وقطعوا عنهم الأسواق، فلا يتركوا لهم طعاما يقدم مكة المكرمة، ولا بيعا إلا بادروهم إليه فاشتروه، يريدون بذلك أن يدركوا سفك دم رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم» .
«وكان أبو طالب إذا أخذ الناس مضاجعهم- أمر رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فاضطجع على فراشه، حتى يرى ذلك من أراد به مكرا واغتيالا له» .
«وكان أحيانا يأمر أحد بنيه أو إخوته أو بنى عمه، فاضجعوا على فراش رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وأن يأتى بعض فرشهم فينام عليه» .
وهكذا كان العم العظيم يحتاط للغيلة أن يصيبوا بها محمدا صلى الله تعالى عليه وسلم فينيمه فى منامته، متعرضا للغيلة بدله وهو الشيخ الفانى. ويغير مكان الرسول من وقت لاخر، فيجعل مكانه بعض بنيه هو أو إخوته أو بنى عمه من بنى المطلب أو غيره، وبدون ذلك كان يفى للعصبية، ولكنها الشفقة والمحبة والرأفة التى ألقاها الله تعالى فى قلب أبى طالب العظيم.
اشتد البلاء على المؤمنين، وبنى هاشم وبنى المطلب، حتى كان الأطفال يتضاغون من شدة الجوع، وقد كانت المقاطعة كما روى ابن إسحاق كاملة، فقد كانت تشمل المناكحة، لا ينكحونهم، ولا ينكحون منهم.
,
270- مكث بنو هاشم وبنو المطلب وعلى رأسهم أبو طالب، والنبى عليه الصلاة والسلام معهم فى هذه القطيعة ثلاث سنين دأبا، وهم يرون صبيانهم يعضهم الجوع، ولكن الكبار لا يذهب بهم
الفزع، فيستجيروا لأنفسهم أو أن يسلموا محمدا صلى الله عليه وسلم ليقتلوه، فألقى الله تعالى بالصبر فى قلب المؤمن والكافر معا ولقد أظهر الله تعالى آياته فى أمرين:
أولهما: أن الأرضة جاءت وأكلت كل كلمة فيها اسم الله تعالى أو صفاته التى عاهدوا الله تعالى عليه أن تكون القطيعة دائمة، وكأن الله تعالى ألهم الأرضة أن تعلمهم أن اسم الله تعالى لا يصح أن يكون فى وثيقة ظلم وفسق عن أمر ربهم، وقد أطلع الله تعالى محمدا صلى الله عليه وسلم الصادق المصدق على ما فعلته الأرضة بإلهام من رب العالمين، تعالت قدرته، وعظمت منته.
الأمر الثانى: أنه تشققت الرحمة من قلوب هؤلاء الذين تعاهدوا على الظلم والعدوان، كما تنفجر الأنهار من بعض الأحجار، فإنه على رأس السنين الثلاث التى مرت ببنى هاشم تلاوم رجال من بطون قريش، من بنى عبد مناف، وقصى، ورجال من قريش، قد ولدوا من نساء من بنى هاشم، رأوا أنهم قد قطعوا الرحم، واستخفوا بالحق، واجتمع أمرهم على نقض الصحيفة، والبراءة مما جاء فيها، وقيل أنها كانت معلقة بسقف البيت.
بينا هذا التفكير قد سيطر على الملأ من قريش ذهب أبو طالب إليهم يخبرهم بأن الأرضة أخلت من صحيفتهم اسم الله، وأبقت فيها الظلم والفسق الذى دونوه، وتعاهدوا عليه.
انطلق الرجل العظيم أبو طالب، ومعه العصبة من بنى عبد المطلب، فقال فى جمع حافل من قريش:
قد حدثت أمور بينكم نذكرها لكم، فأتوا بصحيفتكم التى تعاهدتم عليها فعلّه أن يكون بيننا وبينكم صلح.
فطمعوا أن يسلم بنو هاشم محمدا صلى الله تعالى عليه وسلم، فأتوا بالصحيفة معجبين بها، لا يشكون أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم سيدفع إليهم، فوضعوها بين أيديهم، وقال قائلهم:
قد ان لكم أن تقبلوا وترجعوا إلى أمر يجمع قومكم، فإنما قطع بيننا وبينكم رجل واحد، جعلتموه خطرا لهلكة قومكم.
فقال أبو طالب: إنما أتيتكم لأعطيكم أمرا لكم فيه نصف، إن ابن أخى أخبرنى، ولم يكذبنى أن الله بريء من هذه الصحيفة، ومحا كل اسم هو له فيها، وترك غدركم، وقضيتكم إيانا، وتظاهركم علينا بالظلم، فإن كان الحديث الذى قال ابن أخى كما قال، فأفيقوا، فو الله لا نسلمه أبدا، حتى يموت من عندنا اخرنا، وإن كان الذى قاله باطلا رفعناه إليكم، فقتلتموه أو استحييتم.
قالوا: رضينا بالذى تقول. وكأنهم فهموا أن النتيجة أن يسلمهم لوثوقهم من صحيفتهم.
فتحوا الصحيفة فوجدوها كما قال الصادق المصدق، وسنبين بعض الصحيفة من البيان، ومن دعا إليه ولم يذعنوا للحق إذ جاءتهم بيناته، بل أصروا على الكفر والعناد، وقالوا مقالة الكفر، وقالوا إن هذا إلا سحر من صاحبكم، وارتكسوا، وعادوا بشر مما كانوا عليه من كفرهم والشدة على رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، فزادتهم الاية كفرا.
فقال قائل للنفر من بنى عبد المطلب الذين كانوا فى صحبة أبى طالب: إن غيرنا أولى بالكذب والسحر، فكيف ترون، فإنا نعلم أن الذى اجتمعتم عليه من قطيعتنا أقرب إلى الجبت والسحر، ولولا أنكم اجتمعتم على السحر لم تفسد صحيفتكم، وهى فى أيديكم، طمس ما كان فيها من الحنث، وما كان من اسم الله، أفنحن السحرة أم أنتم؟
كانت كلمات أبى طالب ومن معه من أسرته ان لم تكن قد شقت قلوبهم لقبول الحق، فقد شقت صفوفهم التى كانت مجمعة بالباطل. فظهر النفر من بنى قصى وبنى عبد مناف، وغيرهما وكانوا قد تلاوموا من قبل على الصحيفة وأمرها، وفيهم من كانت الصحيفة عنده، وجاهروا بما فى نفوسهم وقالوا حاسمين قاطعين، غير مترددين، ولا ناكصين. قالوا فى حزم: نحن براء مما فى هذه الصحيفة.
وقال أبو جهل الخبيث فى ذات نفسه، والضال فى فكره وعقله: وهذا أمر قضى بليل «1» .
271- كان النتيجة التى تستخلص من هذه القصة أن قريشا بلغت بهم لجاجة الكفر أن يحاولوا قتل محمد صلى الله تعالى عليه وسلم، وأن يندفعوا فى ذلك، لا ينظرون فيه إلى عاقبة من تصدى بنى هاشم لهم، للأخذ بثأره منهم، ولعله كان قد ابتدأ التفكير عندهم فى تفرق دمه فى القبائل، بحيث يضربونه ضربة رجل واحد، فلا يكون لبنى هاشم قبل بالثأر فيقبلوا وتتم الراحة لهم فى زعمهم، إذ يستأصلون الدعوة من جذورها، إذ يقتلون صاحبها، ومحمد صلى الله عليه وسلم يستقبل ذلك التدبير اللئيم استقبال من يستعين بالله، ولا يستعين بغيره.
ولكن عمه العظيم يحمل العبء، ويتحمل الأذى، ويحاول وقاء محمد عليه الصلاة والسلام بكل الأسباب، حتى أنه ينيمه فى مضجعه متحملا ما وراء ذلك ويستعد لفدائه بنفسه، وهو لا يزال على دينهم. ولم يخرج إلى الدين الجديد، وإن كان يظهر أنه فى دخيلة نفسه كان يعتقد صحته وقد بدا ذلك فى بعض شعره.
__________
(1) أخذ ملخص القصة من كتاب سيرة بن هشام، ج 1 ومن كتاب البداية والنهاية ج 3 ص 84، 85 وما فيها.
وإنه يبدو من نهاية القصة أنه كان فى قريش من تألم من الأمر الذى نزل بإخوانهم، ولعله كان فيهم ميل لتصديق محمد عليه الصلاة والسلام، ولذلك دخل الأكثرون منهم من بعد فى الإسلام.
وإن نهاية الخبر تدل على أن بعض قريش، وإن دخلوا فى الحلف طائعين كانوا لنتائجه كارهين، فلم يستطيعوا تحمل نتائج ما عقدوا عليه حلفهم بعد أن رأوه واقعا، وأنهم كانوا يرونه تهديدا، ولا يرونه أمرا صالحا للنفاذ، وقد عظم عليهم عندما رأوه نافذا.
ولقد كان منهم من يرسل الطعام سرا، ومن يعلم ذلك من ذوى الصلة منهم لا يستنكره. يروى فى ذلك أن حكيم بن حزام بن خويلد، ابن أخى خديجة ذهب ومعه غلام يحمل قمحا يريد عمته خديجة بنت خويلد وهى عند رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فى الشعب، فتعلق به أبو جهل، وقال: أتذهب إلى بنى هاشم، والله لا تذهب أنت وطعامك، حتى أفضحك بمكة.
عندما قال أبو جهل ذلك تعرض له أبو البخترى بن هشام بن الحارث بن أسد وقال له: مالك وله؟ فقال: يحمل الطعام إلى بنى هاشم. فقال له أبو البخترى منكرا عليه فعله: طعام كان لعمته عنده بعثت به إليه أتمنعه؟ رجل يأتيها بطعامها، خل سبيل الرجل.
أبى أبو جهل أن يخلى سبيل حكيم بن حزام وتلاعنا، ونال كل من صاحبه، ولم يكن لأبى جهل أن يعامل إلا بالضرب، فأخذ أبو البخترى لحى بعير، فضربه وشجه، ووطأه وطئا شديدا.
وحمزة بن عبد المطلب يرى، وهم يكرهون أن يبلغ ذلك رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وبنى هاشم فيشمتون بهم، وهكذا كانت الأطعمة تذهب إليهم. وكان من كتاب الصحيفة من لم يرض بتنفيذها، وكان يرجو إنهاءها، ولكن ذلك لم يمنع المشقة الشديدة التى لقيها بنو هاشم وبنو المطلب من قومهم، والرسول صلى الله عليه وسلم أشدهم مشقة واحتمالا.
الرسول صلّى الله عليه وسلّم مستمر فى دعوته
272- إذا كانت المقاطعة قد ضيقت على الرسول عليه الصلاة والسلام وأسرته أسباب العيش السهل، وضيقت عليهم السبل فى الرزق، فإنها لم تمنعه من دعوته، فهو قائم بالليل، والإقامة فى ضيق الرزق، ولكنه ليس برما ولا متململا، مادام يستجيب لأمر الله تعالى فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ فأعرض عنهم واستمر فى دعايته، والله تعالى يمده بالعون والتأييد بنصره، فهو فى أنس من ربه، وإن كان فى وحشة من قومه، ولكن شعاره دائما: «اللهم اغفر لقومى، فإنهم لا يعلمون» «وإنى أرجو أن يخرج من أصلابهم من يعبد الله تعالى» . والجدل مستمر بينه وبين احادهم يدعوهم إلى الحق، فيصدون بالباطل.
ولقد وصل التهافت بأبى جهل أن يكفر بملته كلها، فيسب الله تعالى، وفى ديانتهم أن الله هو خالق السموات والأرض وإن كانوا يشركون الأنداد معه، لقد قالوا للنبى صلى الله تعالى عليه وسلم «لتتركن سب الهتنا أو لنسبن إلهك» ولأن أبا جهل ومن على شاكلته لا دين لهم إلا العصبية الجاهلية، ولا يؤمنون بشيء لا يتوقع منه أن يسب الله تعالى ولكنه سبه فنزل النهى عن سب الأحجار والأوثان، وتكون الدعوة إلى التوحيد المجرد، وبطلان عبادة الأوثان، فقال تعالى: وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ.
ولقد كان منهم من يحسب أنه يحاكى القران الكريم، فيأتى بقصص من أخبار الفرس وحروبهم يسلى الناس عن القران الكريم ويبعدهم، ثم يقول للنبى صلى الله تعالى عليه وسلم: يا قوم والله ما محمد بأحسن حديثا منى، وما حديثه إلا أساطير الأولين، أكتبها، كما اكتتبها، فيحكى عنهم رب العالمين قولهم، ويرده عليهم بالقران الكريم يتلي، فيقول الله تعالى: وَقالُوا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ، اكْتَتَبَها فَهِيَ تُمْلى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا. قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ كانَ غَفُوراً رَحِيماً. وَقالُوا مالِ هذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْواقِ لَوْلا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيراً «1» .
هم يكذبون القران الكريم، ويعبثون بحقائقه، وهم الذين يفرون من سماعه، فإذا تهكموا عليه انتظروا ما يقال فى تهكمهم فيهجم القران الكريم على مسامعهم، ولا يستطيعون منه فرارا، ولا ينفكون عن سماعه.
ومنهم من كان يحسب أنه يناقض معانى القران الكريم بحقائق من الأديان السابقة أو بما حسبه كذلك. ورسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم يجلس بينهم، ويتلقى مجادلتهم، ويدعوهم بالتى هى أحسن، غير مدخر بابا من أبواب الإقناع بالحق إلا سلكه، يروى ابن إسحاق فى السيرة ما يأتى:
جلس رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فيما بلغنا يوما مع الوليد بن المغيرة فى المسجد، فجاء النضر بن الحارث، حتى جلس معهم، وفى المجلس غير واحد من رجال قريش، فتكلم رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فعرض له النضر بن الحارث، فكلمه رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم حتى أفحمه، ثم تلا قوله تعالى: إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَها وارِدُونَ.
لَوْ كانَ هؤُلاءِ آلِهَةً ما وَرَدُوها وَكُلٌّ فِيها خالِدُونَ. لَهُمْ فِيها زَفِيرٌ وَهُمْ فِيها لا يَسْمَعُونَ «2» .
__________
(1) سورة الفرقان: 5- 7.
(2) سورة الأنبياء: 98- 100.
ثم قام رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، وأقبل عبد الله بن الزبعرى السهمى حتى جلس، فقال الوليد بن المغيرة: والله ما قام النضر بن الحارث وما قعد، وقد زعم محمد أنا وما نعبد من الهتنا هذه حصب جهنم. فقال عبد الله بن الزبعرى؛ أما والله لو وجدته فخصمته، فسلوا محمدا أكل من نعبد من دون الله حصب جهنم مع من عبده، فنحن نعبد الملائكة، واليهود تعبد عزيرا، والنصارى تعبد عيسى، فعجب الوليد ومن كان معه في المجلس من قول ابن الزبعرى، ورأوا أنه قد احتج وخصم، فذكر ذلك لرسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، فقال النبى صلى الله عليه وسلم الحكيم: كل من أحب أن يعبد من دون الله فهو مع من عبده فى النار.. فنزل قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنى، أُولئِكَ عَنْها مُبْعَدُونَ. لا يَسْمَعُونَ حَسِيسَها، وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنْفُسُهُمْ خالِدُونَ «1»
أى عيسى وعزير ومن عبد الأحبار والرهبان الذين مضوا على طاعة الله تعالى. ونزل فيما يذكرون أنهم يعبدون الملائكة، وأنها بنات الله تعالى: وَقالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَداً سُبْحانَهُ بَلْ عِبادٌ مُكْرَمُونَ.
لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ. يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ. وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلهٌ مِنْ دُونِهِ فَذلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ «2» .
وقال تعالى فى إعجاب المشركين بقول ابن الزبعري: وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلًا، إِذا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ. وَقالُوا أَآلِهَتُنا خَيْرٌ أَمْ هُوَ، ما ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلًا بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ.
273- إن هذه الأخبار التى كان فى القران الكريم رد عليها، تدل على أمور ثلاثة:
أولها: أن هؤلاء كانوا يجادلون النبى صلى الله تعالى عليه وسلم، وأنهم كانوا يستعينون بما عند غيرهم من علوم، كانوا يذهبون إلى اليهود يستعينون بهم يسألونهم أن يدلوا بشيء يحتجون به على النبى صلى الله تعالى عليه وسلم، وقد لقنوهم الأسئلة عن أهل الكهف وعن الروح، وعن ذى القرنين، ونزل القران الكريم بما فيه إشباع النفوس طالبة الحق المريدة له، ولكنهم لم يؤمنوا، بل أصروا إصرارا، وأنغضوا رؤسهم علوا واستكبارا.
وها هم أولاء الان يدرسون أخبارا من الديانات، مع أنهم أميون، لم يكن لهم كتاب يقرؤنه ولا علم دونوه، ومع ذلك حاولوا أن يعرفوا شيئا مما عند اليهود والنصارى، لا ليؤمنوا به، أو ليستعينوا به لمعرفة الحق والوصول إليه، بل ليجادلوا ويختصموا النبى عليه الصلاة والسلام، ولذلك كشف الله تعالى حالهم. يقول
__________
(1) سورة الأنبياء: 101، 102.
(2) سورة الأنبياء: 26- 29.
تعالت كلماته مبينا أنهم لا يريدون إيمانا بل يريدون إعناتا، فقال تعالي: وَقالُوا أَآلِهَتُنا خَيْرٌ أَمْ هُوَ، ما ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلًا، بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ أى يريدون أن يلتمسوا الحجة من أى ناحية.
ثانيها: أنهم كانوا يعتقدون فى ذات أنفسهم أن محمدا صلى الله عليه وسلم على الحق، وأن القران الكريم هو الذى لا يحاكى، ولكنهم يمارون فى الحق بعد ظهوره، ولذلك ما كانوا يسكتون، عند إفحامهم، أو إفحام بعضهم بل إنهم إذا أفحموا بحثوا عما هو أشد لجاجة، وأقوى محاجة فى الظاهر، ولذلك لما أفحم النضر بن الحارث بين أيديهم لم يسلموا بالحق، وقد بدت بيناته، بل قالوا معاندين: وما قام وما قعد. حتى جاء ابن الزبعرى، فأتى بما يظنه مفحما لمحمد عليه الصلاة والسلام، بل كان سبيلا لمعرفة الحق، إن أرادوا رشادا، ولكن ما أرادوه.
ثالثها: أنه فى أثناء الحصار والمقاطعة والقطيعة، ما ونى محمد عليه الصلاة والسلام عن دعوته حتى يئسوا هم، ولم ييأس هو ومن معه من المؤمنين الأشداء الأقوياء، ولو كانوا المعذبين المضطهدين.
وإنه فى أثناء ذلك ما ونى، وما ضعف ولا استكان، ولا وهنت نفسه.
وإن ابن إسحاق قد أتى بأخبار كثيرة عن النبى عليه الصلاة والسلام مع قومه، وقد أفرغوا من الأذى كل ما فى جعبتهم من سهام مريشة، ممزقة جارحة، ولقد قال ابن كثير فى تاريخه بعد ذكر أخبار المجادلة:
كل هذه القصص ذكرها ابن إسحاق معترضا بها بين تعاقد قريش على بنى هاشم، وبنى المطلب، وكتابتهم عليهم الصحيفة الظالمة، وحصرهم إياهم فى الشعب، وبين نقض الصحيفة، وما كان من أمرها وهى أمور مناسبة لهذا الوقت، ولهذا قال الشافعى رحمه الله تعالى: «من أراد المغازى فهو عيال على ابن إسحاق» .
إذن، فالنبى عليه الصلاة والسلام، مواصل دعوته، صادع بأمر ربه لا ينى ولا يقصر، فما نهنهت من عزمته المقاطعة، ولا إرادة الجوع والعرى، بل استمر، وهو يقول فى قوة وعزم: «أنا النذير العريان» .
واذا كانت قريش قد بلغت أقصى الإيذاء، وانتقلت من الإيذاء الأحادى إلى الإيذاء الجماعى، ومن إيذاء المؤمنين واحدهم، إلى إيذائهم مع من يوالونهم من أقارب، وأولياء ونصراء، إذا كانت قد بلغت ذلك، فمحمد عليه الصلاة والسلام لم يعبأ، لأنه مؤيد من رب العالمين.