واشتد الأذى على من بمكة من المسلمين فأذن لهم رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم في الهجرة
__________
[ (1) ] زيادة من المرجع السابق لتمام العدد وهو ساقط من (خ) .
[ (2) ] في (خ) «سليمة» ، والتصويب من المرجع السابق.
[ (3) ] في (خ) «ابن الحارث» والتصويب من المرجع السابق.
[ (4) ] في (خ) «ابن أسلم» والتصويب من المرجع السابق.
[ (5) ] في (خ) «زنيرا، وفي (ط) «زنبر» وفي المرجع السابق «زنير» وفي (الإصابة) ج 3 ص 282 يقول ابن حجر في الترجمة رقم 1952: «رفاعة بن زنبر بزاي ونون وموّحدة وزن جعفر. ذكره ابن ماكولا. وقال: له صحبة. واستدركه ابن الأثير، وأنا أظن أنه رفاعة بن عبد المنذر بن زنبر» .
ويقول في ج 3 ص 284 في الترجمة رقم 1958 «رفاعة بن عبد المنذر.. أحد ما قيل في اسم لبابة» .
[ (6) ] في (خ) «بشر» ، وفي (ط) «مبشر» .
[ (7) ] يقول ابن سعد في (الطبقات) ج 1 ص 220: «ومن الأوس رجلان: أو الهيثم بن التّيّهان من بليّ حليف في بني عبد الأشهل، ومن بني عمرو بن عوف عويم بن ساعدة» .
[ (8) ] في المرجع السابق: «فأسلموا وبايعوا على بيعة النساء» .
إلى المدينة، فبادروا إلى ذلك وتجهزوا إلى المدينة في خفاء [ (1) ] وستر وتسللوا، (فيقال: إنه كان بين أولهم وآخرهم أكثر من سنة) وجعلوا يترافدون [ (2) ] بالمال والظهر ويترافقون. وكان من هاجر من قريش وحلفائهم (يستودع دوره وماله) [ (3) ] رجلا من قومه، فمنهم من حفظ من أودعه، ومنهم من باع، فممن حفظ وديعته [ (4) ] هشام بن الحارث بن حبيب، فمدحه حسان.
أوّل من هاجر بعد العقبة الأخيرة
وخرج أول الناس أبو سلمة عبد اللَّه بن عبد الأسد بن هلال بن عبد اللَّه بن عمر بن مخزوم [ (5) ] ، ومعه امرأته أم سلمة [ (6) ] هند بنت أبي أمية بن المغيرة بن عبد اللَّه بن عمر بن مخزوم، فاحتبست دونه ومنعت من اللحاق به، ثم هاجرت بعد سنة، وقيل: بل هاجر أبو سلمة رضي اللَّه عنه قبل العقبة الأخيرة. وقيل: أول من هاجر مصعب بن عمير [ (7) ] ثم هاجر عمار بن ياسر، وسعد بن أبي وقاص، وابن مسعود، وبلال، ثم هاجر عمر بن الخطاب في عشرين راكبا، ثم تلاحق المسلمون بالمدينة يخرجون من مكة أرسالا [ (8) ] حتى لم يبق بمكة إلا رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، وأبو بكر الصديق وعلي بن أبي طالب رضي اللَّه عنهما- أقاما بأمره لهما- وإلا من اعتقله المشركون كرها.
ائتمار قريش به صلّى اللَّه عليه وسلّم وخروجه واستخلافه عليا
فحذرت قريش خروج رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم واشتوروا بدار الندوة، وكانوا خمسة عشر رجلا، وقيل: كانوا مائة رجل، أيحسبوه في الحديد ويغلقوا عليه بابا؟ أو يخرجوه من مكة؟ أو يقتلوه؟ ثم اتفقوا على قتله. ويسمى اليوم الّذي اجتمعوا
__________
[ (1) ] في (خ) «خفي» .
[ (2) ] يترافدون: يتعاونون، والظّهر: ما يركب.
[ (3) ] ما بين القوسين زيادة يتم بها المعنى، وفي (خ) مكان هذه الزيادة «درره» .
[ (4) ] في (خ) «وداعته» .
[ (5) ] «واسمه عبد اللَّه» (ابن هشام) ج 2 ص 80.
[ (6) ] ثم هي بعد ذلك أم المؤمنين زوج النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم.
[ (7) ] ذكره ابن الجوزي في (تلقيح فهوم أهل الأثر) ص 467.
[ (8) ] جمع رسل بفتحتين، أي يتبع بعضهم بعضا.
فيه يوم الزحمة [ (1) ] ، فأعلمه اللَّه بذلك.
فلما كان العتمة اجتمعوا على باب رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم يرصدونه حتى ينام فيثبون عليه. فلما رآهم صلّى اللَّه عليه وسلّم أمر عليا بن أبي طالب رضي اللَّه عنه أن ينام على فراشه ويتشح [ (2) ] ببرده الحضرميّ الأخضر، وأن يؤدي ما عنده من الودائع والأمانات ونحو ذلك.
فقام عليّ مقامه عليه السلام وغطي ببرد أخضر، فكان أول من شرى نفسه [ (3) ] وفيه نزلت: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللَّهِ [ (4) ] وخرج صلّى اللَّه عليه وسلّم وأخذ حفنة من تراب وجعله على رءوسهم وهو يتلو الآيات من:
يس* وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ [ (5) ] إلى قوله: فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ [ (5) ] . فطمس اللَّه تعالى أبصارهم فلم يروه، وانصرف. وهم ينظرون عليا فيقولون: إن محمدا لنائم، حتى أصبحوا، فقام علي من الفراش [ (6) ] ، فعرفوه. وأنزل اللَّه تعالى في ذلك:
وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ [ (7) ] ،
وسأل أولئك الرهط عليا رضي اللَّه عنه عن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم فقال: لا أدري،
أمرتموه بالخروج فخرج، فضربوه وأخرجوه إلى المسجد فحبسوه ساعة ثم (دخلوا عليه) [ (8) ] فأدى أمانة رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم.
,
ولما خرج صلّى اللَّه عليه وسلّم أتى أبا بكر فأعلمه أنه يريد الهجرة. وقد جاء أنه أتى أبا بكر بالهاجرة [ (9) ] وأمره أن يخرج من عنده، وأعلمه أن اللَّه قد أذن له في الخروج،
فقال أبو بكر رضي اللَّه عنه: الصحبة يا رسول اللَّه؟ قال: الصحبة.
فبكى من
__________
[ (1) ] راجع (عيون الأثر) ج 1 ص 177.
[ (2) ] كذا في (خ) والصواب: «يتسجى» أي يتغطى.
[ (3) ] في (خ) «بنفسه» ، وشرى نفسه أي باعها.
[ (4) ] الآية 207/ البقرة.
[ (5) ] الآيات من 1- 9/ يس.
[ (6) ] في (خ) عن الفرس.
[ (7) ] الآية 30/ الأنفال
[ (8) ] كذا في (خ) ولعلها «ثم خلوا عنه» .
[ (9) ] الهاجرة: نصف النهار عند اشتداد الحر (المعجم الوسيط) ج 2 ص 973.
الفرح. فاستأجر عبد اللَّه بن أريقط الليثي من بني الدّئل من بني عبد بن عديّ، ليدلهما على الطريق. وخرجا من خوخة [ (1) ] في بيت أبي بكر، ومضيا إلى غار بجبل ثور، فلم يصعدا الغار حتى قطرت قدما رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم دما، لم يتعود الحفية ولا الرعية ولا الشقوة [ (2) ] ، وعادت قدما أبي بكر كأنهما صفوان.
وعمّى اللَّه على قريش خبرها فلم يدروا أين ذهبوا. وكان عامر بن فهيرة مولى أبي بكر يريح [ (3) ] عليهما غنمه، وكانت أسماء ابنة أبي بكر رضي اللَّه عنها تحمل لهما الزاد إلى الغار، وكان عبد اللَّه بن أبي بكر يتسمع لهما ما يقال عنهما بمكة ثم يأتيهما بذلك.
وجاءت قريش في طلبهما إلى ثور وما حوله، ومرّوا على باب الغار وحاذت أقدامهم رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم وأبا بكر رضي اللَّه عنه، وقد نسج العنكبوت وعششت حمامتان على باب الغار، وذلك تأويل قوله تعالى: إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُما فِي الْغارِ إِذْ يَقُولُ لِصاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْها [ (4) ] .
وبكى أبو بكر رضي اللَّه عنه وقال: يا رسول اللَّه، لو أن أحدهم نظر إلى موضع قدميه لرآنا. فقال له: يا أبا بكر ما ظنك باثنين اللَّه ثالثهما؟.
وعمّى اللَّه على قريش، وقد قفا [ (5) ] كرز بن علقمة بن هلال بن جريبة [ (6) ] بن عبد نهم [ (7) ] بن حليل بن حبشيّة أثر النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم حتى انتهى إلى الغار، فرأى عليه نسج العنكبوت، فقال: ها هنا انقطع الأثر، فلم يهتدوا إليهما، ورجعوا فنادوا بأعلى مكة وأسفلها: من قتل محمدا وأبا بكر فله مائة من الإبل.
ويقال: جعلوا لمن جاء بأحدهما أو قتله ديته، فلما مضت ثلاث لرسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم وأبي بكر وهما في الغار أتاهما دليلهما، وقد سكن الطلب عنهما ومعهما بعيرهما، فأخذ رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم أحدهما من أبي بكر رضي اللَّه عنه بالثمن، وقد
__________
[ (1) ] باب صغير كالنافذة.
[ (2) ] الحفية: المشي بغير نعل، والرّعية: أرض فيها حجارة ناتئة (المعجم الوسيط) ج 1 ص 356.
[ (3) ] يريح الإبل والغنم: يردها من العشي إلى مراحلها حيث تأوي ليلا.
[ (4) ] الآية 40/ التوبة.
[ (5) ] قفا الأثر: تتبعه.
[ (6) ] في (خ) «حرينة» .
[ (7) ] في (خ) «فهم» والتصويب من (ط) .
كان أبو بكر قد أعدّهما قبل ذلك، وأعد جهازه وجهاز رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم منتظرا متى يأذن اللَّه لرسوله في الخروج، وعلف ناقتيه أربعة أشهر، فركب رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم الجدعاء.
وروي في حديث مرسل أن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم قال: مكثت مع صاحبي في الغار بضعة عشر يوما، ما لنا طعام إلا البرير (يعني الأراك) ،
وخرجا من الغار سحر ليلة الاثنين لأربع خلون من ربيع الأول، وقيل: أول يوم منه، وقيل: كانت هجرته في صفر، وسنه صلّى اللَّه عليه وسلّم ثلاث وخمسون سنة على الصحيح، وقيل: خمس وخمسون، وقيل: خمسون، ومعهما سفرة أتت بها أسماء ابنة أبي بكر. وكان خروجه من الغار في الصبح، فصلى عليه السلام بأصحابه جماعة، فكان صلّى اللَّه عليه وسلّم أول من (جمع بالمسلمين في صلاة الفجر) [ (1) ] وساروا وقد أردف أبو بكر رضي اللَّه عنه عامر بن فهيرة، وسار عبد اللَّه بن أريقط أمامهما على راحلته حتى قالوا يوم الثلاثاء بقديد، وذلك بعد العقبة بشهرين وليال. وقال الحاكم [ (2) ] : بثلاثة أشهر أو قريبا منها، وقال الليث: حدثني عقيل عن ابن شهاب [ (3) ] أنه قال: كان بين ليلة العقبة وبين مهاجرة رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم ثلاثة أشهر أو قريب منها. كانت بيعة الأنصار رسول اللَّه ليلة العقبة في ذي الحجة، وكان عمره لما هاجر ثلاث وخمسون سنة.
,
ولقي أيضا أوس بن حجر الأسلمي، فحمله صلّى اللَّه عليه وسلّم على جمل وبعث معه غلاما له يقال مسعود (بن هنيدة) [ (1) ] ليؤديه إلى المدينة. ومرّ رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم بخيمتي أم معبد عاتكة بنت خالد بن خليف [ (2) ] بن منقذ بن ربيعة بن أصرم بن ضبيس بن حرام بن حبشية بن كعب بن عمرو وهو أبو خزاعة، فقال [ (3) ] عندها. وأراها اللَّه تعالى من آيات نبوته في الشاة- وحلبها لبنا كثيرا وهي حائل [ (4) ] في سنة مجدبة- ما بهر عقلها. ويقال: إنها ذبحت لهم شاة وطبختها فأكلوا منها، وسفّرتهم منها بما وسعته سفرتهم [ (5) ] وبقي عندها أكثر لحمها.
وقالت أم معبد: لقد بقيت الشاة التي مسح رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم ضرعها إلى عام الرمادة- وهي سنة ثماني عشرة من الهجرة- وكنا نحلبها صبوحا [ (6) ] وغبوقا، وما في الأرض قليل ولا كثير [ (7) ] .
__________
[ (1) ] زيادة من (ابن هشام) ج 2 ص 98.
[ (2) ] في (خ) «خفيف» ، وذكر ابن حجر في ترجمة أخيها «حبيش» رقم 1603 ج 2 ص 210 «ابن خالد بن سعد منقذ بن ربيعة» .
[ (3) ] من القيلولة، وهي النوم نصف النهار.
[ (4) ] في (خ) «حافل» وهو خطأ، والحائل التي لم تحمل سنتين فجفّ لبنها.
[ (5) ] السّفرة: طعام يصنع للمسافر وما يحمل فيه هذا الطعام (المعجم الوسيط) ج 1 ص 433.
[ (6) ] الصّبوح: شراب الصباح (المعجم الوسيط) ج 1 ص 505.
والغبوق: ما يشرب بالعشي وما يحلب بالعشي (المرجع السابق) ج 2 ص 643.
[ (7) ] وذكر أبو نعيم في (دلائل النبوّة) ج 2 ص 337، حديث رقم 238:
حدثنا سليمان بن أحمد حدثنا على بن عبد العزيز، وحدثنا أبي قال: حدثنا محمد بن محمد بن عقبة الشيبانيّ، ومحمد بن موسى الحلواني، وحدثنا أبو حامد بن جبلة، حدثنا محمد بن إسحاق السراج قال:
حدثنا مكرم بن محرز الكعبي الخزاعي، قال: حدثني أبي محرز بن مهدي، عن هشام عن أبيه هشام، عن جده حبيش بن خالد صاحب رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم:
أن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم حين خرج من مكة، خرج منها مهاجرا هو وأبو بكر، ومولى أبي بكر عامر ابن فهيرة، ودليلهم الليثي عبد اللَّه بن أريقط، فمروا على خيمتي أم معبد الخزاعية، وكانت برزة جلدة تحتبي بفناء القبة، ثم تسقي وتطعم، فسألوها لحما وتمرا ليشتروا منها، فلم يصيبوا عندها شيئا من ذلك، وكان القوم مرملين مسنتين،
فنظر رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم إلى شاة في كسر الخيمة، فقال: ما هذه الشاة يا أم معبد؟ قالت: شاة خلّفها الجهد عن الغنم، قال: بها من لبن؟ قالت: هي أجهد من ذلك، قال: أفتأذنين لي أن أحلبها؟ قالت: بأبي أنت وأمي، نعم، إن رأيت بها حلبا فاحلبها.
__________
[ () ] فدعا رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم فمسح ضرعها بيده، وسمى اللَّه عزّ وجلّ، ودعا لها في شاتها، فتفاجّت عليه، ودرّت، واجترّت، فدعا بإناء يريض الرّهط، فحلب فيها ثجا، حتى علاه البهاء، ثم سقاها حتى رويت، وسقي أصحابه حتى رووا، ثم شرب آخرهم صلّى اللَّه عليه وسلّم ثم أراضوا.
ثم حلب ثانيا بعد بدء، حتى ملأ الإناء، ثم غادره عندها وبايعها، ثم ارتحلوا عنها، فقال: ما لبثت إذ جاء زوجها أبو معبد يسوق أعنزا عجافا يتساوكن هزلا، مخّهنّ قليل، فلما رأى أبو معبد اللبن عجب وقال: من أين لك هذا؟ والشاة عازب حائل، ولا حلوبة في البيت، قالت: لا واللَّه، إلا أنه مرّ بنا رجل مبارك، من حاله كذا وكذا، فقال: صفيه لي يا أمّ معبد، قالت: رأيت رجلا ظاهر الوضاءة، حسن الخلق، لم تعبه ثجلة، ولم تزر به صعلة، وسيم قسيم، في عينيه دعج، وفي أشفاره عطف، وفي صوته صهل، وفي عنقه سطح، وفي لحيته كثافة، أزجّ أقرن، إن صمت فعليه الوقار، وإن تكلم سماه وعلاه البهاء، أجمل الناس وأبهاهم من بعيد، وأحلاه وأحسنه من قريب، حلو المنطق، فصل لا نذر ولا هذر، كأن منطقه خرزات نظم تحدّرن، ربعة، لا بائن من طول، ولا تقتحمه عين من قصر، غصن بين غصنين، هو انظر الثلاثة منظرا، وأحسنهم قدرا، له رفقاء يحفون به، إن قال أنصتوا لقوله، وإن أمر تبادروا إلى أمره، محفود محشود، لا عابس ولا معتد.
قال أبو معبد: هو واللَّه صاحب قريش الّذي ذكر لنا من أمره ما ذكر بمكة، ولقد هممت أن أصحبه، ولأفعلن إن وجدت إلى ذلك سبيلا. فأصبح صوت بمكة عاليا، يسمعون ولا يدرون من صاحبه:
جزى اللَّه ربّ الناس خير جزائه ... رفيقين قالا خيمتي أم معبد
هما نزلا بالهدى واهتدت به ... فقد فاز من أمسى رفيق محمد
فيال قصيّ ما زوى اللَّه عنهم ... به من فعال لا تجازي وسؤدد
ليهن بني كعب مقام فتاتهم ... ومقعدها للمؤمنين بمرصد
سلوا أختكم عن شاتها وإنائها ... فإنكم إن تسألوا الشاة تشهد
دعاها بشاة حائل فتحلّبت ... عليه صريحا صرة الشاة مزبد
فغادرها رهنا لديها لحالب ... يردد في مصدر ثم مورد
فلما سمع حسّان بن ثابت الأنصاري الهاتف، شبّ يجاوب الهاتف وهو يقول:
لقد خاب قوم زال عنهم نبيّهم ... وقدّس من يسري إليه ويغتدي
ترحّل عن قوم فضلّت عقولهم ... وحلّ على قوم بنور مجدد
هداهم بعد الضلالة ربّهم ... فأرشدهم، ومن يتبع الحق يرشد
وهل يستوي ضلّال قوم تسفّهوا ... عمايتهم، هاد به كل مهتدي
وقد نزلت منه على أهل يثرب ... ركاب هدى حلّت عليهم بأسعد
نبي يرى ما يرى الناس حوله ... ويتلو كتاب اللَّه في كلّ مسجد
وإن قال في يوم مقالة غائب ... فتصديقها في اليوم أو في ضحى الغد
ليهن أبا بكر سعادة جدّه ... بصحبته، من يسعد اللَّه يسعد
ليهن بني كعب مقام فتاتهم ... ومقعدها للمؤمنين بمرصد
والأبيات باختلاف يسير في (ديوان حسان) ص 376- 377.
__________
[ () ] قال أبو أحمد بن بشر بن محمد: حدثنا عبد بن وهب قال: بلغني أن أم معبد هاجرت وأسلمت ولحقت برسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، ورواه أبو أمية محمد بن إبراهيم بن بشر بن محمد مثله:
شرح غريب هذا الحديث:
البرزة من النساء: الجلدة، تظهر للناس ويجلس إليها القوم.
مرملين مسنتين: المرمل: الّذي قد نفد زاده، والمسنتين: هم الذين أصابتهم السّنة، وهي المجاعة.
قال أبو عبيد: إذا قال: يال فلان: فذلك في الاستغاثة بالفتح، ويال المسلمين، وإذا أراد التعجب والنداء قال: يال فلان بالكسرة.
كسر الخيمة: هو مؤخرها، وفيه لغتان: كسر وكسر، وقال بعضهم: الكسر هو في مقدمة الخيمة.
فتفاجّت عليه: فرّجت رجليها كما تفعل التي تحلب.
بريض الرهط: أي ينهنههم مما يجتريهم لكثرته إذا شربوه.
فحلب فيها ثجّا: يعني سيلا، وكذلك كل سيل، ومنه
قوله صلّى اللَّه عليه وسلّم وقد سئل عن الحج فقال: العجّ والثّجّ، فالعجّ: رفع الصوت بالتلبية، والثجّ سيل دماء الهدي.
أراضوا: أصل هذا في صبّ اللبن على اللبن، والمعنى: شرب لبن صبّ على لبن.
غادره عندها: تركه.
يسوق أعنزا تساوكن هزلا: التّساوك المشي الضعيف.
والشاة عازب: يعني قد عزبن عن البيت فخرجن إلى المرعى:
الحيّل: التي ليست بحوامل، جمع حائل.
ظاهر الوضاءة: يعني الجمال، والوضيء: الجميل.
والمتبلّج الوجه: الّذي فيه إضاءة ونور.
لم تعبه ثجلة: معناه عظم البطن، تقول: فليس هو كذلك.
لم تزر به صعلة: تريد صغر الرأس، يقال: رجل صعل.
وسيم قسيم: كلاهما هو الجمال.
في عينيه دعج: هو سواد الحدقة، يقال: رجل أدعج وامرأة دعجاء.
في أشفاره عطف: وكذلك كل مستطيل مسترسل.
في صوته صهل: وهو شبيه بالبحح، وليس بالشديد منه، ولكنه حسن، وبذلك توصف الظباء.
في عنقه سطع: هو الطول، يقال منه: رجل أسطع وامرأة سطعاء، وهذا مما يمدح به الناس.
والأزجّ: هو المقوس الحاجبين، وأما الأقرن: فهو الّذي التقى حاجباه بين عينيه.
منطقه لا نزر ولا هذر: فالنزر: القليل، والهذر: الكثير، تقول قصد بين ذلك.
لا تقتحمه عين من قصر: تقول: لا تزدريه فتنبذه، ولكن تقبله وتهابه.
محفود محشود: فالمحفود: المخدوم، قال تعالى: بَنِينَ وَحَفَدَةً، ومحشود: هو الّذي قد حشده أصحابه، وحفّوا حوله، وأطافوا به صلّى اللَّه عليه وسلّم.
وهذا الحديث أخرجه الحاكم في (المستدرك) 3/ 9، من طرق كلها عن حزام بن هشام بسنده وقال:
هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه، ثم ذكر ما يستدل به على صحته وصدق رواته.
,
وكان المهاجرون قد استبطئوا قدوم رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، وبلغ الأنصار مخرجه من مكة وقصده إياهم، وكانوا كل يوم يخرجون إلى الحرة ينتظرونه فإذا اشتد الحر عليهم رجعوا، فلما كان يوم الاثنين- الثاني عشر من ربيع الأول على رأس ثلاث عشرة سنة من المبعث- وافى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم المدينة حين اشتد الضّحاء [ (1) ] ، ونزل إلى جانب الحرة وقد عاد المهاجرون والأنصار بعد ما انتظروه على عادتهم.
فكان بين المبعث إلى أول يوم من المحرم الّذي كانت الهجرة بعده اثنتا عشرة سنة وتسعة أشهر وعشرون يوما، وذلك ثلاث وخمسون سنة تامة من أول عام الفيل.
وقيل: قدم صلّى اللَّه عليه وسلّم يوم الاثنين الثامن من ربيع الأول، وقيل: خرج من الغار يوم الاثنين أول يوم من ربيع الأول ودخل المدينة يوم الجمعة لثنتى عشرة منه حين اشتد الضحاء، وقيل: دخل لهلال ربيع الأول، وقيل: يوم الاثنين لليلتين خلتا منه، وقال ابن شهاب للنصف منه، وذلك سنة أربع وخمسين من عام الفيل، وهو اليوم العشرون من أيلول سنة ثلاث وثلاثين وتسعمائة للإسكندر الأكبر (وهو الرابع من تير ماه) [ (2) ] .
,
وقيل: أقام صلّى اللَّه عليه وسلّم بمكة بعد المبعث عشر سنين، منها خمس سنين يخفي ما جاء به، وخمس سنين يعلن بالدعاء إلى اللَّه تعالى. وقيل: بعث وله خمس وأربعون سنة فأقام بمكة عشرا وبالمدينة ثمانيا، وتوفي وهو ابن ثلاث وستين، وهذا قول شاذ.
ولم يختلفوا أنه بعث على رأس أربعين سنة من عمره، وأنه أقام بالمدينة بعد الهجرة عشر سنين، وإنما اختلفوا في إقامته بمكة بعد ما أوحي إليه، وأصح ذلك ما رواه سعيد بن جبير، وعكرمة، وعمرو بن دينار، وأبو جمرة نصر بن عمران الضبعي، عن ابن عباس أنه قال: مكث رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم ثلاث عشرة سنة [ (3) ] ، ووافق ذلك ما رواه على بن الحسين عن أبيه عن عليّ مثل ذلك، فإن أصح ما قيل: أنه توفي وهو ابن ثلاث وستين سنة.
__________
[ (1) ] الضحاء: يرتفع النهار ويشتد وقد الشمس.
[ (2) ] كذا في (خ) ولم أجدها فيما عندي من مراجع.
[ (3) ] تاريخ الطبري ج 2 ص 387.
,
وكان أول من بصر برسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم رجل من يهود كان على سطح أطم [ (1) ] له فنادى بأعلى صوته: يا بني قيلة [ (2) ] ، هذا جدكم الّذي تنتظرون، فخرج الأنصار بالمهاجرين في سلاحهم، فلقوه وهو مع أبي بكر في ظل نخلة، وحيّوا رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم بتحية النبوة وقالوا: اركبا آمنين، فركب رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم [ (3) ] وأبو بكر رضي اللَّه عنه وحفوا حولهما بالسلاح، فقيل في المدينة: جاء نبيّ اللَّه فاستشرفوا [ (4) ] نبي اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم ينظرون إليه، وأقبل يسير حتى نزل على أبي القيس (كلثوم) بن الهدم بن امرئ القيس بن الحارث بن زيد بن عبيد بن زيد بن مالك ابن عوف بن عمرو بن عوف بن مالك بن الأوس الأنصاري، وقيل: بل نزل على سعد بن خيثمة، والأول أثبت.
فجاء المسلمون يسلمون عليه وأكثرهم لم يره بعد، فكان بعضهم يظنه أبا بكر. حتى قام أبو بكر رضي اللَّه عنه حين اشتد الحر يظلل على رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم بثوب، فتحقق الناس حينئذ رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم.