96- عادت أم أيمن بركة الحبشية إلى مكة وسلمت الغلام الطاهر إلى جده عبد المطلب، وقد بلغ السادسة من عمره الكريم العامر بالخير، وعمل الصالحات، فأدناه إليه وقربه.
وفى البيت كان الصبية من أولاد عبد المطلب، والشباب من الرجال والنساء، كان فيه حمزة وكان فيه العباس، وكانت فيه هالة زوج عبد المطلب وابنة عم أمه، فهى ذات رحم، وما كان يمكن أن تنظر إليه، كما تنظر أزواج الاباء، إلى ذرية أزواجها، بل كانت تعد كخالته، لأنها ابنة عم أمه، وهى ربة البيت الراغبة لبيت زوجها الكريم، ولذريته الأطهار، فما كانت تنظر إليه شزرا، بل كانت تحبوه من عطفها ما تحبوه لولدها، فكان فى وسط مملوء بالعطف والصلاح، فما قهره يتمه، ولا أرهقه فقد أبويه، وإن لم يكن عزه كمثل عزهما، ولا عطفه كمثل عطفهما، ولكن من حواليه، لم يبقوا عطفا يستطيعونه إلا قدموه.
وكان جده عبد المطلب يرى فيه أعلى صورة للغلمان، والتقت فيه محبتان من عبد المطلب، إحداهما محبة أبيه الذى اهتصره الموت، وعوده أخضر، ومحبة الغلام الطاهر فى ذاته، فكان يدنيه إليه، وإذا كان اليتم بطبيعته يوجد انفرادا نفسيا، واعتزالا، فإن الجد العظيم خشى أن يكون لذلك أثره فى قلب هذا الغلام الحبيب، فكان يبالغ فى تقريبه منه حتى يأنس به دائما، جاء فى السيرة لابن إسحاق: «كان يوضع لعبد المطلب فراش فى ظل الكعبة وكان بنوه يجلسون حول فراشه ذلك حتى يخرج إليه لا يجلس عليه أحد من بنيه إجلالا له، فكان رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم يأتى وهو غلام جفر حتى يجلس عليه، فيأخذه أعمامه ليؤخروه عنه، فيقول عبد المطلب إذا رأى ذلك منهم: «دعوا ابنى فو الله إن له لشأنا» ثم يجلسه معه على فراشه، ويمسح ظهره بيده، ويسره ما يراه يصنع» .
حباه عبد المطلب بالعطف الأبوى، فكان ينسبه إليه مباشرة فلا يقول ابن عبد الله، ولكن يقول ابنى، ليأتنس به ويؤنسه، ويمنع عنه الإحساس بغربته بين أولاده، ولكيلا يحس بأنه دونهم، ويفضله عليهم فى المجلس. ليمنع قهر اليتم، فألقى الله سبحانه محبة منه عليه.
إن أخشى ما يخشاه القوامون على اليتامى أن يحسوا بانفراد، فلا يألفوا الناس، فكان عبد المطلب الحكيم العطوف الكريم يبث روح الائتلاف فى هذا اليتيم.
وكأن فطرة عبد المطلب السليمة، وفراسته كانا يلهمانه أنه سيكون له شأن، وبدت إرهاصات ذلك فى منامه الذى ارتاه، ثم فى أحواله التى شاهدها، ثم فى الأخبار التى جاءت عنه وهو فى البادية عند حليمة
وزوجها، ولذلك كان يبدو على لسانه ما يدل على أنه يتوقع له خيرا عظيما، كما جاء فى الخبر الذى سقناه، وقد قال أيضا ابن اسحاق، مرويا بسنده، «لما توفيت امنة قبضة إليه جده عبد المطلب، وضمه ورق عليه رقة لم يرقها على ولده، وكان يقربه منه ويدنيه، ويدخل عليه إذا خلا، وإذا نام، وكان يجلس على فراشه، فيقول عبد المطلب إذا رأى ذلك: «دعوا ابنى إنه يؤسس ملكا» «1» .
وكان فى ذلك البيت قلب اخر منحه محبة الأم، ورأت فيه وجودها، تحنو عليه كأمه، وهى التى حضنته كأمه، واوت به من غربته وهى أم أيمن، وكان عبد المطلب يعتمد عليها إذا غاب عنه فى رعايته فكان يحثها على أن تبلغ أقصى الغاية فى العناية به، فيقول: لها «يا بركة لا تغافلى عن ابنى فإنى وجدته فى غلمان قريب من السدرة، وإن أهل الكتاب يزعمون أن ابنى نبى هذه الأمة» .
ولكمال عطفه، وإيناسه، وتأليفه بكمال حنوه كان لا يأكل طعاما إلا يقول على بابنى، فيؤتى به، ولكن الله تعالى يختبر نفس الغلام بحرمان ثالث، فقد اختطف الموت أباه ولم تكتحل عيناه برؤيته، واختبره ثانيا بأن اهتصر الموت عود أمه، وقد أدرك معنى حنو الأمهات، وراها كالعود الأخضر، يذبل، ويذوى، ثم اختبره ثالثة، وقد رأى جده الكريم يتركه، فقد الأبوة القريبة، والأبوة البعيدة، وقد أحس بعظم ما فقد عند سمع المراثى فيه، وهى تعلن مكانته، ومحبته وأنه قد ابتدأت، وهو لا يزال حيا، ولكن الموت يدنو منه.
وكانت الأشعار تجيء بالرثاء من بناته، ويقول ابن إسحاق «إنه لما أحس بذلك الموت أمر بناته أن يرثينه فكن يرثينه، وهو يسمع» .
وهذا الرثاء هو أبلغ النواح، وإن ذلك الخبر يدل على أنه كان فى وعى كامل، ولم يصبه خرق الشيخوخة.