274- أقصى درجات الشدة قد يفضى إلى نوع من الشفقة، فإن المظلوم الصابر الداعى إلى الحق الذى لا يوجد سبب لإنزال الظلم الصارخ به قد يفتح ينابيع من الشفقة، وقد تنفتح هذه الينابيع من نفس الظالم أو من باشر الظلم.
لقد ظلمات قريش أبناء عمومتها من بنى هاشم وبنى المطلب الذين ارتضوا أن يقاسموا بنى عمومتهم من ذرية هاشم ضراءهم، لأنه كان ينالهم شرفهم، فألزموا أنفسهم بمقاسمتهم الضر، كما انتفعوا من شرف هذه العمومة.
وإننا لا نفرض أن قريشا كلها قد أجمعت على القطيعة من مداخل شعورها، فما انقطعت كل المودات، ومازالت كل الصلات، وإذا كان قد دعا داع فى وقت المباغضة، والمخالفة والحفاظ المخطيء على ما كان عليه الاباء، فاستجابوا أو جلهم تحت تأثير الحمية الوثنية حمية الجاهلية، فليس معنى ذلك أنهم صغت قلوبهم جميعا إلى الداعى الأثيم، بل ربما أجاب من أجاب بظاهر من القول، أو تحت تأثير فورة قد تتبدد، ويبقى الصافى بعدها، أو فى حال نسيان لأصل المودة الموصولة، والمحبة الرابطة، وإن اختلفت النحلة، وتباعد الاعتقاد، فالصلات تقرب البعيد، وتمنع الجفوة المستمرة.
وإن تلك القطيعة فطرت قلوبا مشفقة نحو الإسلام، وأوضحت ظلم الباطل لأهل الحق، وأنهم إذا أعياهم البرهان، بالغوا فى الإعنات، وإن الناس فى البلاد العربية إذ يتسامعون بهذه القطيعة سيتعرفون سببها، ويتذاكرون أمرها، ويحكمون بالشطط على مرتكبيها، فتشيع حقيقة الإسلام ويفشو بين الناس، والنبى عليه الصلاة والسلام لا ينى عن بيان، وتلاوة القران الكريم المشرق بنوره وحججه، وشرف نسبته إلى الله تعالى الذى يخاطب به الخليقة وينادى به الفطرة المستقيمة.
لذلك لابد من نقض الصحيفة، لأنها لم تؤد إلى غرض مقصود، ولو كان مثل غرض أبى جهل، ولم تمنع الدعوة من أن تذيع بين العرب الأدنين منهم والبعيدين عنهم، فكلما كانت محاولة كتم الدعوة، كان بزوغها وظهورها، وانبثاق معينها، وإشراق نورها.
275- أشرنا إلى أنه يبدو من حقائق الأمور، ودخائل النفوس، وبعض مظاهرها أنه لم تكن الموافقة على القطيعة الجماعية كاملة، وإذا كانت بظاهر من العمل، فالقلوب لا تؤيدها، ولا تعاضدها.
وقد قصصنا عليك أيها القارئ الكريم قصة حكيم بن حزام الذى كان يذهب بالبر إلى عمته خديجة وزوجها الطاهر ومن معه من بنى هاشم، واعتراض أبى جهل عليه، وتصدى أبى البخترى لأبى جهل يلومه على أن منع حكيما من أن يوصل القمح لعمته، فتلاحيا، وأخذ أبو البخترى لحى بعير وأعمله فى رأس أبى جهل حتى شجه.
ويظهر أنه كان يقع ذلك من القرشيين، انعطافا على المظلومين، وإكراما للقرابة، ويقول فى ذلك ابن إسحاق: «ولم يبل أحد أحسن من بلاء هشام بن عمرو بن الحارث ... وكان ذا شرف فى قومه، فكان فيما بلغنى يأتى بالبعير، وبنو هاشم وبنو المطلب فى الشعب- ليلا قد أوقره طعاما، حتى إذا بلغ فم الشعب خلع خطامه من رأسه، ثم ضربه على جنبيه فدخل الشعب، ثم يأتى به قد أوقره، فيفعل مثل ذلك» .
وهكذا يتكرر منه العمل، ويتكرر منه التزويد، وهذا لا يدل على خيانة عهد، فليس للاثمين عهد يراعى، ولكنه كان استجابة لصلة القرابة، وإحساسا بظلم تلك الفعلة التى فعلها قومه.
وإذا كان لهشام هذا ذلك الشرف الذى كان يعاون به المحاصرين من قومه، فإنه صاحب الفضل الأول فى ترتيب نقض الصحيفة، من جانب المشركين، وقد ذكرنا من قبل كيف أخبر النبى صلى الله تعالى عليه وسلم بأن الأرضة أكلت ما فيه اسم الله وعهده، وأبقت لهم إثمهم البغيض، وكيف انتهت بنقضها، ولكن الان نبين كيف ابتدأ الانتقاص فى جموعهم.
تولى هذا العمل ابتداء هشام بن عمرو بن الحارث، ولنذكر ترتيبه الحكيم، كما جاء فى البداية والنهاية.
مشى هشام إلى زهير بن أمية بن المغيرة، وكانت أمه عاتكة بنت عبد المطلب، فقال له: أقد رضيت أن تأكل الطعام، وتلبس الثياب، وتنكح النساء، وأخوالك حيث علمت لا يبتاعون، ولا يبتاع منهم، ولا ينكحون ولا ينكح إليهم، أما إنى أحلف بالله لو كانوا أخوال أبى الحكم بن هشام (أى أبى جهل) ثم دعوته إلى مثل ما دعاك إليه منهم، ما أجابك إليه أبدا.
قال زهير: ويحك يا هشام، فماذا أصنع؟ إنما أنا رجل واحد، والله لو كان معى رجل اخر لقمت فى نقضها.
قال هشام: لقد وجدت رجلا. قال من هو؟ قال: أنا، قال هشام: ابغنا ثالثا.
ذهب هشام الكريم إلى المطعم بن عدى، فقال: يا مطعم أقد رضيت أن يهلك بطنان من بنى عبد مناف، وأنت شاهد على ذلك موافق لقريش فيه، أما والله لئن أمكنتموهم من هذا لتجدنهم إليها منكم سراعا. قال: ويحك فماذا أصنع إنما أنا رجل واحد. قال قد وجدت ثانيا. قال فمن هو؟ قال أنا، قال ابغنا ثالثا. قال قد فعلت. قال من هو؟ قال زهير بن أبى أمية، قال: أبغنا رابعا. فذهب هشام إلى أبى البخترى (صاحب اللحى التى ضرب بها أبا جهل) ابن هشام، فقال نحو ما قال للمطعم بن عدى، فقال
وهل تجد أحدا يعين على هذا؟ قال: نعم. قال: من هو؟ قال زهير بن أبى أمية، والمطعم بن عدى وأنا معك. قال: ابغنا خامسا.
ذهب هشام إلى زمعة بن الأسود. فكلمه وذكر له قرابتهم وحقهم. فقال له: وهل على هذا الأمر الذى تدعو إليه من أحد. قال: نعم.
اجتمع أولئك الخمسة الكرام، واتعدوا بأعلى مكة. وتعاقدوا على الدعوة لنقض الصحيفة، ووقف زهير، فكان أول المتكلمين كما كان أول الداعين.
طاف بالبيت سبعا ثم قال وقد أقبل على الناس: يا أهل مكة أنأكل الطعام ونلبس الثياب، وبنو هاشم هلكى لا يبتاعون ولا يبتاع منهم، والله لا أقعد حتى تشق هذه الصحيفة القاطعة الظالمة.
قال أبو جهل: والله لا تشق.
قال زمعة بن الأسود: أنت والله أكذب، ما رضينا كتابتها، حين كتبت.
قال أبو البخترى: صدق زمعة ما نرضى ما كتب فيها ولا نقربه.
قال المطعم بن عدى: صدقتما وكذب من قال غير ذلك، نبرأ إلى الله منها، ومما كتب فيها.
قال أبو جهل: هذا أمر قد قضى بليل تشوور فيه بغير هذا المكان.
276- من هذا الكلام يستفاد أن كبار الذين لا ضغن عندهم على بنى هاشم، وإن لم يذعنوا لدعوة النبى صلى الله تعالى عليه وسلم لم يكونوا راضين بهذه القطيعة التى لم يكن لها جدوى إلا إثارة العطف على محمد عليه الصلاة والسلام وعشيرته ودعوته وإنما كانوا مورطين.
ولقد جرت هذه المناقشة وأبو طالب العظيم مستمع وجالس فى ناحية من المسجد، كأن القول لا يهمه، وكأنه المعنى بالأذى.. هو وعشير من أمثال اللئيم أبى جهل، والمعنى بالمودة من كرام قومه.
ولكنه عندما وجد القوم قد اعتزم خيارهم الأمر، وأرادوا قطعها، قال لهم مقالة الحق التى أخبره بها النبى صلى الله تعالى عليه وسلم.
يا معشر قريش إن ابن أخى قد أخبرنى بأن الأرضة أكلت الظلم والقطيعة والبهتان، ولم تدع فيها اسما لله إلا أثبتته فهلم إلى صحيفتكم، فإن كانت كما قال، فانتهوا عن قطيعتنا، وانزلوا عندها، وإن كان كاذبا دفعت إليكم ابن أخى.
عندئذ نقضت قريش الصحيفة رغم أنف أبى جهل وأشباهه.
,
277- نقضت الصحيفة المشئومة، ولا شك أنه فى وسط الجاهلية العمياء وجد بصر رجح داعى المروءة، وصلة الرحم، وأكثرهم كانوا ذوى نسب أو صهر بنى هاشم أو قرب نسب من البطون، أو سبب الأنكحة، ومنهم من حركتهم المروءة والنخوة، واحترام الأرومة، وترجيح الشرف مع اختلاف الدين على الضعف بسببه. وقاوموا نذلة أبى جهل، ودقوا أنفه، وقال قائلهم: لو كان فيهم ذو رحم بأبى جهل ما ارتضى تلك القطيعة.
وقد قدر النبى صلى الله تعالى عليه وسلم لذوى المروات مروءتهم، وأكثرهم دخل فى الإسلام وحسن إسلامه، وكان خيرا فى جاهليته وخيرا فى إسلامه فاجتمعت له الحسنيان، ونال الشرفين شرف الهمة والمروءة وشرف الإيمان.
ومنهم من لم يدخل فى الإسلام، ولكن محمدا عليه الصلاة والسلام عرف له مروءته، وقدرها له حق قدرها.
ومن هؤلاء أبو البخترى فهو الذى ضرب أبا جهل بلحى البعير ووطأه وطئا شديدا عندما منع حكيم ابن حزام من توصيل القمح لخديجة وزوجها خاصة وبنى هاشم عامة.
وأبو البخترى هذا كان أحد الخمسة الذين نادوا حول الكعبة الشريفة بوجوب خرق الصحيفة ونقض ما فيها، وأصر على ذلك إصرارا جعل أبا جهل وأشباهه يخرجون مذمومين مدحورين.
عرف النبى صلى الله تعالى عليه وسلم تلك السابقة المكرمة، ومحمد عليه الصلاة والسلام لا ينسى السابقات المكرمات، واعتزم أن يجزيه على موقفه الجزاء الموفور، فالوفاء خلق محمد عليه الصلاة والسلام، وخلق الإسلام.
ولقد كان يتمنى عليه الصلاة والسلام أن يسلم، ليكون كإخوانه الذين أسلموا، ونالوا الحسنيين ولكنه لم يسلم، بل استمر على شركه، وبلغه عليه الصلاة والسلام أنه خرج مقاتلا فى صفوف المشركين فى غزوة بدر الكبرى، فأوصى المسلمين ألا يقتله أحد منهم إذا لقيه وتمكن منه.
فلقيه أحد المجاهدين ومعه صاحب له من المشركين، فذكر له وصية النبى عليه الصلاة والسلام، فدفعته مروءته أيضا إلى ألا ينفرد بالنجاة، ويقتل صاحبه، فقال إما نقتل معا، وإما أن ننجو معا، فقتلهما المجاهد معا، وليته لم يفعل.
إنى أحسب أنه خالف وصية النبى صلى الله عليه وسلم، فهو أمر ألا يتعرض له وألا يقتله وما كان ثمة من مانع من أن ينجيهما، بل إنى أحسب أنه كان من المستحسن أن ينجيهما؛ لأن الإسلام ينهى عن القتل إلا للضرورة وقد كانت مندوجة، ونحسب أنه لو عاش لكان من المؤمنين، فخيار قريش فى الجاهلية خيارهم فى الإسلام إن آمنوا، وإن فى نفسى حسكة تشك قلبى إذا تذكرت أن أبا البخترى قتلته السيوف الإسلامية بغير إرادة النبى صلى الله تعالى عليه وسلم.