ثم كانت غزوة الطائف.
وذلك أن رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم لما فتح حنينا، بعث الطفيل ابن عمرو بن طريف بن العاص بن ثعلبة بن سالم بن فهم الدّوسيّ إلى ذي الكفّين- صنم عمرو بن حمه- يهدمه، وأمره أن يستمدّ قومه ويوافيه بالطائف، وقال له:
أفش السلام، وأبذل الطعام- واستحي من اللَّه كما يستحي الرجل ذو الهيئة من أهله [ (1) ] ، إذا أسأت فأحسن، إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ ذلِكَ ذِكْرى لِلذَّاكِرِينَ [ (2) ] .
فخرج إلى قومه فهدم ذا الكفين، وجعل يحشو النّار في وجهه ويحرقه ويقول:
يا ذا الكفين لست من عبّاكا ... ميلادنا أقدم من ميلادكا
أنا حششت [ (3) ] النار في فؤادكا
ووافى معه بأربعمائة، بعد ما قدم عليه السلام الطائف بأربعة أيام، ومعه دبّابة، ومنجنيق. ويقال: بل اتخذ المنجنيق سلمان الفارسيّ، وقدم بالدبّابة خالد بن سعيد ابن العاص من جرش [ (4) ] . وكان مع رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم حسك من خشب [ (5) ] يطيف بعسكره.
__________
[ (1) ]
كذا في (خ) ، (ط) وفي (الواقدي) ج 3 ص 922 «كما يستحي الرجل ذو الهيئة من أهله»
وذو الهيئة: ذو الوقار.
[ (2) ] نص الآية 114/ هود كالآتي: وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهارِ وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ ذلِكَ ذِكْرى لِلذَّاكِرِينَ.
[ (3) ] في (الواقدي) ج 3 ص 923 «حشوت النار في فؤادكا» . وحش النار: جمع إليها ما تفرق من الحط.
[ (4) ] في (خ) «بن جرش» وجرش اسم مدينة سبق شرحها اسمها راجع (معجم البلدان) ج 2 ص 127.
[ (5) ] الحسك: نبات تعلق ثمرته بصوف الغنم، ورقه كورق الرّجلة وأدق، وعند ورقه شوك ملزز صلب ذو ثلاث شعب، وله ثمر شربه يفتت حصى الكليتين والمثانة. وكذا شرب عصير ورقه جيد للباءة، وعسر البول ونهش الأفاعي، ورشه في المنزل يقتل البراغيث، ويعمل في مثال شوكه أداة للحرب من حديد أو قصب. فيلقى حول العسكر ويسمى باسمه. (ترتيب القاموس ج 1 ص 641.
,
ثم نزل قريبا من حصن الطائف وعسكر به، فرموا بنبل كثير أصيب به جماعة من المسلمين بجراحة، فحوّل عليه السلام أصحابه، وعسكر حيث لا يصيبهم رمي أهل الطائف، وثار المسلمون إلى الحصن، فقتل يزيد بن زمعة بن الأسود بن المطلب ابن أسد بن عبد العزّى بن قصيّ القرشيّ الأسدي، فظفر أخوه يعقوب بن زمعة بهذيل بن أبي الصّلت، [أخي أميّة بن الصلت] . وقال: هذا قاتل أخي! فضرب عنقه، وأقام صلى اللَّه عليه وسلّم على حصار الطائف ثمانية عشر يوما، وقيل تسعة عشر يوما، وصحح ابن حزم إقامته عليه السلام بضع عشرة ليلة وفي الصحاح عن أنس بن مالك قال: فحاصرناهم أربعين يوما. يعني ثقيفا.
مصلى رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم
فكان في إقامته يصلّي ركعتين بين قبّتين قد ضربتا لزوجتيه أمّ سلمة وزينب رضي اللَّه عنهما. فلما أسلمت ثقيف، بني أمية بن عمرو بن وهب بن معتّب ابن مالك [ (4) ] على مصلى النبي صلى اللَّه عليه وسلّم مسجدا، وكان فيه سارية-[فيما
__________
[ (1) ] ليّة: من نواحي الطائف مرّ به رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم حين انصرافه من حنين يريد الطائف (معجم البلدان) ج 5 ص 30.
[ (2) ] من القود: وهو القصاص.
[ (3) ] في (خ) «وحرق عليه» .
[ (4) ] كذا في (خ) ، (ط) ، واسمه محل خلاف عند أهل السير، ففي (الواقدي) ج 3 ص 927 «أمية ابن عمرو بن وهب» وفي (ابن هشام) ج 4 ص 94: «عمرو بن أمية بن وهب» وفي (الطبري) ج 3 ص 84 «أبو أمية بن عمرو بن وهب» .
يزعمون] [ (1) ]- لا تطلع الشمس عليها [يوما] [ (1) ] من الدهر إلا يسمع لها نقيض أكثر من عشر مرار، وكانوا يرون أن ذلك تسبيح [ (2) ] .
,
ونصب صلى اللَّه عليه وسلّم المنجنيق على حصن الطائف، وقد أشار به سلمان الفارسيّ رضي اللَّه عنه، وقد عمله بيده، وقيل: قدم به يزيد بن زمعة ومعه دبابتان [ (3) ] ، وقيل:
قدم به الطّفيل بن عمرو: وقيل: قدم به وبدبابتين خالد بن سعيد من جرش [ (4) ] ونثر صلى اللَّه عليه وسلّم الحسك حول الحصن، ودخل المسلمون تحت الدبابتين، ثم زحفوا [ (5) ] بها إلى جدار الحصن ليحفروه، فأرسلت عليهم ثقيف سكك [ (6) ] الحديد محماة بالنار فحرقت الدبابتين- وكانت من جلود البقر- فأصيب من المسلمين جماعة، وخرج من بقي من تحتها فقتلوا بالنبل. فأمر عليه السلام بقطع أعنابهم وتحريقها، فقطعها المسلمون قطعا ذريعا.
فنادى سفيان بن عبد اللَّه الثّقفي: يا محمد! لم تقطع أموالنا؟ إما أن تأخذها إن ظهرت علينا، وإما أن تدعها [للَّه] [ (7) ] وللرحم كما زعمت! فقال عليه السلام: للَّه وللرّحم! وكفّ عنها.
,
ونادى منادى رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم: أيّما عبد نزل من الحصن وخرج إلينا فهو حر [ (8) ] ! فخرج بضعة عشر رجلا: أبو بكرة، والمنبعث، والأزرق [أبو عقبة الأزرق] ، ووردان، ويحنّس النّبّال، وإبراهيم بن جابر، ويسار، ونافع، وأبو السائب [ (9) ] ، ومرزوق، فأعتقهم صلى اللَّه عليه وسلّم، ودفع كلّ رجل منهم إلى رجل من
__________
[ (1) ] زيادة من الطبري ج 3 ص 84 وابن هشام ج 4 ص 94.
[ (2) ] في (خ) «تسبيحا» .
[ (3) ] في (خ) «دبابتين» .
[ (4) ] في (خ) «بن جرش» .
[ (5) ] في (خ) «رجفوا» .
[ (6) ] السكة: الحديدة التي يحرث بها الأرض.
[ (7) ] زيادة للسياق.
[ (8) ] يقول ابن كثير في (البداية والنهاية) ج 4 ص 347: [هذا الحديث تفرد به أحمد ومداره على الحجاج ابن أرطاة وهو ضعيف، ولكن ذهب الإمام أحمد إلى هذا، فعنده أن كل عبد جاء من دار الحرب إلى دار السلام عتق حكما شرعيا مطلقا عاما، وقال آخرون: إنما كان هذا شرطا لا حكما عاما، ولو صح هذا الحديث لكان التشريع العام أظهر كما
في قوله عليه السلام: «من قتل قتيلا فله سلبه» ] .
[ (9) ] كذا في (ط) وفي (خ) «ونافع أبو السائب» وهي رواية (الواقدي) ج 3 ص 931.
المسلمين يمونه ويحمله، وأمرهم أن يقرؤهم القرآن ويعلموهم السنن، فشق ذلك على أهل الطائف.
,
فأذّن عمر بالرحيل، فشقّ على المسلمين رحيلهم بغير فتح. ورحلوا، فأمرهم عليه السلام أن يقولوا: لا إله إلا اللَّه وحده، صدق وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده فلما استقلوا المسير قال: قولوا آئبون إن شاء اللَّه تائبون عابدون لربنا حامدون [ (5) ] . وقيل له لما ظعن: يا رسول اللَّه: أدع اللَّه على ثقيف! فقال:
اللَّهمّ أهد ثقيفا وأت بهم! وكان من استشهد بالطائف أحد عشر رجلا [ (6) ] .
,
ولما نزل بسير وهو شعب بالصّفراء قسم الغنائم بين أصحابه، وتنفلّ سيفه ذا الفقار وكان لمنبّه بن الحجّاج فكان صفيّه، وأخذ سهمه مع المسلمين وفيه جمل أبي جهل. وكان مهريا [ (7) ] ، فكان يغزو عليه ويضرب في لقاحه.
__________
[ (1) ] في (خ) «ما وعد» .
[ (2) ] في (خ) «قال» ، وما أثبتناه من (المغازي) ج 1 ص 112.
[ (3) ] في (خ) «خرنتموني» وما أثبتناه من (ط) .
[ (4) ] في (خ) «لمالها» .
[ (5) ] يقول (الواقدي) ج 1 ص 117: «الأثيل واد طوله ثلاثة أميال وبينه وبين بدر ميلان، فكأنه بات على أربعة أميال من بدر» .
[ (6) ] في (خ) «ذكوان بن قيس» والتصويب من المرجع السابق.
[ (7) ] نسبة إلى مهرة بن حيوان، وهم قبيلة عظيمة تنسب إليها الإبل (هامش ط) ص 98.
وبالصفراء مات عبيدة بن الحارث رضي اللَّه عنه. واستقبل طلحة وسعيد بن زيد رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم بتربان [ (1) ] [فيما بين ملل والسيالة] وهو منحدر من بدر يريد المدينة.
بشرى أهل المدينة بنصر رسول اللَّه
وقدم زيد بن حارثة وعبد اللَّه بن رواحة من الأثيل إلى المدينة فجاء يوم الأحد شدّ [ (2) ] الضحى فنادى عبد اللَّه: يا معشر الأنصار، أبشروا بسلامة رسول اللَّه وقتل المشركين وأسرهم، ثم اتّبع دور الأنصار فبشرهم. وقدم زيد بن حارثة على ناقة رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم القصواء يبشر أهل المدينة فلم يصدق المنافقون ذلك وشنّعوا، وقدم شقران بالأسرى وهم في الأصل سبعون. وتلقى الناس رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم بالرّوحاء يهنئونه بفتح اللَّه، فقدم المدينة صلّى اللَّه عليه وسلّم مؤيدا مظفّرا منصورا قد أعلى اللَّه كلمته ومكّن له وأعزّ نصره، ودخلها من ثنية الوداع في يوم الأربعاء الثاني والعشرين من رمضان فتلقاه الولائد بالدفوف وهنّ يقلن:
طلع البدر علينا ... من ثنيات الوداع
وجب الشكر علينا ... ما دعا للَّه داع
,
وفرّق السبي فصار في أيدي الرجال، وقسم المتاع والنعم والشاء، وعدلت الجزور بعشر من الغنم، وبيعت رثة المتاع فيمن يزيد، وأسهم للفرس سهمان ولصاحبه سهما، وللراجل سهما، وكانت الإبل ألفي بعير وخمسة آلاف شاة، وكان السّبي مائتي أهل بيت.
خبر جويرية بنت الحارث وزواج رسول اللَّه بها، وبركتها على أهلها
وصارت جويرية بنت الحارث بن أبي ضرار في سهم ثابت بن قيس بن شماس
__________
[ (1) ] زيادة البيان.
[ (2) ] في (خ) «جز» .
[ (3) ] في (خ) «بمعزل عن الصدقة بمعزل عن الفيء» .
[ (4) ] في (خ) «وقال» .
أو ابن له، فكاتبها على تسع أواق من ذهب،
فبينا النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم على الماء إذ دخلت عليه تسأله في كتابتها وقالت: يا رسول اللَّه، إني امرأة مسلمة وتشهدت وانتسبت، وأخبرته بما جرى لها واستعانته في كتابتها، فقال: أو خير من ذلك، أؤدي عنك كتابتك وأتزوجك! قالت: نعم. فطلبها من ثابت فقال: هي لك يا رسول اللَّه.
فأدى ما عليها وأعتقها وتزوجها، وخرج الخبر إلى الناس وقد اقتسموا رجال بني المصطلق وملكوهم ووطئوا نساءهم، فقالوا: أصهار النبي! فأعتقوا ما بأيديهم من ذلك السبي. وكانت جويرية رضي اللَّه عنها عظيمة البركة على قومها.