450- ذات الرقاع بقعة فيها نخل، وقيل سميت ذات الرقاع، لأن الألوية كان فيها رقاع، وقيل غير ذلك، فقيل أنهم كانوا يربطون على أرجلهم الخرق والرقاع من شدة الرياح.
كانت هذه الغزوة في آخر جمادى من السنة الثالثة.
وكان الاتجاه في هذه الغزوة إلى بنى محارب، وبنى ثعلبة من غطفان، وخرج رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم في أربعمائة مقاتل.
وذلك لما كان من عامر بن الطفيل، وقتل أكثر من سبعين والقراء من المؤمنين خديعة وغدرا مما يدل على الاستهانة بالرسول وجيشه بعد غزوة أحد التى ادعى فيها بغير الحق هزيمة المؤمنين وإشاعة ذلك فى الصحراء ليستردوا هيبتهم، ويحرضوا العرب على محمد صلى الله تعالى عليه وسلم ومن معه من المؤمنين.
وكان لا بد للنبى صلى الله تعالى عليه وسلم من أن يعلن قوة الإيمان، وأن يقتص من الذين قتلوا الأبرار الأتقياء من أصحابه غدرا وخيانة.
خرج إليهم رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم في أربعمائة رجل كما ذكرنا، فوجد جمعا عظيما من غطفان، فلما تراءى الجمعان تهيب كل صاحبه، ويقول ابن إسحاق خاف الناس بعضهم بعضا، ولم يكن قتال، فلم ينل محمد صلى الله تعالى عليه وسلم منهم، ولم يقتص لأولئك الأبرار الذين قتلوا خيانة وغدرا.
ولكنهم إذا كانوا لم يقتصوا منهم لكثافة عددهم وكانوا عددا كبيرا وبعد الشقة بين موضع القتال والمدينة، فإن النبى عليه الصلاة والسلام قد أرهبهم، واسترد ما كان للجيش الإسلامى من هيبة، وذهبت سورة ما أنشأته قريش لنفسها..
وفوق ذلك، ارتاد البلاد العربية، وتعرف مداخلها، ثم أشار لقريش إلى أنه يرصدهم كل مرصد، ويتتبع متاجرهم إن أراد، وما كان الدخول في معركة يشك في نتيجتها خيرا من أن يصل إلى الأمور من غير حرب، وأما القصاص لأولئك الأبرياء الذين ذهبوا في غدر دنيء، وخفر للعهد لا يرضى عنه عربي، ولا يقبله من له مروءة، فإن أمر ذلك إلى الله، والمستقبل القريب، وإن ربك لبالمرصاد، وما كان النبى صلى الله تعالى عليه وسلم لينتقم إذا استجابوا لله وآمنوا بما أنزل على الرسول.
,
452- إذا كانوا قد غدروا بالسبعين قارئا، وقد أمنوهم، فقتلوهم وقد جاؤا بأمان مكتوب فمزقوه وفجروا بقتلهم، ولم يرعوا إلا ولا ذمة، إذا كانوا قد فعلوا ذلك، فقد كان منهم من أراد أن يرتكب ما هو أشد من ذلك غدرا، وأبعد أثرا، وأفجر فعلا.
فقد روى ابن إسحاق بسنده أن رجلا اسمه غورث بن الحارث من بنى محارب، قال لقومه:
ألا أقتل لكم محمدا؟ قالوا: وكيف تقتله؟ قال: أفتك به، فأقره الغادرون، وأعادوا غدرهم جذعا، وكانوا الغادرين في العرب، ولم يكونوا الشجعان الأبطال.
أقبل الرجل إلى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، وهو جالس آمن وسيفه في حجره، فقال الرجل: يا محمد انظر إلى سيفك هذا؟
فجعل الرجل يهز السيف، ويهم به، فكبته الله، ثم قال: يا محمد، أما تخافنى؟ قال النبى صلى الله تعالى عليه وسلم: لا، يمنعنى الله تعالى منك.
هذه رواية ابن إسحاق، وفي الصحيحين عن جابر أنه غزا مع رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم غزوة نجد، أى ذات الرقاع، فلما قفل راجعا أدركته القافلة في واد كثير العضاة، فتفرق الناس يستظلون، وكان رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم تحت ظل شجرة، فعلق بها سيفه، قال جابر فنمنا نومة، فإذا رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم يدعونا، فأجبناه، وإذا عنده أعرابي، فقال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: «إن هذا اخترط سيفي، وأنا نائم، فقال من يمنعك منى قلت الله، فشام السيف وجلس، ولم يعاقبه» .
وفي رواية مسلم زيادة، وهى عن جابر: «أقبلنا مع رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، حتى إذا كنا بذات الرقاع، وكنا إذا أتينا على شجرة ظليلة تركناها لرسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فجاءه رجل من المشركين وسيف رسول الله معلق على شجرة، فأخذه فاخترطه، وقال لرسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: «تخافنى؟ قال: لا، قال: فما يمنعك منى؟ قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: الله يمنعنى منك.
ويروى أن السيف سقط من يد الرجل فأخذه رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، وقال: من يمنعك منى فقال الرجل خاضعا: كن خير آخذ، قال تشهد أن لا إله إلا الله، قال: لا، ولكن أعاهدك على ألا أقاتلك، ولا أقاتل من يقاتلونك، فخلى سبيله، فأتى أصحابه، وقال: جئتكم من عند خير الناس.
وتعدد الروايات لا يمنع صدقها، وهى يتمم بعضها بعضا، ولا اختلاف بينها، وكلها يذكر أنها كانت في ذات الرقاع.
وإذا كانت قد ذكرت في غيرها، فإن ذلك دليل على تكرارها، ولا تنافى بين الروايات.
وقد ذكرنا هذه القصة لأمرين:
أولهما: ما انحدر إليه بعض المشركين من أخلاق تتنافى مع مراعاة الجوار والمروءة، وفيها إرادة الغدر والقتل من غير مواجهة، وكيف استباحوا ذلك بالنسبة للنبى صلى الله تعالى عليه وسلم كفرا وفسوقا وعنادا.
ثانيها: أن ذلك بلا ريب فيه أمر خارق للعادة، لأن السيف تنقبض عليه اليد في وقت إرادة الضرب ثم يسقط من يده على غير إرادة منه، وقد اعتزم الشر وبيته ودبره، فلما حانت ساعته، خانته يده، وقد كان ذلك من النبى صلى الله تعالى عليه وسلم في أمور كثيرة، ولكن لم يجعلها دليل نبوته، ولم يتحد بها العرب، بل تحدى بالقرآن وحده، لأنه ما جاء بالخوارق الحسية، كعصا موسى وإبراء الأكمه والأبرص وغير ذلك من الحوادث التى تنقضى بمجرد وقوعها، بل كانت معجزته باقية، لأن رسالته باقية، لا تنقضى بزمانها، وهى القرآن الباقى الخالد الذى يتحدى الناس في كل جيل وفي كل مكان.
قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً (الإسراء- 88) .